تخوض نيجيريا منذ عشر سنوات حربًا شرسةً ضد التنظيمات الإرهابية المتمركزة في شمال شرق البلاد، وهي الحرب التي سقط فيها أكثر من 30 ألف قتيل، ودفعت أكثر من مليوني نيجيري للنزوح خارج قراهم الأصلية بعد أن ضربها الإرهاب.
وعلى الرغم من أن الرئيس النيجيري “محمد بخاري” سبق وأعلن أكثر من مرة أن التنظيمات الإرهابية قد هُزمت “من الناحية الفعلية”؛ إلا أن العديد من المؤشرات التي بدأت في التواتر منذ بداية العام شككت كثيرًا في إمكانية الوصول لهذا الحكم القاطع في الوقت الراهن.
فالعديد من المصادر تشير إلى ارتفاع حجم الخسائر بين القوات المسئولة عن مكافحة الإرهاب ليبلغ في الأشهر الأخيرة مستويات مقاربة لتلك التي كان عليها خلال ذروة الصراع بين عامي 2014 و2015. من ناحية أخرى، حققت التنظيمات الإرهابية تقدمًا ملحوظًا من خلال السيطرة شبه الكاملة على عدد من المناطق المهمة، خاصة في ولاية بورنو عبر إقامة معسكرات كبيرة في مواقع مهمة من بينها معسكر رئيسي على بعد خمسة أميال فقط من مدينة مايدوجوري Maiduguri عاصمة الولاية. هذا التطور الأخير في نشاط التنظيمات الإرهابية أكده اعتراف قيادة الجيش النيجيري بتصاعد وتيرة الهجمات الإرهابية منذ نوفمبر 2018، وهو ما تبعه الإعلان عن تطور نوعي آخر تمثل في رصد طائرات مسيّرة تستخدمها التنظيمات الإرهابية في أعمال المراقبة والدعم في أكثر من مناسبة.
وأمام هذه الموجة الجديدة من تصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية في نيجيريا، رفعت الحكومة النيجيرية المخصصات المالية لأنشطة مكافحة الإرهاب لتبلغ 80 مليون دولار أمريكي فصليًّا، أي ما يمكن أن يصل إلى 320 مليون دولار سنويًّا. كما أصبحت السلطات النيجيرية أكثر تشددًا في مراقبة وضبط نشاط منظمات المجتمع المدني في نطاق المدن والقرى الخاضعة لسيطرة التنظيمات الإرهابية، الأمر الذي أسفر عن حظر نشاط بعض هذه المنظمات بعدما لاحظت السلطات النيجيرية قيامها بتقديم مساعدات غذائية وطبية للإرهابيين أنفسهم.
ومع تصاعد وتيرة الهجمات الإرهابية في الشهور الأخيرة، لم تعد الإجراءات الاعتيادية وحدها كافية لمواجهة الموجة الجديدة للإرهاب، الأمر الذي دفع السلطات النيجيرية للإعلان عن تبنيها استراتيجية جديدة لمكافحة الإرهاب، تكشفت أبعادها تدريجيًّا في الأشهر الثلاثة الأخيرة، والتي تمثلت بالأساس في تعديل نمط انتشار وتمركز قوات مكافحة الإرهاب في شمال شرق البلاد، واستحداث نظام للكشف عن هوية المواطنين للتمييز بين السكان المحليين والإرهابيين، وتفويض سلطات الولايات في تشكيل مجموعات مسلحة منظمة من الأهالي تقدم الدعم للقوات الرسمية في عمليات مكافحة الإرهاب.
المعسكرات الفائقة
مثّل أغسطس الماضي نقطة تحول في مسيرة مكافحة الإرهاب في نيجيريا، حين قام إرهابيون بدخول مدينتي جويبو Guibo وماجوميري Magumeri المهمتين القريبتين من مدينة مايدوجوري عاصمة ولاية بورنو. وخلال الهجوم قام مقاتلو التنظيم بالإغارة على عددٍ من المواقع في المدينة شملت مباني حكومية وأخرى أهلية قبل الانسحاب للاختباء في الغابات المحيطة بعد ساعات طويلة قضاها المقاتلون في المدينة من دون أي استجابة تذكر من جانب قوات مكافحة الإرهاب.
ولم يكن انسحاب القوات الرسمية النيجيرية من المدينتين من قبيل المصادفة أو الخطأ غير المقصود، وإنما كان جزءًا من سياسة شرعت قوات مكافحة الإرهاب النيجيرية في تنفيذها حملت اسم سياسة “المعسكرات الفائقة” Super Camp Strategy، وهي الاستراتيجية التي طُبقت من أجل معالجة مشكلات عجز قوات مكافحة الإرهاب من الجيش والشرطة عن الدفاع عن تمركزاتها داخل المدن والقرى وعلى الطرق الرئيسية والفرعية بالصورة الملائمة، حيث أصبحت هذه القوات تشكل أهدافًا أساسية للتنظيمات الإرهابية خاصة في المناطق الداخلية الريفية التي تتمتع فيها التنظيمات الإرهابية بقدر كبير من حرية الحركة في ظل تغلغلها بين المكونات السكانية لهذه القرى.
وتقوم الاستراتيجية الجديدة التي أعلنها الرئيس “محمد بخاري” في يوليو الماضي على سحب العديد من القوات الرسمية المنخرطة في جهود مكافحة الإرهاب من الانتشار في المدن الصغيرة والقرى، على أن يتم تركيز القوات في معسكرات رئيسية تتمتع بطاقة استيعابية كبيرة، وتشكل نقاطًا حصينة يسهل الدفاع عنها ضد أي هجوم إرهابي، وتنطلق منها حملات على قدر كبير من الاستعداد والتجهيز لمهاجمة تجمعات الإرهابيين من حين لآخر.
وعلى الرغم من أن هذه الاستراتيجية حققت أحد أهدافها المباشرة في الحد من الخسائر البشرية والمادية في قوات مكافحة الإرهاب؛ إلا أن وجهها السلبي تمثّل فيما نقلته مصادر عن بعض السياسيين النيجيريين من أنها أقرت بواقع خضوع بعض المناطق في شمال شرق البلاد لسيطرة التنظيمات الإرهابية التي اكتسبت المزيد من حرية الحركة فيها، بحيث أصبحت التقديرات الأولية تشير لخضوع أكثر من 100 ألف نيجيري للسيطرة المباشرة للتنظيمات الإرهابية.
وإذا كانت المقايضة الضمنية في الاستراتيجية الجديدة قد أثبتت قدرًا من الفاعلية في الوقت الراهن؛ إلا أنها تحمل العديد من مصادر التهديد المستقبلي، ذلك أن ترك التنظيمات الإرهابية تعمل بحرية في بعض المناطق سيسمح لها بالتأكيد بتجنيد المزيد من المقاتلين، وتعبئة المزيد من القدرات المالية والعتاد اللازم لتصعيد النشاط في المستقبل، فضلًا عن أن السماح بهذه السيطرة ولو لبعض الوقت سيُعرّض المجتمعات المحلية لخطر داهم بتركها عرضة للممارسات العنيفة للتنظيمات الإرهابية والتي تتم على مستوى يومي.
نظام تحديد الهوية
من بين المشكلات الرئيسية التي واجهتها قوات مكافحة الإرهاب صعوبة الكشف عن الإرهابيين أو إلقاء القبض عليهم نتيجة اختفائهم داخل التجمعات السكانية وتغلغلهم في البنية المجتمعية في مدن وقرى شمال شرق نيجيريا، الأمر الذي سعت الحكومة النيجيرية لمواجهته في سبتمبر الماضي حين أعلنت إلزامها كل سكان ولايات شمال شرق نيجيريا باستصدار بطاقات هوية سيتعين على كل مواطن إبرازها لرجال الأمن عند المرور بالحواجز الأمنية المنتشرة في عموم المنطقة، وهو الأمر الذي يمثل خطوة كبرى في ظل عدم وجود أي نظام موحد لبطاقات الهوية التعريفية في نيجيريا، وفي ظل ما تشير إليه العديد من التقارير من أن أكثر من نصف سكان نيجيريا لا يحملون أي بطاقات هوية على الإطلاق.
وفي الوقت الذي رأت فيه بعض الأصوات المحلية أن هذا الإجراء من شأنه التضييق على مواطني شمال شرق البلاد، جاء الرد الحكومي حاسمًا، مؤكدًا أن إصدار بطاقات الهوية الجديدة من شأنه التمييز بين السكان المحليين وبين الإرهابيين، كما أن من شأنه تبسيط إجراءات الكشف الدوري التي تجري في عدد من الحواجز الأمنية التي تقيمها قوات مكافحة الإرهاب ومن بينها حاجز جيوا Giwa بالقرب من مدينة مايدوجوري الذي يحمل الكثير من المواطنين المحليين عنه تصورات سلبية مع ما يُشاع عن تعرضهم للاحتجاز العشوائي لفترات طويلة بغرض التحقق من هوياتهم والتثبت من عدم وجود صلة بينهم وبين التنظيمات الإرهابية. ولنفي أي شبهة للتمييز ضد سكان الشمال الشرقي، أعلنت الحكومة النيجيرية أن نظام بطاقات الهوية الجديد سيتم تعميمه على مختلف ولايات البلاد في مطلع نوفمبر الجاري.
الميليشيات الأهلية
مع تصاعد الموجة الإرهابية الأخيرة في شمال نيجيريا، بدت بعض الحلول غير التقليدية مناسبة في الوقت الراهن، ومن بين هذه الحلول تطوير مستوى انخراط الأهالي في المناطق المتضررة من الإرهاب في جهود مكافحته. ففي السنوات الماضية كانت القوات الرسمية تحث الأهالي على تقديم أشكال متعددة من الدعم لجهود مكافحة الإرهاب من خلال الامتناع عن مساعدة الإرهابيين، أو الحرص على تقديم المعلومات بشأنهم للسلطات المختصة. لكن منذ تصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية عام 2014 بدأت مجموعات صغيرة من الأهالي المسلحين في المشاركة بصورة محدودة في جهود مكافحة الإرهاب في بعض مدن الشمال النيجيري.
ومنذ أكتوبر الماضي اكتسبت الظاهرة طابعًا مغايرًا يقوم بالأساس على رعاية المؤسسات الرسمية لمجموعات الأهالي المسلحين، على غرار الدور الذي يقوم به باباجانا زولوم Babagana Zulum حاكم ولاية بورنو إحدى أكثر الولايات تضررًا من الإرهاب، والذي يشرف على تجهيز مجموعات من الأهالي المسلحين تعكس تطورًا نوعيًا في مؤشرات الحجم والتنظيم والتسلح. ووفق ما أعلنه الناطق باسم حاكم الولاية فإن حكومة ولاية بورنو قد زادت من مخصصاتها المالية المقدمة لدعم مجموعات المقاتلين، والتي تستخدم في تمويلهم وتسليحهم وإعاشتهم في بعض الأحيان.
وعلى الرغم من هذا التحول غير المسبوق في تولي مؤسسات الدولة حشد الأهالي في جهود مكافحة الإرهاب، إلا أن العديد من المخاوف يثيرها هذا النهج. أولها مدى الالتزام بالتنسيق مع قوات مكافحة الإرهاب التابعة للجيش والشرطة، ومستوى سيطرة القوات الرسمية على المجموعات المسلحة التي يشكلها الأهالي، فضلًا عن المخاوف على المدى البعيد التي قد تظهر حتى بعد القضاء على الإرهاب والمتعلقة بإمكانية انخراط هذه المجموعات في أعمال عنف واسع النطاق في إطار نشاط إجرامي كالإغارة على القرى ونهبها، أو في إطار صدامات إثنية على غرار ما تشهده مالي وبوركينافاسو من تحول مجموعات الدفاع الذاتي التي تشكلت في قرى جماعة دوجون إلى مجموعات مسلحة هجومية شنت عددًا من أكثر الهجمات وحشية على قرى تقطنها جماعة فولاني بزعم دعم الأهالي للإرهابيين.
تحديات صعبة
يرتهن نجاح الإجراءات الجديدة التي أقرتها السلطات النيجيرية مؤخرًا بقدرتها على مواجهة ثلاثة تحديات رئيسية؛ يتعلق أولها بالتدويل، حيث أصبح الإرهاب في نيجيريا أكثر انفتاحًا على دوائر إرهابية أخرى كدائرة الساحل ووسط إفريقيا ومن ورائهما التنظيمات الإرهابية ذات الطبيعة العالمية. وقد أكد الرئيس “محمد بخاري” هذا التحول المهم في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2018، معتبرًا أن الإرهاب في نيجيريا يتم دعمه جزئيًّا بعوامل وتفاعلات ذات طبيعة محلية، إلا أنه أصبح جزءًا من الإرهاب الدولي بصورة متزايدة.
ويتعلق التحدي الثاني بتشظي التنظيمات الإرهابية في نيجيريا، الأمر الذي أكسب نشاطها طابعًا أكثر محلية وقدرة على التغلغل بين المكونات السكانية، خاصة مع ما أفرزته الانشقاقات المتتالية من تنظيمات إرهابية “متجانسة إثنيًّا” يعتمد بعضها على مكون الكانوري بالأساس، بينما يعتمد البعض الآخر على مكون الهوسا-فولاني، وهو الأمر الذي من شأنه أن يكسب هذه التنظيمات المزيد من التأييد الشعبي على اعتبار أن كلًّا منها يحمل مطالب جماعته الإثنية بغض النظر عن الخطاب المتشدد والآليات العنيفة.
أما التحدي الثالث فيتعلق بالسياق السياسي غير الداعم، مع تعدد المشككين في قدرة الدولة النيجيرية على القضاء على الإرهاب بصورة كاملة، وتعدد الأصوات المطالبة بالدخول في حوار مباشر مع التنظيمات الإرهابية يفضي لتوقيع اتفاق ينهي حالة الاقتتال الدائر منذ نحو عقد. وعلى الرغم من أن سوابق الحوار مع التنظيمات الإرهابية في نيجيريا لم تُفضِ إلى أي نتيجة ملموسة في السنوات السابقة، إلا أن أصواتًا سياسية مهمة تنتمي في الغالب لمعارضي الرئيس “بخاري” تسعى بقوة لفرض هذا الحوار مستندة إلى دعم خارجي قوي.
على هذا الأساس، تمثل الاستراتيجية النيجيرية الجديدة فرصة أخيرة لحكومة “بخاري” للقضاء على الإرهاب؛ إلا أن نجاحها في تحقيق هدفها الرئيسي لن يكون بالأمر اليسير بسبب ارتفاع تكلفتها المالية والإنسانية وحتى السياسية، وبسبب التحديات الصعبة التي يفرضها السياق المحلي والإقليمي والدولي.