تُشير تقارير التسلح الدولية إلى مؤشرات جديدة حول حركة الأسلحة في ليبيا، تعكس تراجعًا نسبيًّا لحالة العشوائية التي سادت خلال الفترة السابقة، مقابل تحولها إلى حالة تسلح شبه منظمة في ظل استمرار تدفق الأسلحة لصالح قوى وجماعات مسلحة شبه عسكرية كالميليشيات وتنظيمات التطرف العنيف في المرحلة الحالية. كما تزايد الطلب على المنظومات العسكرية النوعية الدفاعية والهجومية وأسلحة الجيوش الصغيرة. ووفق تقارير الأمم المتحدة ومجلس الأمن والسلم الإفريقي لا تزال هناك صعوبات كبيرة في عملية ضبط التسلح في ليبيا بشكل عام، على الرغم من استمرار سريان قرارات الحظر ثم القيود الأممية على حركة السلاح إلى ليبيا، والتي بدأت بقرار الحظر رقم 1970 الصادر في 26 فبراير 2011، ثم القرار1973، والقرار 2174 في أغسطس 2014 الذي سمح بإمداد مشروط بناء على موافقة لجنة العقوبات والجزاءات. ثم صدر في يونيو 2016 القرار 2292 بتشكيل لجنة الحظر والتفتيش وحظر الطيران وتفتيش شحنات الأسلحة في أعالي البحار والذي تم تمديده لمدة عام بدءًا من يونيو 2019.
وتُلقي هذه الظاهرة بتداعياتها على حالة الاستقرار الشامل في البلاد، وتكشف عن أحد أبرز مظاهر هشاشة الدولة وضعف مناعتها، فلا تزال عملية التسوية السياسية متعثرة في ضوء التصعيد العسكري بين الشرق والغرب الليبي، كما تنتعش مظاهر وظواهر الأمن غير التقليدي التي تشكل القاسم المشترك في الدول التي شهدت انهيارًا مؤسسيًّا سياسيًّا وأمنيًّا في أعقاب اندلاع ثورات مسلحة في بعض الدول التي شهدت الموجة الأولى لما يُسمى بالربيع العربي، كحالات ليبيا وسوريا واليمن. ومن المتصور أن التحديات التي تواجه إعادة بناء المؤسسة العسكرية والأمنية في تلك الدول هي التحدي الرئيسي أمام تقويض مظاهر عدم الاستقرار.
وتُعد ظاهرة انتشار الميليشيات أو “الجيوش الصغيرة” وتسلحها بنظم تسلح غير تقليدية (الطائرات دون طيار “الدرونز”، والمتفجرات النوعية، والألغام البرية والبحرية، ونظم التسلح المحمولة، ومنظومات وبرامج الاتصالات الفضائية.. إلخ) بالإضافة إلى القدرات فوق التقليدية في بعض الحالات، مثل حصول تلك التنظيمات على منظومات صاروخية، إضافة إلى التسلح التقليدي كالتدريع والأسلحة الثقيلة والمتوسطة؛ تشكل إجمالًا أحد أبرز التحديات التي تواجه عملية إعادة بناء الجيوش من الناحية الأمنية، بالإضافة إلى التحالفات المرنة بين شبكات الميليشيات وجماعات المصالح السياسية من جهة، وجماعات التطرف العنيف والجريمة المنظمة من جهة أخرى، وهو الطابع الغالب على الغرب في الحالة الليبية.
القاسم المشترك في أغلب النتائج التي توصلت إليها تقارير التسلح الدولية عن حالة ليبيا الصادرة مؤخرًا أن عملية حظر التسلح التي فرضتها الأمم المتحدة على تصدير السلاح إلى ليبيا لم تحقق الفاعلية المطلوبة في كبح ظاهرة فوضى التسلح، وأن هناك استمرارية في تهريب الأسلحة إلى ليبيا لا تُلبي أغراض الأطراف المتصارعة في حسم الصراع فيما بينها، بل على العكس تزيد من حدة الصراع وتشكل عاملًا محفزًا لاستمراريته. كما تشكل بذورًا لإعادة إنتاج الصراعات بأنماط مختلفة عبر المراحل الانتقالية المتعاقبة.
خلال الأسبوع الماضي، كشف ثلاثة مسئولين في الملف الليبي عن ملامح التحولات في ظاهرة التسلح “شبه المنظم” في ليبيا. ففي إفادته الأخيرة أمام مجلس الأمن، كشف المبعوث الأممي إلى ليبيا “غسان سلامة” عن انتهاك العديد من الدول لحظر التسلح المفروض على ليبيا، في معرض تأكيده على استمرار ظاهرة الانقسام الليبي. وفي الوقت ذاته، كشف مفوض الأمن والسلم للاتحاد الإفريقي “إسماعيل شرقي”، خلال مشاركته في الاجتماع رقم 13 لنقاط الارتكاز للمركز الإفريقي للدراسات والبحوث حول الإرهاب بالجزائر العاصمة، عن بُعد آخر ذي صلة بتحولات الظاهرة يتعلق بمقاربة الإرهاب وفوضى التسلح في ليبيا، حيث أشار إلى أن ثلث الأسلحة “الأكثر تطورًا” التي بحوزة الإرهابيين في إفريقيا ليبية المصدر، وأن الإرهابيين بصدد استعمال الطائرات دون طيار “الدرونز” في هجماتهم ضد الجيوش والسكان. أما البعد الثالث فكشف عنه “خالد المشري”، رئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا، حيث قال في حوار إعلامي مؤخرًا إن هناك 23 مليون قطعة سلاح منتشرة في ليبيا لدى كل الفصائل المتنازعة، موضحًا أن معدل انتشار السلاح في ليبيا يبلغ في المتوسط 3 قطع سلاح لكل مواطن ليبي، بما فيها دبابات.
ويُمكن من خلال تحليل هذه الإفادات والتصريحات قراءة أبعاد التحولات في ظاهرة التسلح في ليبيا مرحليًّا، مع ملاحظة أنها تشكل مؤشرات أولية على التحولات في الظاهرة، في ضوء الإشارة إلى أن بعضها يشكل تقديرات رسمية، والآخر يشكل تقديرات غير رسمية، وذلك على النحو التالي:
مؤشرات التحول
تتفق أغلب التقارير والتقديرات الدولية والإقليمية على أن ليبيا هي أكبر مخزن للسلاح، وأكبر موقع لحركة التسلح الفوضوي في القارة الإفريقية، وهو ما يمكن استنتاجه من العديد من تلك التقارير، بناءً على عدة مؤشرات منها:
1- تسليح القوى المسلحة العسكرية وشبه العسكرية: وفقًا لتقرير معهد استكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) الصادر في الربع الأول من العام الجاري 2019، تُعد ليبيا من بين أكبر أربع دول مستوردة للأسلحة في القارة الإفريقية، إلى جانب الجزائر والمغرب وتونس، والتي تمثل مجتمعة 75٪ من واردات الأسلحة من القارة الإفريقية.
وفي مطلع سبتمبر 2019 وثق المبعوث الأممي “غسان سلامة” في إفادته أمام مجلس الأمن 40 حالة انتهاك للحظر المفروض على التسليح من جانب الطرفين الرئيسيين في النزاع في ليبيا والدول الأعضاء الراعية لكل منهما.
وكان الدور التركي في عملية التسليح هو الأكثر رصدًا لعمليات التسلح كونها معلنة من مصادر رسمية، ومنذ إطلاق عملية الكرامة (أبريل 2019) تسعى حكومة الوفاق إلى التغطية على مصادر تسلحها من الجانب التركي، سواء من خلال التأكيد على مشروعية الحصول على السلاح من أنقرة تارة، أو بمحاولة التغطية على تلك العمليات بتوجيه اتهامات مسيسة إلى الدول المؤيدة لمعركة الكرامة بتقديم دعم للمؤسسة العسكرية تارة أخرى. لكن هناك إشارات واضحة على تحول نوعي في الأسلحة المستخدمة، لا سيما “الدرونز” والمدرعات. وبشكل عام، تفيد تقارير دولية وتركية بأن أنقرة توسعت في بنيتها العسكرية في ليبيا منذ يوليو 2019.
وتكشف تقارير التسلح الدولية السابقة لهذا الاستعراض بأن هناك 31 مصدرًا للتسلح في ليبيا، منها 30 مصدرًا معلومًا، وأغلبها أسلحة أوروبية المصدر، أما الجهات غير المعلومة فقد أُدرجت في بند واحد، واللافت أنها تشكل المصدر الرئيسي لعمليات التسلح في ليبيا كونه يرتبط بمصادر يصعب حصرها من عمليات التهريب والاتجار.
2- تسليح الميليشيات الصغيرة والأفراد: تطورت عملية تسليح الميليشيات الليبية والأفراد مرحليًّا بتطور الصراع في ليبيا. ففي بداية الصراع 2011، تمكنت أغلب الميليشيات من الحصول على قدر كبير من المخزون التسليحي الليبيي مع الاستيلاء على العديد من مخازن الأسلحة التي كان يمتلكها النظام السابق. ووفق تقديرات الاستخبارات البريطانية آنذاك mi6 تجاوز مخزون السلاح الليبي ترسانة الأسلحة البريطانية.
ومع التحولات الخاصة بظاهرة الإرهاب العابر للحدود في ظل انهيار تنظيم “داعش” في سوريا والعراق، والتركيز على توجه عناصر التنظيم إلى الساحة شمال ووسط إفريقيا؛ أصبحت ليبيا تشكل أحد الروافد الرئيسية لتسلح تلك التنظيمات بحدود الثلث، كما سبقت إشارة مفوض الأمن والسلم لدى الاتحاد الإفريقي (مع الإشارة إلى أن هذا الرقم نفسه استخدمه الرئيس النيجيري “محمد إيسوفو” في منتدى رودس السنوي في منتصف أكتوبر 2019، حيث أشار إلى تهريب 23 مليون قطعة سلاح من ليبيا، وبالتالي تظل تلك المؤشرات عبارة عن تقديرات غير رسمية).
ومع إطلاق الناتو عملية عسكرية لإسقاط النظام في ليبيا، تحولت ليبيا إلى ساحة هي الأضخم من نوعها في المنطقة كمصدر للأسلحة وكسوق للتهريب منها وإليها، حيث لم تصبح عملية التسلح حصرًا على الميليشيات وإنما الأفراد أيضًا، وقدرت “أوكسفام” آنذاك أن هناك نحو 900 ألف قطعة سلاح تقريبًا (خفيفة ومتوسطة) لدى الأفراد في ليبيا. واستمرت هذه الظاهرة عبر سنوات الصراع الممتد لتتضاعف بلا حدود، منها الشراء عبر السوق السوداء للأسلحة أو عبر الإنترنت من السوق المحلية والخارجية. يؤكد ذلك تقديرات الأمم المتحدة حول الآثار العكسية لاستهداف مخازن الأسلحة الليبية، حيث كانت تقدر مخزون الأسلحة في ليبيا بحوالي (250 – 700 ألف) قطعة سلاح في ليبيا، 70% منها بنادق هجومية، والباقي منها أسلحة متوسطة وثقيلة، منها 20 منظومة دفاع جوي محمولة من ترسانة التسلح الليبية من الاتحاد السوفيتي السابق.
3- مسارات مختلفة: تظهر تقارير التسلح الدولية وجود تعارض في مصادر التسلح للقوى الليبية المختلفة، حيث تظهر بعض التقارير أن هناك دعمًا سياسيًّا لطرف يقابله دعم عسكري لطرف آخر، وهناك احتمالات أيضًا بأن هناك صفقات تسلح يتم تسليمها لصالح أطراف السلاح في ليبيا، في حين أن المؤشر الأكثر خطورة هو قدرة جماعات التطرف العنيف على الحصول على الأسلحة النوعية في ليبيا. على سبيل المثال، كانت الأطراف الرئيسية المتوقع أن تبرم عقودًا في مرحلة ما بعد الإطاحة بنظام “القذافي” هي فرنسا وإيطاليا وروسيا والمملكة المتحدة، لكن هذه الأطراف اضطرت للتصويت في مجلس الأمن على قرارات حظر التسلح، وفي المرحلة الحالية هناك عدة مسارات في اتجاهات حركة الأسلحة.
الاتجاه الأول: هو ما يمكن وصفه بالاتجاه الواحد، حيث تسير صفقات التسلح في اتجاه واحد من جانب تركيا تجاه حكومة الوفاق، منها منظومة الدرونز “بيرقدار” TB2، وظهرت أيضًا شحنات لمدرعات Kirpi. ويلاحظ أن هذه الأسلحة من إنتاج مجموعة BMC التركية–القطرية، في حين أن الشركة المنتجة لمنظومة الدرونز TB2 يمتلكها صهر الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، بالإضافة إلى أن تركيا مولت شحنات أسلحة جوًّا وبحرًا، منها على سبيل المثال شحنات منسوبة لشركة Ukraine Air Alliance الأوكرانية للشحن الجوي لعدد من الرحلات لطائرة “أنتينوف” إلى ليبيا مرورًا بمطارات داخلية تركية وصولًا إلى مطار مصراتة، رُصد منها رحلات في 28 مايو، 31 مايو، والأول من يونيو 2019. وعلى التوازي جرت عمليات شحن بحري في 19 مايو، حيث انطلقت السفينة “أمازون” من ميناء ساسون التركي وكانت تحمل علم ملدوفا، وكانت تحمل على متنها نحو 40 مدرعة وأفرغت حمولتها في ميناء طرابلس. وعلى المستوى التشغيلي وبالنظر إلى طبيعة المنظومات النوعية مثل الدرونز، فإن الأمر اقتضى تواجد فريق عمل تركي متخصص في إدارتها. وفي نوفمبر 2019 اعترف “خالد المشري” رسميًّا بدعم تركي–قطري لقوات الوفاق بالأسلحة.
الاتجاه الثاني: هو ما يمكن وصفه بالمسارات المزدوجة، ويظهر ذلك في الأسلحة التي يستخدمها طرفا الصراع، أو ما يتم إسقاطه. من ذلك ما شهده الأسبوع الماضي من الإعلان عن إسقاط طائرة إيطالية من جانب الجيش الوطني وسط شكوك بأنها تعمل لصالح قوات الوفاق، وكذلك الأسلحة الصينية. كما تشير تقارير محلية ليبية إلى أن كلًّا من فرنسا وروسيا دعمتا الجيش الوطني سرًّا، في حين أن روسيا تؤكد أنه لا دلائل على هذا الاتجاه، فقد قال “سيرجي تشيمزوف”، مدير الشركة الحكومية الروسية المسئولة عن صادرات الأسلحة، ردًّا على تقرير لـ SIPRI أشار لوجود طائرات حربية وقوارب دفاع ساحلي: “إن روسيا ستخسر 4 مليارات دولار بسبب الاضطرابات في ليبيا وما تلاها من حظر للأمم المتحدة”. ويُعتقد أن تلك الأسلحة كانت من مخلفات ترسانة الأسلحة لدى النظام السابق، أو أنها مبيعات لدول وسيطة، وهو الحال ذاته لعدد من الدول الأخرى التي تتهم بدعم الجيش الليبي.
الاتجاه الثالث: وهو “مسارات الظل”، أو “الأسواق السوداء”، التي تنتعش فيها تجارة الأسلحة للميليشيات وتنظيمات التطرف العنيف، وهي سوق هائلة في المرحلة الحالية لرواج صفقات تسلح ضخمة للأسلحة الصغيرة والمتوسطة النوعية ولمنظومات الدرونز. ويُعد الإنترنت أحد أبرز ساحات هذه الأسواق. ووفقًا لمجموعة الأسلحة الصغيرة (SAS)، انتعشت هذه التجارة لدى فئات مختلفة بعد عام 2011 في ليبيا، لكن استفادت منها الجماعات الإرهابية والميليشيات المسلحة، وكذلك الأفراد الراغبون في شراء الأسلحة بطريقة غير قانونية. واللافت -في هذا السياق- أن العمليات التي رُصدت شملت طلبات على الأسلحة الثقيلة إلى جانب الأسلحة الخفيفة والمتوسطة. وفي بداية الأمر كان يُعتقد على نطاق واسع أن هذه السوق محلية، لكن مع اتساع نطاق تهريب هذه الأسلحة من ليبيا إلى دول الجوار التي تضررت منها فالمجموعة تشير إلى أن هناك صعوبات في تدقيق الحصر والنوعية لعمليات الانتشار الإقليمي، لكن من الواضح أنها رائجة. كذلك تشكل عمليات البيع المباشر من جانب التجار الصغار لنفس النشاط مع التنظيمات وجماعات الإرهاب والجريمة، بالإضافة إلى عمليات سرقة مخازن الأسلحة وفقًا لتقارير دولية منها تقرير أوكسفام السابق الإشارة إليه.
دوافع التحول
من المتصور أن هناك خمسة أبعاد رئيسية تشكل دوافع التحول في الظاهرة الحالية التي تشهدها الساحة الليبية والتي تشكل -في الوقت ذاته- مؤشرات على التحديات الأمنية، هي:
1- انعدام فاعلية آليات الاستقرار السياسي: مرت ليبيا بثلاث مراحل انتقالية تقريبًا على مدار العقد الحالي منذ الإطاحة بنظام العقيد “القذافي” في فبراير 2011. وعلى الرغم من الاتفاق على آليات سياسية كان من المفترض أن تشكل آليات للاستقرار السياسي والأمني، إلا أن هذا لم يتحقق في الواقع، نتيجة عوامل كثيرة، أبرزها تفكك البنية المؤسسية في الدولة، وصولًا إلى مرحلة الانقسام الحالية، في ظل مرحلة “اتفاق الصخيرات” وتركز السلطة السياسية في الغرب الليبي في يد مجموعات مصالح واحدة في مقابل عدم اعترافها بالسلطة التشريعية والمؤسسة العسكرية بسبب تعارض مصالحها وسعيها في الأخير إلى محاولة بناء سلطات موازية لتعزيز حالة الانقسام.
2- استمرار التدخل الخارجي: بدأ التدخل الخارجي بفعل عملية الناتو العسكرية للإطاحة بالنظام السابق، ما أدى إلى تفكك البلاد كما سبقت الإشارة، لكن تزايد مؤشر التدخل الخارجي في ظل حالة الانقسام، كما تعزز بالتبعية في إطار تباين مصالح القوى الخارجية الإقليمية والدولية. وبعد أن كان محصورًا في عدد من القوى الغربية، ذات المصالح التقليدية في ليبيا مثل إيطاليا وفرنسا، تضاعفت تلك التدخلات في ظل التصعيد العسكري المتبادل بين الشرق والغرب، ودخلت قوى جديدة على خط الصراع، منها الولايات المتحدة التي كانت تراجعت خطوات إلى الخلف مقتصرة على عمليات مكافحة الإرهاب الذي يُعتقد أنه سيتصاعد مع الظهور “غير الرسمي” المحدود لروسيا من خلال مجموعة “فاجنر”، بالإضافة إلى التواجد التركي المتصاعد في إدارة العمليات العسكرية في الغرب الليبي، مع اتّهام حكومة الغرب قوى عربية إقليمية كمصر والإمارات بالتدخل، في الوقت الذي تؤكد فيه مصر أن حدود التدخل ترتبط بمحددات أمنها القومي، لا سيما عمليات ضبط الحدود المشتركة.
3– إعادة هيكلة بنية الميليشيات المسلحة: وأغلبها ميليشيات محلية وبعضها ميليشيات “مرتزقة” وافدة تضم بعض العناصر الوافدة من الجوار الليبي. وقد أعيدت هيكلة هذه الميليشيات تحت مظلة حكومة الوفاق، كرد فعل مضاد من جانبها مع إطلاق الجيش الوطني معركة “طوفان الكرامة” في أبريل 2019، لتقويض بيئة الميليشيات والتطرف على الساحة الليبية.
4- زيادة معدلات الإنفاق العسكري: رصدت حكومة “السراج” ميزانية خاصة بالإنفاق العسكري بعد إطلاق الجيش الوطني عملية “طوفان الكرامة” بلغت 1.43 مليار دولار، منها 28.5 مليون دولار لـ”وزارة الدفاع” التابعة لها، وحوالي 2135 دولارًا كراتب (مكافأة) للفرد من عناصر الميليشيات التابعة لها، دون أن تحدد الرقم أو إجمالي تلك العناصر. كما لا توجد إشارة إلى حجم الإنفاق على صفقات التسلح الواردة لها من الخارج، كما هو الحال بالنسبة للصفقات التركية. لكن إجمالًا تتراوح تقديرات حجم الإنفاق العسكري الليبي بشكل عام -وفقًا لتقارير التسلح الدولية للعام الجاري 2019- حول 3 مليارات، ومنها تقديرات Global Fair Power. فيما تقدر التقارير الدولية المتخصصة في معدلات الإنفاق العسكري أنه من المتوقع أن تتزايد عمليات الإنفاق العسكري في ليبيا إجمالًا بمعدل نمو سنوي مركب في حدود أكثر من 1.5% لتصل إلى حوالي 3.4 مليارات دولار أمريكي في عام 2023، وتشير إلى أن دوافع زيادة الطلب على المتطلبات العسكرية تعود إلى اتجاه الحكومة لشراء أنواع مختلفة من الطائرات المقاتلة والهيلوكوبتر، بالإضافة إلى عربات ورادارات ومعدات مراقبة أخرى.
5– ضعف السيطرة على الحدود: في ظل الفوضى السياسية التي عاشتها ليبيا في مرحلة ما بعد ثورة فبراير لم يكن هناك ضابط للحدود الليبية المترامية الأطراف، حيث تشترك حدودها البرية مع 6 دول (مصر، والسودان، وتشاد، والنيجر، والجزائر، وتونس)، ولديها أكبر ساحل مطل على المتوسط. وتعاني أغلب دول الجوار من عمليات انتهاك الحدود الليبية في إطار التحديات الأمنية العديدة الخاصة بالصراع في ليبيا، إلى جانب مسارات الهجرة غير الشرعية التي تعاني منها دول شمال المتوسط الأوروبية.
خلاصة
إن تحوّل ظاهرة التسلح في ليبيا من التسلح “العشوائي” إلى التسلح “شبه المنظم” يُعطي انطباعًا بإمكانية السيطرة أو ضبط التسلح في ليبيا، وهو انطباع خاطئ إلى حد كبير. فإذا كان نمط التحول تحولًا انتقاليًّا لكنه لم يُنهِ الظواهر السابقة التي لا تزال نشطة حتى وإن تراجعت، لكن من المؤكد أن الظاهرة الأحدث أكثر خطورة بالنظر إلى عدة عوامل، منها أنها تشكل تحديًا أمام عملية استعادة بناء الدولة في ليبيا، لا سيما عملية بناء القوة المسلحة التي تشكل عماد الدولة في المنطقة العربية، وكذلك الحالة الانتشارية للظاهرة قيد التحول، حيث إن امتلاك الميليشيات للأسلحة الأكثر تقدمًا لا يمكن السيطرة عليه، والدليل على ذلك نشاط حركة الأسلحة من ليبيا إلى دول الجوار، عبر جماعات الاتجار غير الشرعية ومنظمات الجريمة وتنظيمات الإرهاب.
وعلى الرغم من تمدد الأمن تدريجيًّا مصحوبًا بتنامي حضور الجيش الوطني، لكنه لم يكن مصحوبًا بمظاهر القيادة والسيطرة الفعلية على أغلب المواقع في ظل سلوك جماعات المصالح لا سيما القبائل في مناطق العمق، حيث يظل هناك ميل إلى وقف العنف وفقًا لمواءمات سياسية وأمنية لكن ذلك لم يرتبط بمبادرات لنزع السلاح أو وقف عمليات الاتجار أو التهريب.
وعلى الرغم من قدرة مجموعة العمل الدولية المنبثقة عن الأمم المتحدة على رصد شحنات الأسلحة على المسرح الليبي، لكنّ دولتين فقط أظهرتا تعاطيًا مع الإبلاغ عن عمليات الإمداد والتهريب، كانتا مصر والنيجر، لكن لم تكن هناك آليات ناجحة لتفعيل قرارات الحظر والتفتيش في الحدود البرية والبحرية والجوية.
وتظهر المؤشرات الخاصة بعام 2019 تحولًا نوعيًّا فارقًا في عمليات التسلح، من الأسلحة الصغيرة والمتوسطة إلى الأسلحة الاستراتيجية، التي غيرت في شكل معارك حرب المدن من الحرب الأرضية إلى الجوية مع دخول أنماط جديدة من الأسلحة، وأصبحت تغذية الصراع تعتمد على التسلح الخارجي بشكل أساسي وهو ما ظهر في العديد من المؤشرات ومنها المقاتلات والصواريخ والدرونز، واكبه تحول نوعي في اللوجستيات مثل: تشغيل قواعد ومطارات، والدعم الاستخباري، وغرف العمليات.. إلخ. وقد تسبب الصراع المسلح في خسائر هائلة في البنية التحتية للبلاد قُدرت بعد سقوط النظام السابق بحوالي ما بين 150-200 مليار دولار. ووفق تقرير البنك الدولي المنشور في فبراير 2019 قبل اندلاع معركة طرابلس يشير إلى أنه يمكن فقط إعادة إعمار البنية التحتية في البلاد بحوالي 200 مليار دولار في مدة تستغرق 10 سنوات. وتستنزف الحرب سنويًا حوالي 60% من النتاج القومي بمعدل ما بين (14 – 20 مليار دولار سنويًا) تتوزع ما بين (20 % تكلفة العنف –ومثلها تكلفة احتواء العنف– ومثلها أيضًا تكلفة الفرص المهدرة على التنمية في البلاد).