أعلنت كوريا الجنوبية، في 22 أغسطس 2019، انسحابها من اتفاقية “الأمن العام للمعلومات العسكرية” General Security of Military Information Agreement (GSOMIA) مع اليابان، التي تم توقيعها في نوفمبر 2016 بهدف تبادل المعلومات الاستخباراتية بين البلدين في مواجهة التهديدات النووية لكوريا الشمالية. ويرى محللون أن القرار الكوري يضر بالتعاون مع حلفاء الولايات المتحدة رغم أنه يأتي في الأساس كرد فعل كوري ضد اليابان، وأنه في حالة انتهاء الاتفاق، فسيكون على الدولتين إجراء التنسيق عبر واشنطن.
لقد مثّل القرار الكوري نقطة خلاف جديدة في أجندة التحالف الأمريكي-الكوري الجنوبي، ففي حالة وجود حرب مع كوريا الشمالية، فستحتاج الولايات المتحدة لإرسال قوات الدعم لسول، التي سيحتاج بعضها للمرور عبر المطارات اليابانية.
بدايات الأزمة
بدأ الجمود الحالي في العلاقات الكورية اليابانية منذ عام 2018 بعد أن قضت محكمة سول العليا بتعويض الشركات اليابانية لعمال السخرة في فترة الحكم الاستعماري الياباني لكوريا، رغم تنازل الحكومة الكورية عن جميع التعويضات والمطالبات في معاهدة التطبيع لعام 1965 مع اليابان. واعتبرت المحكمة أن المعاهدة تمثل انتهاكًا لحقوق المواطنين. وتصاعدت الخلافات حول الاتفاق الثنائي لعام 2015 الخاص بحل قضية “نساء المتعة”، بعد أن هدد رئيس كوريا الجنوبية “مون جاي إن” بالانسحاب من الاتفاق، وتعهد بإعادة التفاوض حوله.
وقد امتدت الأزمة لتشمل نمو اتجاه داخل كوريا الجنوبية لمقاطعة السلع والعلامات التجارية اليابانية. كما أعلنت حكومة سول عن خطة قيمتها 6.5 مليارات دولار لتقليل الاعتماد على قطع الغيار والمواد والمعدات اليابانية. وكانت طوكيو قد فرضت في يوليو 2019 قيودًا على تصدير أشباه الموصّلات التي تحتاجها الشركات الكورية، وردّت سول بحذفها من قائمتها البيضاء الخاصة بالشركاء التجاريين، وأجرت تدريبات عسكرية بالقرب من جزر دوكدو/ تاكيشيما المتنازع عليها، مما أثار حفيظة اليابان.
وقد تؤدي هذه الإجراءات إلى الفصل الاقتصادي بين اليابان وكوريا الجنوبية، الذي كان ضمانة أساسية للتعاون السياسي بينهما. ومنذ يوليو 2019، انخفضت مبيعات الكحوليات اليابانية في كوريا الجنوبية بأكثر من 97٪، وتم إلغاء المعارض الفنية الكورية في اليابان. وقد دفعت هذه التطورات البعض إلى وصف العلاقات اليابانية الكورية الراهنة بأنها الأسوأ منذ انتهاء الاحتلال الياباني لكوريا في عام 1945.
دوافع الخلاف
هناك عوامل عدة تُفسّر لنا هذا التدهور في علاقات البلدين. العامل الأول، يتعلق بالتاريخ؛ فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حاول البلدان وضع نزاعاتهما جانبًا، والمضي قدمًا لتوثيق التعاون، بدءًا من توقيع معاهدة 1965 لتعزيز التنمية الاقتصادية لكوريا الجنوبية من خلال المساعدات المالية اليابانية وتوثيق العلاقات التجارية، والتي تطورت في 1998 بإعلان “أوبوشي” الذي سعى لبناء شراكة بين البلدين. وبلغ هذا الاتجاه ذروته بتوقيع اتفاقية GSOMIA. لكن رغم الدور الذي لعبته هذه الاتفاقيات في تحسين علاقات البلدين، كجزء من السياسة اليابانية لمعالجة إرث مرحلة الدور الياباني في المنطقة خلال فترة ما بين الحربين العالميتين؛ لكن لا تزال هناك بعض القضايا العالقة بين البلدين، وعلى رأسها قضيتا: “نساء المتعة”، و”عمال السخرة”.
كما ظلت هناك بعض الممارسات اليابانية التي تُذكّر دول المنطقة بمرحلة ما بين الحربين العالميتين، من ذلك -على سبيل المثال- اتجاه اليابان إلى رفع “علم الشمس المشرقة” في أولمبياد طوكيو 2020، ما دفع وزارة الرياضة الكورية في سبتمبر 2019 للمطالبة بحظر رفع العلم من ملاعب الأولمبياد، على اعتبار أنه يرمز للإمبريالية اليابانية، لكن هذا الطلب قوبل برفض اللجنة المنظّمة التي قالت إن العلم ليست له أي دلالات سياسية.
ورغم علاقات البلدين مع الولايات المتحدة، إلا أن هذا لم يؤدِّ إلى تطور تحالف ثلاثي بينهم، كما لم يَحُلْ دون ظهور الخلافات اليابانية الكورية، ففي مقابلة معه في عام 2017 قال رئيس كوريا الجنوبية إن تطوير التعاون الأمني الثلاثي إلى تحالف رسمي أمر غير مرغوب فيه. وأدت الحسابات الاستراتيجية للبلدين إلى تباين الحسابات الأمنية بينهما، فقد اتخذت اليابان خيارًا واضحًا للتوافق بقوة مع الولايات المتحدة، وأكدت على ذلك في استراتيجيتها للأمن القومي عام 2013، بالعمل على توسيع قدراتها البحرية لمواءمة توجهها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، وتحقيق التوازن مع الصين. على الجانب الآخر، ورغم العلاقات الأمنية الكورية مع الولايات المتحدة، إلا أن سياستها الانفتاحية مع كوريا الشمالية تثير اليابان. وقد اقترن التوتر في العلاقات بين طوكيو وسول مع استئناف كوريا الشمالية تجاربها الصاروخية وهي مسألة تقلق طوكيو بشكل كبير جدًّا لوقوعها في مرمى القدرات الصاروخية الكورية الشمالية. ولم تتمكن طوكيو وسول في ظل أزمتهما من تبادل المعلومات الدفاعية بشأن هذه التجارب الصاروخية. وتجدر الإشارة إلى وجود خلاف بين البلدين حول السياسة الكورية الجنوبية تجاه جارتها الشمالية، حيث لا تزال اليابان تدافع عن تطبيق سياسة أكثر تشددًا تجاه كوريا الشمالية، والعمل على بناء تحالف دولي لإجبار كوريا الشمالية على إنهاء برنامجها النووي.
أضف إلى ذلك وقوع بعض المناوشات العسكرية بين البلدين في 2018، عندما اتهمت اليابان مدمرة تابعة للبحرية الكورية الجنوبية باستهداف نظام رادار لمكافحة الحرائق الخاص بطائرة مراقبة عسكرية يابانية.
دور أمريكي ضعيف
جاء قرار كوريا الجنوبية بالانسحاب من اتفاقية “الأمن العام للمعلومات العسكرية” في وقتٍ تُجمّد فيه الولايات المتحدة تدريباتها العسكرية الثنائية مع كوريا الجنوبية، ويتفاوض فيه البلدان على اتفاقية تقاسم تكاليف الدفاع وتكاليف وجود القوات الأمريكية في كوريا الجنوبية، على خلفية مطالبة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في فبراير 2019 لكوريا الجنوبية بزيادة حصتها في تكلفة هذه القوات بحلول ديسمبر القادم، وتهديده بسحب هذه القوات. الأمر ذاته بالنسبة لليابان، حيث طالب في يوليو 2019، بمضاعفة تكاليف بقاء القوات الأمريكية هناك من ملياري دولار إلى ثمانية مليارات دولار سنويًّا.
وقد عبّر “راندال شريفر”، مساعد وزير الدفاع الأمريكي لشئون الأمن في منطقة المحيط الهادي، عن قلق واشنطن وخيبة أملها من قرار سول، وحثّ الدولتين على الدخول في “حوار مفيد” لعزل المسائل الأمنية عن الخلافات السياسية. وقالت وزارة الخارجية الأمريكية إن إنهاء اتفاق GSOMIA “يعكس سوء فهم خطيرًا من جانب حكومة “مون” للتحديات الأمنية الخطيرة التي نواجهها في شمال شرق آسيا”.
قرار سول بالانسحاب من اتفاقية GSOMIA يؤثر بشكل مباشر على المصالح الأمنية الأمريكية، لأن الضباط الأمريكيين سيضطرون في هذه الحالة إلى نقل المعلومات العسكرية بين اليابان وكوريا الجنوبية، وهي آلية ستكون بطيئة نسبيًّا مقارنة بالتواصل المباشر بين اليابان وكوريا الجنوبية، وستكون أقل فعالية في حالة تدهور الوضع الأمني في شبه الجزيرة الكورية.
لكن الملفت أن إدارة “ترامب” لم تُبدِ اهتمامًا كبيرًا باتخاذ خطوات لمنع مزيدٍ من تدهور العلاقات بين كوريا الجنوبية واليابان، وربما هذا بسبب عدم اهتمام “ترامب” بالحلفاء في الخارج. ويرى محللون أن السياسة الخارجية الأمريكية في عهد “ترامب” عامل مهم وراء تدهور العلاقات بين البلدين. ورغم زيارة “ديفيد ستيلويل”، مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشئون شرق آسيا والمحيط الهادئ، لكوريا الجنوبية خلال الأسبوع الأول من شهر نوفمبر الجاري، واجتماع رؤساء أجهزة استخبارات الدول الثلاث في واشنطن قبل ذلك بعدة أيام، إلا أنّ هذه الجهود لم تُؤدِّ حتى الآن إلى عودة العمل بالاتفاق.
وتُعد الصين هي الفائز النهائي في نزاع سول وطوكيو، ذلك أن مثل هذه التطورات تُساهم في التحليل الأخير في إضعاف التحالفات الأمريكية في آسيا، وإفساح المجال أمام دور صيني أمني أكبر. وتعتمد بكين -في هذا الإطار- على الأدوات الاقتصادية، ورفضها الحضور العسكري الأمريكي المكثّف في المنطقة، بالإضافة إلى رفضها نشر منظومة “ثاد” المضادة للصواريخ الباليستية في كوريا في 2017. في المقابل، تحاول كوريا الجنوبية انتهاج سياسة متوازنة لعدم إثارة بكين.
أفق غير واضح
خلال خطابه احتفالًا بيوم التحرير، في 15 أغسطس 2019، خفّف الرئيس “مون” من حدة لهجته تجاه طوكيو، وفتح الباب للتعاون بين البلدين، وأعرب عن أمله في أن تلعب اليابان دورًا رائدًا في السلام والازدهار في شرق آسيا، ولم يعبر عن استجابته للكوريين المطالبين بمقاطعة أولمبياد طوكيو الصيفية لعام 2020.
وقد التقى “مون” و”آبي” على هامش اجتماع منظمة الآسيان في تايلاند في سبتمبر 2019، واعتبره البعض خطوة من سول لتهدئة الخلاف، لكن اليابان ترى أنه لا يجب التعويل على اجتماع لم يستغرق بضع دقائق. وبالفعل، فشل البلدان في التوصل إلى اتفاق في محادثاتهما التجارية الثنائية في جنيف في 11 أكتوبر فيما يتعلق بشكوى كوريا الجنوبية أمام منظمة التجارة العالمية بشأن قيود التصدير اليابانية، وفي حال فشل المحادثات الإضافية، ستنشأ لجنة تابعة للمنظمة للنظر في القضية.
لكن هذا التحسن يظل محدودًا مقارنةً بحجم الأزمة القائمة. وعلى ما يبدو، ما لم تقم الولايات المتحدة بدور رئيسي في الخروج من هذه الأزمة، فقد تمتد لفترة طويلة، خاصة في حالة عدم تراجع كوريا الجنوبية عن خطوة الانسحاب من المعاهدة قبل 23 نوفمبر القادم.