خلافًا لتوقعات كثيرة ومتداوَلة كانت تشير إلى احتمال إلغاء الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” زيارتَه المقررة لواشنطن في الثالث عشر من الشهر الجاري؛ أعلن “أردوغان” التزامه بإتمام الزيارة، رغم اتهامه واشنطن بعدم التزامها بالاتفاق الذي توصلت إليه معه في منتصف أغسطس الماضي حول حدود المنطقة العازلة التي سعت تركيا لإنشائها دخل الأراضي السورية بحجة منع الأكراد السوريين من تأسيس دولة لهم هناك، أو الاستمرار في تهديد الأمن القومي التركي عبر بقاء قوات حماية الشعب التابعة للأكراد في مواقعها على الحدود السورية-التركية.
لماذا ابتلع “أردوغان” كل الإجراءات والإهانات التي اتخذتها أو وجهتها الولايات المتحدة ضده وإليه، وقبل دعوة “ترامب”؛ بدءًا من رفضها (أي واشنطن) تسليم المعارض التركي “فتح الله جولن” لتركيا التي تتهمه بتدبير الانقلاب الفاشل على “أردوغان” في عام 2016، ومرورًا باستمرار بعض العقوبات المفروضة عليها منذ أكثر من عامين، بل وتوجيه “ترامب” إهانة شخصية للرئيس التركي عندما طالبه في منتصف أكتوبر الماضي بألا يكون “أحمق” في إدارة وتوسيع عمليات جيشه في شمال سوريا، وانتهاء بقرار مجلس النواب الأمريكي بالاعتراف بمذابح الأتراك ضد الأرمن التي وقعت خلال الحرب العالمية الأولى؟
الجوانب العميقة لأزمة العلاقات بين الجانبين
رغم أن “أردوغان” كان قد صرح في السابع من الشهر الجاري بأن هدف زيارته هو مناقشة الأزمة السورية، ومدى التزام واشنطن بما اتفقت عليه مع تركيا في أغسطس الماضي بشأن هذا الملف؛ إلا أن هناك العديد من القضايا الأخرى قد تفرض نفسها على محادثات “ترامب” و”أردوغان”. وقد سبق أن حددت صحيفة “الواشنطن بوست” في ١٥ أكتوبر الماضي خمسة موضوعات تشكل جوهر الخلافات العميقة بين واشنطن وأنقرة، ويفترض أنها ستكون على جدول أعمال “أردوغان” أثناء زيارته لواشنطن، هي:
١- وضع تركيا داخل حلف الناتو في ظل غضب الحلف من إقدام تركيا على شراء منظومة الصواريخ الروسية S-400، ونشوب نقاش جاد حول مدى إمكانية استمرارها فيه، وأيضًا في ظل اتهام تركيا للحلف بعدم الوقوف معها وهي تواجه خطرًا على أمنها القومي (غزوها لشمال سوريا، وتوجيه أعضاء في الحلف انتقادات حادة لها على هذه الخطوة).
٢- استمرار دعم الولايات المتحدة للأكراد ووحدات حماية الشعب الكردية في سوريا.
٣- معارضة البنتاجون لاستمرار إشراك تركيا في تصنيع الطائرة المتقدمة F-35، بعد إصرارها على شراء منظومة الصواريخ الروسية S-400.
٤- مستقبل السلاح النووي الذي يخزنه الناتو في قواعد داخل تركيا، وهناك تخوف أمريكي من احتمال رفض تركيا التخلي عن هذا المخزون حال طلب الناتو ذلك، أو حال خروج تركيا من الحلف رسميًّا.
٥- استمرار فرض العقوبات على تركيا.
فيما يتعلق بعلاقة تركيا بحلف الناتو، يبدو أن الطرفين قد باتا على اقتناع بأن الانفصال بينهما قادم لا محالة، فرغم عدم صدور أي تعليق رسمي من جانب الحلف على الغزو التركي لشمال سوريا؛ إلا أن هناك بلدانًا مهمة داخل الحلف انتقدت الغزو، مثل فرنسا وهولندا وبتشجيع غير مباشر من ألمانيا. وفي المقابل، هاجم “أردوغان” الحلف، واتهمه بأنه يتحيز ضد تركيا بصفتها الدولة الإسلامية الوحيدة التي تتمتع بعضويته. أيضًا شكلت قضية تعاقد تركيا على صفقة S-400 أزمة أخرى مع الحلف الذي أوضحت مصادر من داخله في يوليو الماضي (بيانات غير رسمية) شعوره بالقلق إزاء التداعيات المحتملة لقرار تركيا حيازة منظومة إس-400. أما وجهة النظر الأمريكية فيما يتعلق باستمرار تركيا في الحلف من عدمه، فلا تبدو أنها تحظى باهتمام حقيقي، سواء لأن واشنطن تدرك أن “أردوغان” ليس جادًّا في القطع التام معها ومع التحالف الغربي الذي تقوده، أو لأن البنتاجون به أصوات ترى أن انسحاب تركيا من الحلف لن يؤثر على استراتيجية الحلف أو المصالح الأمنية الأمريكية، بسبب وجود بدائل متاحة لنقل القواعد العسكرية من تركيا إلى دول أخرى مثل بولندا وبلغاريا، إلى جانب إمكانية توسيع قواعد الحلف في اليونان العضو فيه أصلًا.
وفيما يتعلق باحتجاج تركيا على أن واشنطن ما تزال تدعم وحدات حماية الشعب الكردية؛ فإن الرئيس “ترامب” الذي اشترط على “أردوغان” ألا تؤدي عمليات جيشه المشتركة مع الميليشيات المسلحة المعادية لنظام الرئيس “بشار الأسد” إلى سقوط ضحايا مدنيين أو التورط في عمليات تطهير عرقي واسعة النطاق في الشمال السوري، وهي اشتراطات تعني عمليًّا منع تركيا من تحقيق هدفها الرئيسي، وهو إبعاد الأكراد عن الحدود معها، وإحلال لاجئين سوريين عرب محلهم. ويدرك “أردوغان” أن “ترامب” لن يكون بوسعه إعطاءه مزيدًا من الحرية في عملياته العسكرية بسبب تزايد انتقادات الرأي العام الأمريكي لسياسته واتهامه لترامب بأنه يُهدر القيم الأمريكية بتركه حليفًا برهن على فائدته وصدقه في محاربة تنظيم “داعش” ليتعرض للمذابح على يد حاكم فاسد ومستبد مثل “أردوغان”. كذلك يصعب على “ترامب” مجاراة رغبات “أردوغان” العدائية ضد الأكراد، بسبب الضغوط التي يمارسها الديمقراطيون عليه، في وقت تقترب فيه معركتهم (أي الديمقراطيون) مع “ترامب”، سواء لعزله من منصبه أو للتأثير على فرصته للفوز بولاية ثانية في الانتخابات المقبلة عام 2020، خاصة مع تصريح رئيسة مجلس النواب “نانسي بيلوسي” وزعيمة الديمقراطيين بقولها: “يجب أن تكون لدينا حزمة عقوبات ضد تركيا أقوى مما يقترحه البيت الأبيض”. فيما أوضح آخرون من الحزب الديمقراطي أن إدارة “ترامب” يمكن أن تسبب الكثير من الألم الاقتصادي لتركيا، عن طريق الحد من قدرتها على الوصول إلى النظام المالي الدولي، والحد من مبيعات الأسلحة، ومطاردة قطاعات حساسة مثل الطاقة.
وفيما يتعلق بالملف الثالث وهو استمرار معارضة البنتاجون لإعادة تركيا إلى المساهمة في مشروع إنتاج المقاتلة الأمريكية F-35، أو تزويدها بها، حتى لو لم تساهم في تصنيع بعض أجزائها كما كان الوضع سابقًا، فرغم أن الرئيس “ترامب” التمس العذر لتركيا حينما اشترت منظومة S- 400 بحجة أنها اضطرت لذلك بسبب رفض البنتاجون بيع منظومة صواريخ باتريوت إليها، وأن من مصلحة واشنطن الفوز بصفقات تسليح مع أنقرة بدلًا من أن تذهب لشرائها من روسيا؛ إلا أن “ترامب” لا يريد أن يُغضب البنتاجون الذي ما يزال يدعمه في مواجهة محاولات الديمقراطيين في الكونجرس عزله، وفي ظل إصراره (أي البنتاجون) على معاقبة “أردوغان” على تقاربه مع روسيا وتهديده مصالح واشنطن وحلف الناتو.
وفي الملف الرابع الذي ذكرته “الواشنطن بوست” يأتي مستقبل السلاح النووي الذي تخزنه الولايات المتحدة الأمريكية في القواعد العسكرية التابعة لها ولحلف الناتو في تركيا، فتصريحات “أردوغان” الأخيرة عن حق بلاده في الحصول على البديل النووي، يحمل تلميحًا إلى أن تركيا يمكنها أن تنسحب من الناتو وأن تستغني عن الغطاء النووي الغربي لها والمستمر منذ بدايات الحرب الباردة في الخمسينيات إلى ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتفكك حلف وارسو في مطلع التسعينيات، حيث تعتقد تركيا -التي تحسنت علاقتها بروسيا في العامين الأخيرين- أن الخطر الذي كان الاتحاد السوفيتي سابقًا وروسيا حاليًّا تمثّله على أمنها لم يعد قائمًا، وبالتالي فإن المظلة النووية الغربية ليست حيوية للأمن القومي التركي، وأنه من الأفضل لتركيا أن تحصل على الردع النووي الخاص بها في مواجهة من يحاولون منع تركيا من التحول إلى قوة عظمى إقليمية، سواء الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة أو حتى روسيا نفسها مستقبلًا. ومما لا شك فيه أن “أردوغان” سيسعى إلى اللعب بهذه الورقة بشكل واسع في ظل يقينه من رغبة واشنطن في الحد من الانتشار النووي في الشرق الأوسط، وعدم منح الفرصة لأية دولة للسير خلف النموذجين الكوري الشمالي والإيراني اللذين فشلت واشنطن في مواجهتهما حتى الآن. كما يدرك “أردوغان” أيضًا أن اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة يمكن أن يضغط على “ترامب” وعلى الكونجرس لتقليل الإجراءات العقابية ضد تركيا، خوفًا من أن يشكل السعي التركي نحو البديل النووي إلى زيادة المخاطر الأمنية على إسرائيل مستقبلًا لوجود دولتين منافستين (إيران وتركيا) يمكن أن تمتلكا السلاح النووي بجانب امتلاكهما طموحَ التحول إلى قوى إقليمية عظمى على حساب إسرائيل وربما حتى في مواجهتها، ناهيك عن أن سعي تركيا لحيازة سلاح نووي سيزيد حتمًا من فرص دخول دول أخرى في المنطقة إلى نفس السباق، الأمر الذي يعني تعاظم التهديدات الوجودية للدولة العبرية مستقبلًا وبشكل أكثر حدة.
يبقى الملف الخامس والأخير المتعلق باستمرار بعض العقوبات الأمريكية والأوروبية على تركيا بالرغم من وعود الرئيس “ترامب” بالعمل على إسقاطها. ومن المعروف أن منظومة العقوبات تلك تتسم بالتنوع والتعقيد، حيث تتولى مؤسسات مختلفة في الولايات المتحدة فرضها تحت مبررات محددة، وبالتالي فإن إزالة كافة العقوبات الموقعة على تركيا يبدو أمرًا صعبًا أو حتى مستحيلًا. فعلى سبيل المثال، يمكن لـ”ترامب” أن يُسقط بعض العقوبات التي استهدفت تركيا عقابًا لها على التوسع في غزوها للأراضي السورية طالما ظلت تركيا ملتزمة بعدم توسيع حدود المنطقة العازلة هناك، ولكن العقوبات التي فرضها الكونجرس أو سيفرضها مستقبلًا عقابًا لتركيا في ملف حقوق الإنسان، أو بسبب خروجها على ميثاق الناتو، وأيضًا العقوبات التي فرضها البنتاجون على أنقرة بسبب صفقة S-400؛ هذه العقوبات لا يتحكم الرئيس “ترامب” في مصيرها جميعًا، سواء بالإبقاء عليها أو إلغائها، وبالتالي فإن ملف العقوبات سيكون الملف الأقوى الذي لا يمكن للإدارة الأمريكية التفريط فيه لأجل ردع تركيا ومنعها من الإيغال في تحديها، خاصة في ظل المشكلات التي يعانيها الاقتصاد التركي في السنوات الأخيرة.
مما تقدم، يمكن استنتاج أن “أردوغان” بقبوله إتمام الزيارة إلى واشنطن رغم أن التوقعات كانت تشير إلى قيامه بإلغائها، بعد إهانة “ترامب” الشخصية له، وبعد تنصل واشنطن من التوافق الذي توصلت إليه معه في أغسطس الماضي حول المنطقة العازلة في سوريا؛ يمكن استنتاج أن “أردوغان” ربما لا يتمكن من حلحلة الموقف الأمريكي من مسألة المنطقة العازلة، ولكنه سيسعى على الأقل إلى وقف التدهور في علاقته بواشنطن، لأنه إذا كان البنتاجون والكونجرس أكثر رغبة في معاقبته والحد من طموحاته، فعلى الأقل يجب الحفاظ على العلاقة الوحيدة غير السيئة بشكل كبير مع البيت الأبيض، على غرار ما فعله رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، ولكن على نحو معكوس من عام 2015، عندما وجد “نتنياهو” أن البيت الأبيض في ظل إدارة الرئيس “أوباما” مصمم على عقد الاتفاق النووي مع إيران، فتوجه لموازنة هذه الخطوة من جانب “أوباما” نحو الكونجرس لمخاطبته وتبصيره بعواقب توقيع مثل هذا الاتفاق. وبالمثل يدرك “أردوغان” أنه يحتاج دعم البيت الأبيض له، طالما أن الكونجرس والبنتاجون في حالة تأهب لتشديد العقوبات ضده، وطالما أن “أردوغان” نفسه لا يزال غير قادر على اتخاذ قرار حاسم بتغيير وجهته من التحالف مع الغرب إلى التحالف مع روسيا، ربما لإدراكه أن اللعب على هامش المناورة بين الدولتين العظميين، وإن كان لا يكفل لتركيا تحقيق طموحاتها بالكامل، إلا أنه أقل مغامرة من وضع كافة أوراقه في سلة إحداهما فقط.