لا حديث في المدينة الأن غير ذلك الذي يتعلق بالإصلاح والتغيير. مدينة الإعلاميين والسياسيين والنخبة خاصة والرأي العام عامة تتوق إلى إصلاح يطال المجال السياسي والإعلامي بالنجاح الذي شهده الإصلاح الاقتصادي. الوضع الاقتصادي لمصر قبل الإصلاح كان مرشحا لكارثة فوقاها منه الإصلاح. الوضع بالمجالين السياسي والإعلامي ليس بالسوء الذي كان يعاني منه المجال الاقتصادي. نجاح الإصلاح الاقتصادي يمثل رافعة أساسية للنجاح في إصلاح المجالين السياسي والإعلامي. انشغال المدينة بالإصلاح في المجالين السياسي والإعلامي إضافة إلى كونه علامة صحية، فإنه في الحقيقة اعترافا من المدينة أن جهود الدولة أمنيا واقتصادية ونجاحها في تثبيت أركان الدولة قد أتت أكلها، وأنه حان الوقت للانتقال أو بالأحرى للقفز خطوات جديدة تعكس ذلك التطور وتتناسب معه. في المجالين الأمني والاقتصادي كانت الدولة تمتلك زمام الأمور. تحملت وحدها بمؤسساتها الأمنية مسئولية مواجهة الإرهاب وتحقيق الأمن والاستقرار، وفي المجال الاقتصادي تحلت بالشجاعة الكافية لاتخاذ القرار بعد دراسته جيدا وراهنت على تفهم وصبر المواطنين فكان النجاح.
في المجالين السياسي والإعلامي يبدو الأمر مختلفا إلى حد كبير. فقرار الإصلاح في المجالين لا تنفرد به الدولة على نحو ما حدث مثلا في المجال الأمني، ولا حتى على نحو ما حدث في المجال الاقتصادي. فدور الدولة هنا ورغم أهميته يستلزم بالضرورة أدوارا لا تقل أهمية عن دورها. في المجال السياسي هناك دور الأحزاب والتيارات السياسية والقوى الفاعلة في المجتمع. في المجال الإعلامي هناك دور الإعلاميين والمثقفين وصناع الدراما وقادة الرأي. مسئولية إصلاح المجالين السياسي والإعلامي تكاد تكون مشتركة بين الدولة والأطراف الفاعلة في المجالين. التاريخ القريب يؤكد بوضوح أن انتقال قرار التعامل مع المجالين السياسي والإعلامي بعيدا عن الدولة كانت له عواقب وخيمة. الفترة من 2011 إلى 2014 خير دليل على ذلك. ولكن أيضا قرار التعامل معهما بعيدا عن الأطراف الفاعلة كانت له أيضا عواقب وخيمة. الفترة من الخمسينيات والستينات من القرن الماضي دليلا أيضا. إذن التفكير في استحضار أيا من التجربتين وتسويقها باعتبارها حلا سحريا هو خيار محفوف بالمخاطر، فلا “أمارة” تجعل أي منهما نموذجا. انقسام المجتمع السياسي والإعلامي لفريقين يتبنى كل منهما إحدى التجربتين يمثل إضافة عامل استقطاب سيدفع الجميع ثمنه ولن يحرك الأمور قيد أنملة للأمام. لا يعني الحديث أو التحذير من التجربتين المشار إليهما أنه لم يكن لهما أي من المزايا. في الخمسينيات والستينيات كان لمصر إعلاما قويا مثل أحد أهم روافد القوة الناعمة المصرية دفعت الرئيس السيسي نفسه إلى القول ذات مرة أن “الرئيس عبد الناصر كان محظوظا لأن الإعلام كان وراه”. وأذكر حوار جمعني بأحد الصحفيين الكبار بعد ذلك التصريح وقبل أن يتولى منصبا مرموقا لاحقا عبر فيه عن انزعاجه الشديد من كلام الرئيس معتبرا أن هذا الكلام معناه أن الرئيس يبحث عن إعلام تعبئة، فما كان مني إلا أن ذكرته بأن ذلك الإعلام الذي يشيد به الرئيس كان أيضا إعلاما قويا يضم عمالقة الصحافة والإعلام الذي يشار لهم بالبنان حاليا، وكان موقفي ولا يزال أن الرئيس يبحث عن مثل ذلك الإعلام الذي يليق بمصر داخليا وخارجيا في ظل الظروف الراهنة كما كان إعلام عبد الناصر مناسبا لظروفه. فاستنساخ التجارب لم يكن يوما أمرا جيدا. أما التجربة الثانية 2011 إلى 2014 كان لها هي الأخرى فائدة أو ميزة لا يمكن تجاهلها. فقد استطاع الإعلام المصري في تلك الفترة أن يجذب المشاهد المصري بعيدا عن القنوات الإقليمية العربية والأجنبية محققا نسبة مشاهدة غير مسبوقة خلقت لديه حالة من تضخم الذات ربما يمكن اعتبارها المسئول الأساسي عن حالة الشطط التي دخلها في تلك الفترة، وعن دوره في تغذية حالة الفوضى القائمة آنذاك. وإذا كان الإعلام قد نجح خلال تلك الفترة كلاعب سياسي بامتياز، فإنه لم يستطع تجاوز عتبة النجاح كإعلام حقيقي كما ينبغي أن يكون. المفاضلة بين التجربتين أو النموذجين على قاعدة إما أو لن تنقل الإعلام إلى ما تطمح له مصر. فالإعلام لكي يكون كذلك يلزمه أفق رحب وتنظيم قادر عل ضبط الأداء وليس مانعا للاستفادة من جهود وإبداعات العاملين في المجال شريطة أن يكونوا مؤهلين جيدا لذلك.
وبدون أدنى مواربة فإن الإعلام المصري حاليا ورغم ما به من مشكلات وما يواجهه من تحديات يظل أفضل كثيرا مما كان عليه في التجربتين السابق الإشارة إليهما، والأهم أنه مهيأ تماما لعلاج تلك المشكلات، خاصة وأن إرادة ذلك العلاج موجودة، ولا شك في أنها ستجد طريقها للتنفيذ إن عاجلا أو آجلا. فالحاجة ملحة لإصلاح الإعلام خاصة فيما يتعلق بالجانب الكيفي حتى يتمكن من أداء الدور المنوط به في تلك المرحلة المهمة من تطور الدولة المصرية، ومواجهة الحرب الإعلامية التي تتعرض لها منذ ثورة 30 يونيو، في ظل حالة من “الانكشاف الإعلامي” الذي تتعرض له مصر، والتي لا ترجع إلى تدخل الدولة بقدر ما ترجع إلى ضعف منظومة الإعلام وعدم قدرتها على مواكبة التغيرات الكبيرة التي طرأت على العمل الإعلامي. أما الإدعاء بأن مشكلة الإعلام هي علاقة الدولة به وتصوير الأمر على أن تلك المشكلة تحل أوتوماتيكيا بخروج الدولة من الساحة الإعلامية فهو تبسيط مخل ويخلق مشاكل بأكثر مما يحل، تماما كان أن محاولة تصدير الخوف أو شئ منه من إعلام الدولة وتصدير أن الإعلام موهبة وفقط ولا يوجد في مؤسسات الدولة بالضرورة من يمتلكها فهو تبسيط مخل أيضا ومحاولة لتصوير إعلام الدولة على أنه شر مطلق مقابل خير مطلق يدعى نسبه لأطراف أخرى (ملاك ومذيعين) بصرف النظر عن توجهاتها ومدى تدخل تلك الأطراف في مضامين الرسائل الإعلامية لوسائل إعلامهم والتي لا تحقق سوى مصالحهم الشخصية، ولا تعمل سوى لتسييد وجهات نظرهم واهتماماتهم وفرضها على المجتمع والنظام معا، بل إن بعضهم كان عنوانا ومستفيدا من تردي الاعلام في التجربتين المشار إليهما، ولكنهم يدعون الحكمة الإعلامية بأثر رجعي. ولكن آفة مدينتنا النسيان.
*نقلا عن صحيفة “الأهرام” نشر بتاريخ ٢٥ نوفمبر ٢٠١٩.
رئيس وحدة الرأي العام/ رئيس تحرير الموقع الالكتروني