على إثر اغتيال إسرائيل القائد العسكري في حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية في غزة، ومقتل ابن قيادي آخر في نفس الحركة في غارة جوية إسرائيلية على دمشق، قامت حركة الجهاد بالرد عبر إطلاق مئات الصواريخ على المناطق الحدودية بين القطاع وإسرائيل وفي مناطق قريبة من تل أبيب. ورغم محاولات التهدئة التي تُجريها أطراف إقليمية ودولية؛ إلا أن الوضع قد يتدهور إلى حد نشوب حرب طويلة ستكون الرابعة منذ عام 2009 بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، أو بالتحديد بين إسرائيل وحركتي حماس والجهاد. فما هي الأسباب التي تقف وراء هذا التصعيد الذي يقع في فترة حافلة بتوترات سياسية في الداخل الإسرائيلي، وأزمات إقليمية كبرى في عواصم تتخذ من القضية الفلسطينية ذريعة لتحقيق أهدافها وطموحاتها بعيدًا عن المصالح الحقيقية للشعب الفلسطيني؟ كذلك إلى أين سيقود هذا التصعيد كلًّا من إسرائيل وحركتي الجهاد وحماس مع تعقّد حسابات كلٍّ منها، سواء على الساحات المحلية أو الخارجية؟
العدوان الإسرائيلي بين المبررات الأمنية والدواعي السياسية
وفقًا للبيان الذي أصدره رئيس الحكومة الإسرائيلية “بنيامين نتنياهو” في مؤتمر حضره كلٌّ من رئيس أركان الجيش “أفيف كوخافي”، ومدير جهاز الشاباك “نداف أرجمان”، الثلاثاء 12 نوفمبر؛ قال “نتنياهو” إن إسرائيل استهدفت القيادي الكبير في حركة “الجهاد الإسلامي” الفلسطينية “بهاء أبو العطا”، لأنه كان مسئولًا عن عدد من الهجمات وخطّط للمزيد، وأن عملية الاغتيال نوقشت في المجلس الوزاري الأمني (الكابينت) لعدة أشهر، وحصلت على مصادقة الكابينت بالإجماع قبل عشرة أيام. ووافق الوزراء الكبار على السماح للجيش الإسرائيلي باختيار التوقيت المناسب لتنفيذ الهجوم. أما رئيس الأركان “أفيف كوخافي” فقد أكد أن “أبو العطا” عمل بكل طريقة ممكنة لإفساد محاولات التهدئة مع حماس، وأنه كان مسئولًا عن معظم الهجمات التي وقعت خلال العام الماضي. وحذّر “كوخافي” من أن إسرائيل على استعداد للدفاع (عن نفسها) في حالة حدوث تصعيد من جانب الفلسطينيين، ولم يستبعد احتمال شن عملية عسكرية إسرائيلية واسعة ردًّا على ذلك. على جانب آخر، قال “يوناتان كونريكوس” (الناطق باسم الجيش الإسرائيلي) إن الاغتيال لا يعني العودة إلى السياسات السابقة (اغتيال قيادات الجماعات الفلسطينية المسلحة)، وإن إسرائيل تواصلت مع حركة حماس التي تسيطر على القطاع عبر وسيط -لم يذكره- لتنقل إليها رسالة بأن إسرائيل لا تنوي استهداف مواقعها إذا امتنعت عن مشاركة الجهاد في ردها على العملية الإسرائيلية في غزة ودمشق. وقال “كونريكوس” أيضًا إن الجيش لا يعتقد أن “أبو العطا” كان يتصرف بناء على أوامر من إيران، الداعمة لحركة الجهاد الإسلامي، بل كان إرهابيًّا محليًّا عمل دون ضوابط.
وبتحليل هذه التصريحات يمكننا استنتاج التالي:
١- توجيه رسالتين للداخل الإسرائيلي، أولها أن “نتنياهو” وحده القادر على ردع المنظمات الفلسطينية التي تهدد أمن المواطن الإسرائيلي. أما الرسالة الثانية فتشكل ردًّا غير مباشر على ادّعاءات بعض أحزاب المعارضة من اليسار والكتلة العربية بأن “نتنياهو” نفّذ عملية قتل القيادي الجهادي في هذا التوقيت لأسباب تتعلق بأهدافه الشخصية، سواء لصرف انتباه الرأي العام الإسرائيلي عن قضايا الفساد التي تطارده وتهدد مكانته السياسية، أو بهدف استثمارها في دعم مفاوضاته مع حزب “كاحول لافن” المكلف بتشكيل حكومة جديدة، والتي يهدف “نتنياهو” من ورائها (أي هذه المفاوضات) إلى الحفاظ على موقعه كرئيس لحكومة تتشكل من حزب “كاحول لافن” والليكود وأحزاب اليمين الداعمة له. من هنا يُفهم لماذا حرص “نتنياهو” على الضغط على حقيقة أن قرار اغتيال القيادي الجهادي كان قد تم اتخاذه منذ “شهور” وبواسطة مجلس أمني تذوب فيه المصالح الحزبية لصالح المصلحة القومية، وبعيدًا عما تدعيه المعارضة من أنه استهدف تحقيق مكاسب سياسية آنية وشخصية لـ”نتنياهو”.
٢- التأكيد على عدم رغبة إسرائيل في تصعيد الوضع في غزة، طالما كان الرد المتوقع من جانب حركة الجهاد محدودًا ولمجرد حفظ ماء الوجه أمام أنصاره. لذلك، لم تبادر إسرائيل للرد على الهجمات الصاروخية التي شنها الجهاد في أعقاب عمليتي الاغتيال لرجليها، خاصة أن الخسائر التي تسببت فيها هذه الهجمات كانت محدودة للغاية.
٣- محاولة الوقيعة بين حركتي “حماس” و”الجهاد”، عبر امتناع المسئولين الإسرائيليين عن تحميل “حماس” مسئولية الصواريخ التي أطلقتها حركة “الجهاد” كما كانت تفعل في السابق، والتأكيد على أنها (أي إسرائيل) قد أخبرت “حماس” عبر وسطاء بأنها لن تستهدف مواقعها في القطاع طالما ابتعدت عن مشاركة “الجهاد” في إطلاق الصواريخ صوب أراضيها. أضف إلى ذلك محاولة زرع الشك في نفوس حركة “الجهاد” بوجود قنوات خلفية سرية للحوار بين “حماس” وإسرائيل، حيث صرّح “نداف أرغمان” (رئيس جهاز الشاباك) بأن “أبو العطا” رفض التفاهم الذي تم التوصل إليه بين إسرائيل و”حماس” دون أن يحدد تاريخ التفاهم الذي تم التوصل إليه بين الطرفين، وهو تصريح نادر من مسئول إسرائيلي كبير حول مستوى التعاون بين تل أبيب والحركة المسيطرة على قطاع غزة!
٤- حاولت إسرائيل طمأنة القيادات في “الجهاد” و”حماس” بأن عمليتها الأخيرة ضد القيادي الجهادي لا تعني عودة إسرائيل إلى سياسة الاغتيالات للقيادات الفلسطينية في التنظيمات المسلحة، وأنها مجرد عملية كانت ضرورية لأسباب أمنية شديدة الإلحاح. والهدف من هذه الرسالة هو حفز القيادات الفلسطينية على عدم تصعيد الأوضاع لحالة المواجهة الشاملة، لأن الضحايا لن يكونوا في مثل هذه الحالة المواطنين الفلسطينيين وفقط، بل قيادات المنظمات الفلسطينية، خاصة أن تمكّنها (أي إسرائيل) من تحديد مكان “بهاء أبو العطا” في غزة يعني أن لديها قدرات استخبارية كبيرة تسمح لها برصد أماكن تواجد القيادات الأخرى في “الجهاد” وكذلك في “حماس”.
٥- رغم أن إسرائيل لا تريد التصعيد، إلا أنها لا تخشاه، ولذلك حذر “كوخافي” ومعه “نتنياهو” من أن إسرائيل جاهزة لسيناريو حرب شاملة بدليل إصدارها أوامر بتعبئة جزء من الاحتياط، كما أنها المرة الأولى التي يأمر فيها الجيش الإسرائيلي بإغلاق المدارس والمصالح التجارية في منطقة تل أبيب منذ حرب غزة عام 2014، المعروفة في إسرائيل باسم عملية “الجرف الصامد”.
٦- محاولة عزل عمليتي الاغتيال في غزة ودمشق عن أي ارتباطات بصراعات مع قوى خارجية وبالتحديد إيران وسوريا، وهو ما أكده الناطق باسم الجيش الإسرائيلي بنفيه علاقة “بهاء أبو العطا” بإيران، واستبعاده أن تكون العمليات التي قام بها ضد إسرائيل قبل اغتياله بتوجيه من إيران، أو ربما حتى من جانب الزعماء الكبار في حركة الجهاد، وهو ما يشير إليه تأكيده أن “أبو العطا” كان إرهابيًّا محليًّا عمل دون ضوابط.
٧- يبدو أن “نتنياهو” كان يرغب في جرّ منافسه رئيس تحالف كاحول لافن “بيني جانتس” نحو اختبار صعب في ظل تنافسهما على رئاسة الحكومة المقبلة، والتأكيد على أنه (نتنياهو) هو الأجدر بلقب حامي أمن إسرائيل. وربما طمع “نتنياهو” في أن يتورط “جانتس” في إدانة عملية الاغتيال لكي يصبح من السهل عليه تصويره أمام الرأي العام الإسرائيلي بأنه غير قادر على تحقيق أمن البلاد، خاصة أن من أدانوا العملية انحصروا في أحزاب اليسار والأحزاب العربية. غير أن “بيني جانتس” سارع إلى تأييد العملية ليقطع الطريق على “نتنياهو” لاستغلال الحدث لصالحه وحده.
“الجهاد” لا يميل إلى التصعيد
بعيدًا عن البيانات المليئة بالعبارات البلاغية التي أطلقتها حركة “الجهاد” بعد عمليتي الاغتيال لكوادرها، مثل قول “خالد البطش” (عضو المكتب السياسي للحركة) إنه لا خيار لدى حركة “الجهاد الإسلامي” سوى المواجهة دون حسابات ستمنعها من الرد على جريمة اغتيال الشهيد “أبو العطا” ونجل عضو المكتب السياسي في دمشق “أكرم العجوري” الذي حاولت قوات الاحتلال اغتياله باستهداف منزله؛ بعيدًا عن ذلك، يمكن القول إن العديد من التصريحات وردود الفعل من جانب الحركة تشي بأنها تبغي حصر المواجهات ومنع التصعيد، وهو ما يمكن قراءته من خلال الملاحظات التالية:
١- بعد وقت قصير من اغتياله، بدأت حركة الجهاد الإسلامي في إطلاق عشرات الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، حيث أطلقت معظم هذه الصواريخ على المجتمعات السكنية الإسرائيلية المحيطة بغزة، وأطلقت عددًا أصغر على مدن رئيسية في وسط البلاد، وهو ما يعني أن الحركة امتنعت عن استخدام صواريخ تمتلكها ذات دقة أكبر ومدى أبعد حتى لا تقوم إسرائيل برد كثيف أو شن حرب شاملة ضد القطاع في حالة سقوط قتلى بين مواطنيها، أو في حالة تعرض منشآتها الحيوية لأضرار كبيرة.
٢- إصرار الحركة على أن اغتيال إسرائيل لرجالها لم يأتِ في إطار تغيير قواعد الاشتباك المستقرة بين الحركة وجماعات المقاومة الفلسطينية في غزة وبين إسرائيل، وأن “نتنياهو” قام بتنفيذ هذه العملية لأسباب انتخابية تتعلق بتشكيل الحكومة المقبلة، وهو ما يعني أن إسرائيل في هذا الوضع تبدو حريصة على الإبقاء على التهدئة، وتخشى التصعيد، في اعتراف صريح بقدرة المقاومة الفلسطينية بكل فصائلها في غزة على ردع إسرائيل!
٣- تصريح “خالد البطش” (عضو المكتب السياسي لحركة الجهاد الفلسطينية) بأن الحركة قادرة على أن تضع حدًّا “لعربدة” العدو الصهيوني، وجعله يفكر ألف مرة إذا ما عاد للاغتيال مجددًا، فسرايا القدس ليست وحدها في المعركة وإن حرص على الاستفراد بها.
ويعني هذا التصريح أن حركة “الجهاد” يمكن أن تمتنع عن رد شامل من جانبها، وستقوم فقط بمعاقبة إسرائيل بشدة في حال كررت عمليات اغتيال أخرى! (إسرائيل حرصت فعلًا على تأكيد نيتها عدمَ تكرار هذه العمليات)، وأنه حتى في حال تكرار ذلك فإن “الجهاد” لن تكون وحدها هذه المرة (ربما للإشارة إلى أن هذا الموقف هو نتيجة توافق بين حماس والجهاد على قرار الإبقاء على التهدئة حتى بعد عملية الاغتيال).
لكن يبقى السؤال: هل ستوقف حركة “الجهاد” صواريخها التي ما تزال تطلقها على إسرائيل حتى كتابة هذا التقدير، أم تبقى على وتيرة منخفضة من الرد الذي يتلاشى تدريجيًّا خلال أيام بهدف الحفاظ على ماء الوجه؟ وهل يمكن التحكم في إيقاع الرد والرد المضاد مع إسرائيل، أم يمكن أن تؤدي عملية إطلاق صواريخ محدودة من جانب “الجهاد”، وغارات إسرائيلية انتقامية، حتى ولو محدودة، إلى انهيار الوضع برمته؟