كثيرًا ما أتلقى اتصالات ورسائل للتعليق والإضافة على ما أكتبه من مقالات بالمصرى اليوم، وخاصة ما يتعلق بالسياسات العامة، بعض هذه الاتصالات يأتى من شخصيات عامة، لها سابق خبرة طويلة وأياد بيضاء فى ملفات داخلية وخارجية، ولكنها الان خارج نطاق المساهمة فى العمل العام، رغم أنهم يمثلون كنزًا من الخبرات لا يتوافر لدى دول كثيرة، ومازال لديهم قدرة كبيرة على العطاء للوطن.
أتذكر هؤلاء عندما أقرأ تصريحات تشير إلى الاستعانة ببيوت خبرة أجنبية لتطوير قطاعات معينة فى الدولة المصرية. ومن واقع خبرة سابقة فى التعامل مع بعض بيوت الخبرة تلك والتى عملت فى مصر فى سنوات سابقة، وجدت أنها تأتى بأفكار معظمها ليس فيها سر الصنعة، ولكن يمكن الوصول إليها بسهولة من مصادر المعلومات المتاحة على الإنترنت وفى بنوك المعلومات، ولا تحتاج بالضرورة لخبير أجنبى للتعرف عليها فى عصر الانفتاح المعلوماتى الذى نعيشه، كما أن بعض الاستشارات التى تقدمها تتسم بالطابع النظرى، الذى يفتقد فهم تاريخ وعمق وتعقيدات المؤسسات والسياسات المصرية التى تستهدف تطويرها، بل كثير منها يستعين بخبرات ليست أجنبية بالمعنى المتداول، بل من دول مجاورة لنا، وكذلك خبراء مصريون من الباطن، ولكنهم أقل من مستوى الخبراء الذين تحدثت عنهم فى بداية المقال، والذين يملك بعضهم أيضًا خبرات دولية هائلة نتيجة التعليم أو استمرار التواصل مع المؤسسات الدولية أو الاطلاع على ما تنتجه.
الاستعانة ببيوت الخبرة الأجنبية فى بعض المجالات التى نملك فيها بالفعل خبرات وطنية لا تقل عن الأجنبية تذكرنى أيضًا بتصريح أطلقته كريستين لاجارد منذ شهور قليلة، وكانت وقتها ما تزال مدير صندوق النقد الدولى، ففى كلمتها أمام منتدى دافوس فى يناير الماضى نصحت الدول النامية بالحد من الإنفاق على مكاتب الاستشارات والخبرة الأجنبية، وذكرت «أرى الكثير من البلدان المنخفضة الدخل واقتصادات الأسواق الناشئة تنفق ملايين الدولارات على تكاليف الاستشاريين لوضع خطتهم الإستراتيجية. أود أن أوصى ببعض التوفير.. هذا جزء من الإنفاق غير الفعال الذى يمكن توفيره بالفعل»، وأشارت إلى أن العديد من الأفكار متاحة بالفعل ولا حاجة لإعادة اختراعها.
القضية الأكبر هنا تتعلق بكيفية تحقيق تراكم فى الخبرات والاستفادة من أصحاب الخبرة السابقة. بعض الدول لديها ما يسمى بمؤرخ الوزارة، وهو شخص يقوم بتوثيق خبرات الوزارة أو المؤسسة بحيث تكون ذاكرة تاريخية لها، ووعاء ينهل منه كل مسؤول جديد. هناك أيضًا المجالس الاستشارية أو مراكز الأبحاث التى يمكن أن ينضم اليها المسؤول السابق، وتتيح له الفرصة لتوثيق خبرته من ناحية، وكذلك تقديم النصيحة لمؤسسات الدولة كما يحدث فى مراكز الأبحاث الشهيرة فى العالم، والتى توصف بأنها وعاء للخبرات ومصنع للأفكار. وأخيرا فإن خروج شخص ما من منصبه التنفيذى لا يجب أن يعنى بالضرورة الحكم بفشله، وبالتالى انتهاء مسيرته المهنية فى هذا المجال، أو أن مكانه الطبيعى هو المنزل مع أسرته. فكثير من المسؤولين فى دول العالم يتركون مناصبهم، ثم يذهبون لمراكز أبحاث، ثم يعودون للعمل التنفيذى مرة أخرى فى إطار ما يعرف بسياسة الباب الدوار.
خلاصة ما سبق لا تعنى عدم التفاعل مع العالم وما يحتويه من خبرات، ولكن فى نفس الوقت علينا أن نستفيد من كنز الخبرات الوطنية النادرة التى نملكها.
*نقلا عن صحيفة “المصري اليوم”، نشر بتاريخ ١٨ نوفمبر ٢٠١٩