أعلنت وزارة الدفاع الروسية في الرابع عشر من نوفمبر الجاري (2019)، عبر قناتها التليفزيونية “زفيزدا”، عن بدء إنشاء قاعدة عسكرية جديدة لها بسوريا. وسوف تقع القاعدة الجديدة بمدينة القامشلي الواقعة على الحدود التركية-السورية. وبحسب الإعلان الروسي، ستضم القاعدة منظومة دفاع جوي، وغرفة تحكم بالطيران، ومعدات تدريبية. وبحسب المسئول عن القاعدة، ستتمثل مهمة القاعدة في تعزيز نطاق نشاط المروحيات بالمنطقة، وتأمين المنطقة وحماية المروحيات التي ستحلق بها. وفي إجراء استباقي، قامت روسيا بنشر عدد من المدرعات بمنطقة القامشلي، كما تم نشر ثلاث طائرات مروحية بالقاعدة الجديدة بينها طائرتان هجوميتان من طراز “ميج 35″، وطائرة للنقل العسكري من طراز “ميج 8″، مصحوبة بمنظومة من الدفاع الجوي من طراز “بانتسير”.
وتُعد القاعدة الروسية الجديدة بمثابة أول موطئ قدم روسي في شمال سوريا. وبحسب ما أعلنه الجانب الروسي، فإن إنشاء القاعدة الجديدة يهدف إلى تلبية حاجات لوجيستية موضوعية، حيث إن نقل المروحيات التي تشارك في الدوريات من حميميم إلى المنطقة سيكون مكلفًا ومحاطًا بصعوبات، بما يعني حاجة موسكو إلى مركز انطلاق جوي لتأمين مروحياتها وتقليص التكلفة والجهد.
التواجد العسكري الروسي في سوريا
يرجع التدخل العسكري الروسي في سوريا إلى سبتمبر 2015، عقب دعوة مباشرة من الرئيس السوري “بشار الأسد”. وتمتلك روسيا العديد من القواعد العسكرية التي تدير من خلالها العمليات الموجهة ضد “المعارضة” السورية، هذا إلى جانب حضورها البارز بالمطارات والقواعد العسكرية السورية. وفي هذا السياق، تبرز قاعدة حميميم الجوية وميناء طرطوس البحري كقاعدتين روسيتين دائمتين على الأراضي السورية، وذلك بعد توصل روسيا إلى اتفاق مع النظام السوري تم بمقتضاه تأجير روسيا للقاعدتين لمدة 49 عامًا قابلة للتمديد. وإلى جانب هاتين القاعدتين، هناك حضور روسي بقواعد مطار كويرس بريف حلب، والذي يعد مهبطًا احتياطيًّا للطائرات الروسية العائدة من شرق سوريا، ومطار حماة العسكري، وقاعدة تدمر بريف حمص الشرقي، وقاعدة مطار الشعيرات الذي يعد مركزًا استراتيجيًّا رئيسيًّا للعمليات الروسية في سوريا، وقاعدة مطار الضبعة بريف حمص، وقاعدة جبل زين العابدين بريف حماة، الذي يضم قوات الحرب الإلكترونية، وقاعدة لراجمات الصواريخ، وقاعدة بلدة خربة رأس الوعر بريف دمشق.
وإلى جانب ما تقدمه القوات الروسية من دعم جوي لتحركات الجيش السوري، وانتشار لعناصر من الجيش الروسي والشرطة العسكرية الروسية بالمدن السورية ونقاط المراقبة الخاصة بمناطق خفض التصعيد، هناك أيضًا الفيلق الخامس الذي يُمثّل الذراع العسكرية الروسية على الأرض. فقد أسست روسيا هذا الفيلق في نوفمبر 2016 بغرض قيادة العمليات البرية والإشراف عليها بشكل مباشر، دون الحاجة للاعتماد على التشكيلات التي تُديرها إيران. وقد ارتبطت تحركات الفيلق مباشرة بقاعدة حميميم وما ترتئيه القيادة الروسية بشكل منفصل عن وزارة الدفاع السورية. وقد سعت روسيا من خلال تشكيل هذا الفيلق إلى تحقيق سيطرتها الميدانية بشكل أكبر من خلال تشكيل قوة موالية لها بالأساس، ولمواجهة تصاعد نفوذ وامتداد سيطرة الميليشيات الإيرانية على الأراضي السورية.
وفي أعقاب إعلان الولايات المتحدة انسحابها من مناطق الشمال السوري والتوافق الروسي-التركي بشأن شرق الفرات، عمدت روسيا إلى تعزيز تواجدها بهذه المنطقة عبر إنشاء عدة قواعد عسكرية بمحافظتي الحسكة والرقة. وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، فإلى جانب قاعدة القامشلي، استغلت روسيا انسحاب الولايات المتحدة من قواعدها العسكرية لتبسط سيطرتها على خمس قواعد، تمثلت في: قاعدتي “عون الدادات” و”العسلية” في منطقة منبج، وقاعدة “مطار عين عيسى” بريف الرقة الشمالي، وقاعدتي “مشتى النور” و”صرين” بريف عين العرب كوباني، والتي سيطرت عليها القوات الروسية بعد الانسحاب الأمريكي منها بيوم واحد فقط، حيث نشرت بتلك القاعدة قواتها ومدرعاتها لتصبح نقطة انطلاق للشرطة الروسية نحو شمال شرقي سوريا، وحائط صد أمام إمكانية عودة القوات الأمريكية مجددًا.
وإلى جانب القواعد الأمريكية الجاهزة سلفًا، عملت روسيا على إنشاء أربع قواعد جديدة بمحافظة الرقة وريف حلب الشرقي. تقع القاعدة الأولى بمطار الطبقة العسكري بريف الرقة الغربي، والثانية بمدينة عين عيسى شمال مدينة الرقة وعلى خطوط التماس بين قوات “نبع السلام” والوحدات الكردية وجيش النظام السوري، وتقع القاعدة الثالثة بالفرقة ١٧ مشاة الواقعة بالمحيط الشمالي الشرقي والمحاذية لمدينة الرقة، وأخيرًا تقع القاعدة الرابعة بقرية السبت شمال قاعدة صرين.
القاعدة الروسية الجديدة في مواجهة أنقرة وواشنطن بالشمال السوري
تأتي قاعدة القامشلي في سياق عدد من الاتفاقات بين الفاعلين في شمال سوريا. كانت البداية في الثالث عشر من أكتوبر الماضي، وبعد مرور أربعة أيام على انطلاق عملية “نبع السلام”، حيث توصل الجانبان السوري والكردي برعاية روسية إلى اتفاق نص على انتشار الجيش السوري على طول الحدود مع تركيا “للتصدي لهجوم أنقرة والفصائل السورية الموالية لها.” تلا هذا الاتفاق، اتفاق آخر بين الولايات المتحدة وتركيا في السابع عشر من أكتوبر، تضمن إقرار الولايات المتحدة بما حققه الجانب التركي من تطورات ميدانية بمنطقة شمال شرق سوريا، والاتفاق على توقف العملية التركية مقابل قيام قوات سوريا الديمقراطية بسحب عناصرها وتشكيلاتها المقاتلة وأسلحتها الثقيلة من نطاق المنطقة الآمنة، إلى جانب تدمير جميع تحصيناتها الحربية. وأخيرًا، عقد الجانب التركي اتفاقه الأخير مع روسيا، والذي اشتمل على تأكيد الجانبين حفاظهما على منطقة عمليات “نبع السلام” كما هي حاليًا، والتشديد على أهمية اتفاق أضنة، وأن موسكو ستكون الضامن الأساسي لتطبيقه، علاوة على الاتفاق على وقف إطلاق النار من جانب تركيا في مقابل انسحاب القوات الكردية من منطقة شرق الفرات بعمق 32 كم وطول 150 كم من المنطقة عدا منطقة “القامشلي” التي دخلتها عناصر من الجيش السوري، لتبدأ بعدها موسكو وأنقرة في تسيير دوريات مشتركة للمحافظة على الوضع في المنطقة الحدودية. وعلى إثر هذا الاتفاق، أعلنت قوات سوريا الديمقراطية في السابع والعشرين من أكتوبر سحب قواتها من “كامل المنطقة الحدودية” مع تركيا بموجب الاتفاق التركي الروسي، على أن يحل محلها حرس الحدود السوري.
مسألة إنشاء قواعد عسكرية جديدة أو العودة إلى قواعد عسكرية سابقة لم يكن مقصورًا على روسيا فقط؛ فرغم الإعلان الأمريكي عن الانسحاب من سوريا، وهو الإعلان الذي مهد لعملية “نبع السلام” التركية، فإن التقارير تشير إلى عودة القوات الأمريكية إلى المواقع التي انسحبت منها سابقًا. وقدرت هذه التقارير انسحاب الولايات المتحدة من 16 قاعدة ونقطة عسكرية خلال الأعمال العسكرية التركية ابتداءً من منبج مرورًا بعين العرب والرقة وصولًا إلى الحسكة، مع الإبقاء على قواتها بمحافظة دير الزور، وقواعدها القريبة من الحقول النفطية بمحافظة الحسكة. وبناءً على الاتفاق التركي الأمريكي، استعادت القوات الأمريكية سيطرتها مجددًا على قواعدها الخمس بمحافظة الحسكة، إلى جانب البدء في إنشاء قاعدتين جديدتين بمنطقتين مختلفتين بذات المحافظة، الأولى ببلدة القحطانية شرق مدينة القامشلي على بعد 6 كم من الحدود التركية، وتضم تلك البلدة حقولًا نفطية، والثانية بقرية “حيمو” غرب مدينة القامشلي، وعلى بعد 4-5 كم من الحدود التركية. وفي تفسيره لإعادة الانتشار مجددًا، أوضح الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” أن قواته ستبقى بمنطقة شمال شرق سوريا لحماية النفط، وهو ما يبرر استمرار وجود قواته بالقواعد القريبة من الحقول النفطية.
ومن الجدير بالذكر أن تركيا لديها 12 نقطة مراقبة داخل محافظات إدلب وحماة وحلب السورية بالاتفاق مع روسيا وإيران، وذلك في إطار اتفاق خفض التصعيد بالمناطق الفاصلة بين القوات الحكومية السورية والمعارضة. وعززت تركيا لاحقًا هذه النقاط على نحو أصبحت معه أقرب إلى القواعد العسكرية. يضاف إلى ذلك إنشاء تركيا العديد من القواعد العسكرية بالمناطق الخاضعة كليًّا لسيطرتها كمناطق الباب وجرابلس وإعزاز وعفرين. ومؤخرًا، أشارت وكالة الأنباء السورية (سانا) إلى قيام القوات التركية بإنشاء قاعدة جديدة بقرية الحواس بريف رأس العين الجنوبي.
وعقب الاتفاق الأخير بين قسد والجيش السوري والقوات الروسية، بوضع بلدة “تل تمر” الواقعة شرق رأس العين تحت الوصاية الروسية أصبحت المنطقة الممتدة من القامشلي إلى عين ديوار (وهي آخر بلدة بأقصى شمال شرق سوريا، وعلى بعد23 كم تقريبًا من نقطة الحدود الثلاثية بين العراق وسوريا وتركيا) خاضعة للجانب الأمريكي، بينما تقع المنطقة الممتدة من القامشلي إلى رأس العين ومن تل أبيض إلى عين العرب كوباني تحت الإدارة الروسية السورية، أما المنطقة الممتدة من رأس العين إلى تل أبيض، فضلًا عن المنطقة الممتدة من جرابلس حتى عفرين، فخاضعة للسيطرة التركية والفصائل الموالية لها، وذلك في ظل تواجد لقوات النظام السوري بامتداد الحدود السورية التركية وبمدينتي القامشلي ومنبج.
ويمكن القول إن تركيا قد حققت هدفها من عملية “نبع السلام” والمتمثل في تحقيق سيطرتها على المنطقة الممتدة من تل أبيض إلى رأس العين، ولكن لم يقف الأمر عند حد الهدف التركي؛ فمن خلال ما تقدم، يمكن القول إن روسيا قد استطاعت أن تُرسي لنفسها وجودًا كبيرًا بمنطقة الشمال السوري. فمن ناحية، قد يكون التحرك الروسي ناتجًا عن رغبة في تثبيت أركان وجود روسي مواجه ومتابع عن قرب للوجود وللتحركات الأمريكية بتلك المنطقة. من ناحية أخرى، قد تستهدف روسيا من توسيع نفوذها للشمال السوري محاولة الحد من الطموح التركي بتلك المنطقة المتمثل في إخضاع كامل النطاق الحدودي التركي السوري -وصولًا إلى الحدود العراقية السورية- إلى النفوذ التركي. كما تسعى روسيا من تواجدها أيضًا إلى إقناع تركيا بالخضوع لمقتضيات “اتفاق أضنة” في مقابل التنازل عن “المنطقة الآمنة”.
لقد أثبتت روسيا من تحركاتها الأخيرة أنها فاعل رئيسي محدد لمجريات الأمور بالأزمة السورية؛ فعلى الرغم من العودة الأمريكية للساحة السورية، إلا أن روسيا قد أثبتت استمرار تحكمها في مسار الأزمة السورية بشكل كبير؛ فنتيجة للقرارات الأمريكية المتخبطة المرتبطة بموقفها من الأكراد، لجأ الأكراد إلى الاتفاق مع روسيا لحمايتهم من الهجوم التركي؛ مما منح روسيا مساحة جديدة للحركة بين مختلف الأطراف، وساهم في تحقق امتداد جديد لسيطرة النظام على مساحات جديدة من الأرض السورية، الأمر الذي يعني أن المحطة القادمة أمام التحرك الميداني السوري الروسي قد تكون منصبة على محافظة إدلب.
وفي النهاية، تجدر الإشارة إلى أنه حتى الآن لم يبرز أي نشاط إيراني بمنطقة الشمال السوري، لتكون إيران بذلك الفاعل الوحيد البعيد عن التطورات الجديدة الجارية بتلك المنطقة. وقد يكون هذا التراجع نتيجة لانشغال النظام الإيراني بأزمته مع الولايات المتحدة والأوضاع الداخلية.