أعلن وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو”، 18 نوفمبر الجاري، “أن بلاده لم تعد تعتبر المستوطنات الإسرائيلية غير متوافقة مع القانون الدولي”!
القرار أو التصريح يبدو أنه يثير الارتباك، وليس الدهشة أو الاستنكار، فبعد أن اتخذت إدارة الرئيس “ترامب” قرارات متتابعة تناقضت مع مواقف أمريكية ثابتة منذ سبعينيات القرن الماضي فيما يخص الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لم يعد ثمة ما يمكن أن يصدم العرب والفلسطينيين، وربما العالم بأسره، فالرئيس “ترامب” اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، كما اعترف بشرعية ضم إسرائيل لهضبة الجولان السورية المحتلة، ورفض أيضًا الاعتراف بالأعداد المسجلة لدى منظمة الأونروا كلاجئين فلسطينيين، وأغلق المفوضية التابعة للسلطة الفلسطينية في واشنطن. كل هذه القرارات اتخذها “ترامب” خلال أقل من عام واحد، وجميعها جاءت مخالفة لمواقف سابقيه في البيت الأبيض منذ عام 1978 على الأقل، وفي مواجهة قرارات دولية مستقرة. وبالتالي، لم يُثر قرار وزير خارجيته “بومبيو” الأخير بشأن الوضع القانوني للمستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة الاندهاش أو الاستغراب، ولكن تصريحات “بومبيو” أثارت الارتباك، مثلها مثل قرارات “ترامب” السابقة بحق الفلسطينيين حول فهم أسبابها ومغزاها في مثل هذا التوقيت.
سبب الارتباك من جانب، هو تأكيد “ترامب” أن قراراته بشأن القدس والجولان والأونروا لم تكن تتعارض مع فكرة حث الفلسطينيين والإسرائيليين على التفاوض من أجل الوصول إلى السلام! وهو ما فعله “بومبيو” حينما حذر -بدوره- من النظر إلى قرار واشنطن اعتبار المستوطنات الإسرائيلية غير متعارضة مع القانون الدولي بمثابة إخلال بالوضع النهائي للضفة الغربية!
من جانبٍ آخر، فإن قرارت “ترامب” و”بومبيو” من حيث التوقيت تتزامن مع الأزمة التي تمر بها إدارة الرئيس “ترامب” بسبب عدم قدرتها على طرح الجزء السياسي من خطته المسماة إعلاميًّا “صفقة القرن”، والتي تستهدف تسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وذلك على خلفية عدم وجود حكومة منتخبة في إسرائيل منذ سبعة أشهر.
ولإزالة هذا الارتباك، يمكن النظر إلى قرارات “ترامب” وقرار “بومبيو” الأخير، على أنها محاولة لحث الإسرائيليين على فتح مجال للتفاوض مع الفلسطينيين بعد أن يكونوا قد اطمأنوا (أي الإسرائيليون) من أن أي مفاوضات قادمة بينهما لن تحكمها القرارات والقوانين الدولية التي كانت تنتصر لوجهة نظر الفلسطينيين ومطالبهم (كما يعتقد الإسرائيليون)، دون مراعاة لمخاوف إسرائيل الأمنية، أو ما تعتبره الدولة العبرية حقوقًا تاريخية ودينية لليهود في بعض مناطق الضفة الغربية والقدس على وجه الخصوص. ويعتقد “ترامب” وإدارته أن الفلسطينيين يجب أن يدركوا أن تمسكهم برفضهم التفاوض مع الإسرائيليين ما لم ينطلق من المرجعيات الدولية، هو موقف يفتقر إلى الإدراك السياسي السليم؛ فالتطورات الدولية والإقليمية والعربية التي كانت تساعد الفلسطينيين في الماضي على التمسك بالقوانين والقرارات الدولية كمرجعية في المفاوضات مع إسرائيل، لم تعد قائمة، كما أن البقاء بعيدًا عن التفاوض سيضر بوضعهم على أرض الواقع في ظل التمدد السريع للمستوطنات الإسرائيلية في غزة، ومن ثم عليهم أن يكونوا واقعيين، وأن يبدءوا من نقطة أن السلام وإقامة دويلة لهم والرخاء الاقتصادي لشعبهم يمر عبر الاعتراف بالاحتياجات الأمنية الإسرائيلية، والقبول بما هو متاح وممكن، وليس بما هو حق مشروع ومعترف به دوليًّا.
من هنا، يمكن فهم لماذا كان “ترامب” يتحدث عن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ولكنه يؤكد -في الوقت نفسه- أن تحديد حدود المدينة بجانبيها الشرقي والغربي مرهون بتفاوض الفلسطينيين والإسرائيليين، لأن القرار الأمريكي اعترف بالوضع القائم، ولكنه منفتح على تأييد أية نتائج يتفق عليها الطرفان في هذا الشأن من خلال المفاوضات. والأمر نفسه بالنسبة لتصريح “بومبيو”؛ فهو من جانب يعترف بقانونية الاستيطان الإسرائيلي كون الفلسطينيين أنفسهم كانوا يلجئون للمحكمة العليا الإسرائيلية لإبطال إنشاء مستوطنات في أراضٍ يمتلكها مواطنون فلسطينيون، وهو ما يعني أن الفلسطينيين أنفسهم يعترفون عمليًّا بأن إنشاء أو إزالة مستوطنة هو أمر خاضع للقانون الإسرائيلي. ومن جانب آخر، اعتبر “بومبيو” أن التصريح أو القرار لا يمس الوضع النهائي للضفة الغربية والذي سيتحدد بما يتوافق عليه الطرفان من خلال التفاوض.
ثمة ملاحظة أخرى، وهي استخدام “بومبيو” تعبير “المستوطنات المدنية” civilian settlements، وهو تعبير جديد وغريب، وكأنه يشير إلى التفريق بين نوعين من الاستيطان؛ أحدهما لأغراض مدنية والآخر لأغراض عسكرية أو أمنية. فهل يعني ذلك أن “بومبيو” يؤكد بوضوح أن الولايات المتحدة قد تدافع عن بقاء مستوطنات سكنية، ولكنها لن تدافع عن تطلعات رئيس الحكومة الانتقالية “بنيامين نتنياهو” لضم مستوطنات ومناطق في غور الأردن تحت دعاوى عسكرية وأمنية؟
إن ادّعاء “بومبيو” أن وزارة الخارجية الأمريكية تؤكد قبل إعلانها قانونية المستوطنات أن ذلك لا ينتهك القوانين الدولية، واستخدامه تعبير “المستوطنات المدنية”؛ ربما يرجع إلى أن ضم منطقة غور الأردن لإسرائيل سيكون من الصعب على الولايات المتحدة الدفاع عنه، كونه يستند لدعاوى أمنية، ويتعارض بقوة مع مبدأ مؤسس في القانون الدولي هو عدم جواز ضم الأراضي بالقوة. أما مسألة المستوطنات التي شُيّدت في أراضٍ مُحتلة لإيواء سكان من الدولة المعتدية، فتظل محل جدل، كون أن أغلب الأراضي التي أُقيمت عليها مستوطنات إسرائيلية في الضفة، لم تكن أراضي مملوكة لأفراد، بل كانت أراضي دولة خاضعة للقوانين العثمانية حتى بدء الانتداب البريطاني، والذي شرّع هو نفسه قوانين إضافية تتعلق بأوضاع الأراضي غير المملوكة للأفراد. كما يمكن أن تحتج إسرائيل بأن المستوطنات المعزولة، وتلك التي أقيمت على أراض مملوكة لمواطنين فلسطينيين، تم نزع الشرعية القانونية عنها بواسطة المحكمة العليا الإسرائيلية وبطلب من أصحاب هذه الأراضي من الفلسطينيين الذين يملكون وثائق ملكية قانونية حتى ولو كانت سابقة على قيام دولة إسرائيل.
إن الأسانيد المراوغة التي استخدمها “بومبيو” لتسويغ تصريحه أو قراره، قد تبقى محل جدل ونقاش، كون القوانين الدولية ومرجعية عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين منذ اتفاق أوسلو؛ تتعامل مع المستوطنات على أنها غير مشروعة، وقد تتزايد الإدانات لإسرائيل والولايات المتحدة، خاصة بسب تغيير الأخيرة لموقفها من قضية قانونية المستوطنات، ولكن من المشكوك فيه أن يتمكن الفلسطينيون أو الدول العربية والإسلامية المنشغلة بهمومها الداخلية وبمواجهة المخاطر الأمنية التي تتهددها من الجماعات الإرهابية، من تغيير القرار الأمريكي. ومن ثم، لا يبقى أمام الفلسطينيين سوى المراهنة على تمسك الاتحاد الأوروبي بالقرار الذي قضت به محكمة العدل الأوروبية في ١٢ نوفمبر الجاري، بضرورة وضع علامات على المنتجات المصنوعة في المستوطنات الإسرائيلية بصفتها هذه، وإمكانية عدم تسويقها كمنتجات إسرائيلية. فمن شأن تطبيق دول الاتحاد لهذا القرار أن يضر باقتصاد المستوطنات الإسرائيلية ضررًا بالغًا، ويقوّي الموقف الثابت للاتحاد الأوروبي الذي لا يعترف بأي تغييرات على الحدود الإسرائيلية قبل عام 1967 بخلاف تلك المتفق عليها بين أطراف النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، وهو ما يمكن أن يخلق توازنًا إلى حد ما مع القرار الأمريكي الأخير.