تطرق صندوق النقد الدولي في سياق تقرير مُراجعته الخامسة للاقتصاد المصري ضمن برنامج الإصلاح الاقتصادي، الصادر في 10 أكتوبر من العام الجاري، إلى بعض الإصلاحات الهيكلية التي تأخرت الحكومة في تنفيذها كما جرى الاتفاق مع الصندوق. ورغم أن جميع هذه الإصلاحات ليست مالية أو نقدية، وبالتالي لا تُعتبر مؤشرًا أساسيًّا يعتمد عليه الصندوق في تقييم نتائج البرنامج؛ إلا أنها تبقى ضمن العوائق التي تحول دون تسريع النمو الاقتصادي، حيث تنصبّ هذه الإصلاحات إما على تعديلات قانونية أو منظومات حكومية، تُضعف بصيغتها الراهنة أداء القطاعات الحقيقية للاقتصاد المصري، وبالتالي إما أنها تُثير تخوفات المُستثمرين، أو أنها ترفع تكلفة مُمارسة الأعمال، أو قد تمنعهم من الدخول أصلًا إلى السوق، وهو ما ينعكس على أداء القطاع والاقتصاد المصري في العموم. ويتناول هذا المقال بعض هذه الإصلاحات الضرورية من حيث وضعها الحالي وتحركات الحكومة لتنفيذها.
أولًا: نظام تخصيص الأراضي الصناعية
يُواجه المُستثمر الصناعي عند بداية تأسيس نشاطه عدة مُعضلات، أولها وأصعبها على الإطلاق هو الحصول على أرض مُخصصة للاستثمار الصناعي، وذلك أولًا بسبب نُدرة هذه الأراضي من ناحية، وثانيًا ما يقوم به سماسرة الأراضي من مُمارسات غير قانونية، تُمكنهم من الحصول على الأراضي بتخصيص من الدولة، ثم يقومون بإعادة بيعها بأسعار مُرتفعة. فوفقًا لمؤشر سهولة الأعمال الصادر عن البنك الدولي، جاءت مصر في المركز 74 من بين 190 دولة في التعامل مع تراخيص البناء، حيث يستغرق الحصول على الترخيص 173 يومًا بعد إتمام 20 إجراء، في حين أن متوسط الوقت اللازم للحصول على الترخيص في دول شرق آسيا 132 يومًا بمتوسط 14.8 إجراء، بينما يستغرق في مجموعة دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD 152 يومًا بمتوسط 12.7 إجراء. ويوضح الشكل التالي تطور ترتيب مصر في المؤشرات الثلاثة خلال الفترة (2008-2020).
شكل (1) يوضح عدد أيام وإجراءات الحصول على ترخيص البناء الصناعي في مصر
وكما هو واضح في الشكل السابق، لم يحدث تغير تقريبًا في عدد أيام الترخيص منذ عام 2010، كما زاد عدد الإجراءات المتوقعة في عام 2020 –حيث يصدر المؤشر عن توقعات الأداء في عام قادم- إلى 20 إجراء مقارنة بـ19 إجراء في 2019. وقد أعلنت هيئة التنمية الصناعية عن إنشاء ما أُطلق عليه “خريطة الاستثمار الصناعي” للتغلب على مُشكلتي الندرة و”التسقيع”. وهذه الخريطة هي عبارة عن بوابة إلكترونية لحجز الأراضي الصناعية المُخصصة لأغراض الاستثمار، تُتاح عبرها إمكانية شراء هذا النوع من الأراضي للمُستثمر المحلي والأجنبي، وذلك عن طريق جمع الأراضي الصناعية المُتاحة لدى الجهات الحكومية المُتعددة مثل المُحافظات، وهيئة التنمية الصناعية وغيرهما وعرضها على خريطة إلكترونية لمصر، بحيث يختار المُستثمر من بينها الموقع الذي يلائمه.
وقد اشتملت الخريطة على 2000 قطعة أرض، بمساحات تتراوح من 1200 إلى 6 آلاف متر، تم فتح باب التقدم لها بداية من سبتمبر 2019، من ثم ستشرع هيئة التنمية الصناعية في تحديد لمن ستُخصص الأرض وفقًا لأولويات الاقتصاد الوطني على أن تكون للمشروعات التي تحتاجها الدولة، والتي تُساهم في تقليل الاعتماد على الاستيراد وتوطين الصناعة المحلية. وفي مقابل هذه الطريقة، فإن صندوق النقد الدولي يرى ضرورة عدم تدخل الهيئة في التخصيص، وأنه لا بد من إعمال آليات السوق في التخصيص بحيث تُطرح الأراضي بالمزاد العلني، وتُطلق لقوى العرض والطلب دون تدخلٍ من أية جهات حكومية بالتخصيص المُباشر، حتى ولو بناء على أولويات مُحددة سلفًا. وجهة نظر الصندوق تستند إلى أن هذا التخصيص قد يخنق السوق ويُخلّ بتوازنه، وقد يمنع الحكومة من تطبيق برنامجها الإصلاحي في صورته الكُبرى والذي يهدف إلى معالجة اختلال ميزان المدفوعات عبر الميزان التُجاري، سواء عن طريق التصنيع للتصدير، أو للإحلال محل الواردات، حيث تركزت الصناعات المصرية خلال الفترة الماضية في صناعات خفيفة سريعة العائد مثل الصناعات الغذائية بأشكالها المُختلفة.
ثانيًا: قانون تنظيم التعاقدات العامة
يُخصص للمُشتريات الحكومية جُزءٌ مُعتبر من الإنفاق الحكومي العام، سواء في الموازنة العامة للدولة، أو موازنة الهيئات الاقتصادية، أو موازنة شركات القطاع العام والشركات القابضة. وبالنظر إلى الموازنة العامة للدولة، نجد أن مُخصصات شراء السلع والخدمات الحكومية خُصص لها في موازنة العام المالي 2019/2020 ما إجماليه 74.9 مليار جنيه بزيادة قدرها 25% عن موازنة العام الماضي والتي بلغت 60 مليار جنيه، وقد بلغت إجمالي المُخصصات التراكمية لهذا الباب -بداية من عام 2007/2008 وحتى العام الحالي- ما إجماليه 489 مليار جنيه، أي أكثر من عُشر الدين العام المصري في يوليو 2019. وبالإضافة إلى حجمها تأتي أهمية هذه المُخصصات من أنها إحدى أهم أدوات الدولة في دفع الاقتصاد المحلي الخاص، في ظل صدور العديد من الكُتب الدورية لوزارة المالية بتفضيل التعاقد على المُنتجات المصرية دون غيرها من المنتجات المُستوردة، خاصةً في ضوء ضعف مُعدلات الاستثمار سواء المحلية أو الأجنبية، ويوضح الشكل التالي تطور مُخصصات هذا الباب.
شكل (2) مُخصصات الباب الثاني (شراء السلع والخدمات) في الموازنة العامة للدولة
لذلك، فقد تضمّن تقرير الصندوق وجود حاجة لسرعة إصدار اللائحة التنفيذية لقانون تنظيم التعاقدات العامة. وذلك رغم ما جرى من إصدار قانون جديد لتنظيم المُشتريات العامة بدلًا من القانون القديم المعمول به مُنذ عام 1998، تحت اسم “قانون تنظيم التعاقدات التي تُبرمها الجهات العامة” برقم 183 لسنة 2018، ليصبح نافذًا بدايةً من شهر أكتوبر من العام ذاته. وقد جاء القانون الجديد ليرتقي بإجراءات الشراء المحلية، لتماثل أفضل الممارسات الدولية استنادًا إلى المبادئ الأساسية للشفافية والإنصاف والمنافسة المفتوحة والإدارة الإجرائية السليمة، كما أُلحق بالقانون “البوابة الإلكترونية للتعاقدات العامة” والتي سيبدأ العمل بها بحلول عام 2020.
ورغم أن الحكومة أعدت مسوّدة اللائحة التنفيذية للقانون الجديد، وستعمل على توحيد إجراءات المشتريات الحكومية في جميع الكيانات العامة التي يدخلها المال العام (بما في ذلك الوزارات والمُحافظات أو الهيئات الاقتصادية)، لضمان شفافية وتنافسية العطاءات الحكومية، وتطبيق القانون بشكل متسق وموحد على جميع الكيانات الحكومية، إلا أن الموافقة النهائية على اللائحة قد تأخرت إلى ما بعد شهر مايو وهو التاريخ المحدد من جانب الصندوق لإجراء مُراجعته الخامسة. وقد أصدرت وزارة المالية اللائحة التنفيذية للقانون في 31 أكتوبر 2019، ومن بين أهم ما تضمنته من بنود اشتراط النشر والتنفيذ الإلكتروني للتعاقدات الحكومية على البوابة الإلكترونية للتعاقدات، وإعادة هيكلة تامة لمنظومة التعاقد على المُقاولات الحكومية بداية من التخطيط للطرح وحتى الاستلام بما يُعزز من الشفافية ويحقق أهداف الدولة، وفي الوقت ذاته يُفيد قطاع المُقاولات ويقويه.
ثالثًا: جهاز حماية المُنافسة
صدر القانون رقم 3 لسنة 2005 بإنشاء جهاز حماية المُنافسة ومنع المُمارسات الاحتكارية، والذي يهدف أساسًا إلى أن تكون مُمارسة النشاط الاقتصادي على النحو الذي لا يؤدي إلى منع حرية المُنافسة أو تقييدها أو الإضرار بها. وعلى الرغم من أن السوق المصرية في مُعظم النشاطات تُعاني من بعض المُمارسات الاحتكارية بمُختلف أشكال الاحتكار، من احتكار تام مثل سوق الإنترنت الذي تحتكره شركة واحدة مملوكة للدولة، أو هيكل مُنافسة احتكارية كسوق العصائر أو المشروبات الغازية، أو الألبان المُصنعة، أو هيكل احتكار قلة كسوق الاتصالات الخلوية، فإن الجهاز ظل عاجزًا عن مُقاومة هذه الاحتكارات أو المُمارسات الناتجة عنها من رفع الأسعار على المُستهلكين، وعدم كفاءة الخدمات المُقدمة وغيرها. ويُشير الشكل التالي إلى نتائج عمل الجهاز خلال الفترة من 2005 وحتى 2015/2016:
شكل (3) إحصاءات عمل جهاز حماية المُنافسة ومنع المُمارسات الاحتكارية
يتضح من الشكل أنه خلال الفترة (2005-2015/2016) قام جهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية بفحص 118 بلاغًا، وأعد 26 دراسة، وأبدى 13 رأيًا استشاريًّا خلال الأعوام العشرة محل النظر، أسفرت عن وجود 20 حالة مُخالفة فقط، بينما اتضح في 115 من الحالات عدم وجود مُخالفة. وبغض النظر عن أن الأرقام منخفضة نسبيًّا مُقارنة بفترة السنوات العشر، فإن السوق ما زالت تكتنفها حالات احتكار واضحة. لذا طالب صندوق النقد بإعادة هيكلة الجهاز وإصدار قانون جديد يُفعل دوره وينشطه، وهو ما حدث بالفعل إذ قامت الحكومة بتقديم مشروع قانون للبرلمان في يناير 2019 ولكنه لم ير النور حتى تاريخه. ولا شك أن تأخر إصدار القانون قد يؤثر على النمو الاقتصادي، ذلك أن الاحتكارات التي تُسيطر على السوق تحد من دخول مُنتجين جُدد، ومن خلق فرص عمل جديدة، وتزداد تلك التأثيرات كُلما ارتفع عدد الأنشطة الاقتصادية التي تقع تحت سيطرة الهياكل الاحتكارية بشتى أنواعها.
رابعًا: قانون تنمية المشروعات مُتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة
تحتل مصر المرتبة رقم 90 من بين 190 دولة في مؤشر سهولة مُمارسة الأعمال الصادر عن البنك الدولي بتوقعات عام 2020، حيث يتطلب تأسيس العمل للرجال (يُفرق المؤشر بين صاحب العمل الرجل والمرأة) 12 يومًا بمتوسط خمسة إجراءات، بينما يرتفع إلى 13 يومًا بالنسبة للسيدات، وبمتوسط 9.2 إجراءات. وتدفع هذه المُدة الطويلة نسبيًّا الشركات الصغيرة والمُتناهية الصغر إلى عدم اتباع الإجراءات القانونية وقت التأسيس والبقاء في القطاع غير الرسمي. وينعكس ذلك على حجم القطاع غير الرسمي في مصر، والذي يُمكن قياسه عن طريق مُقارنة الحصيلة الضريبية بالناتج المحلي الإجمالي، والذي يوضحه الشكل التالي.
شكل (4) يوضح نسبة الحصيلة الضريبية مُقارنة بالناتج المحلي الإجمالي لمصر ومجموعة من دول العالم
يتضح من الشكل ارتفاع حجم القطاع غير الرسمي –الذي لا يؤدي الضريبة- إلى مستوى يُقارب ضعفي حجمه في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، ويؤدي ذلك إلى ضياع مبالغ ضخمة جدًّا من الإيرادات الضريبية وغير الضريبية على الدولة، حيث تُمارس هذه النشاطات أعمالها دون دفع ضرائب في الوقت الذي تستفيد فيه من المرافق العامة المُخصصة للاستهلاك المنزلي بينما تُمارس عمل تجاري، وغيرها، لذلك طالب الصندوق الحكومة المصرية بإصدار قانون جديد يُسهل انضمام الشركات مُتناهية الصغر والصغيرة إلى القطاع الرسمي عن طريق تقنين أوضاع القائم منها وفتح الباب أمام تلك التي تخطط للانضمام حديثًا إلى السوق للتسجيل ضمن القطاع الرسمي المُنظم للدولة. وبالفعل استجابت الحكومة وقدمت مشروع قانون يُشكل نقلة نوعية للبرلمان في أغسطس 2019، لكنه ما زال في طور المُناقشة.
وقد تضمن القانون إجراءات مُيسرة غير مسبوقة لدمج هذه المشروعات في القطاع الرسمي، أهمها أن يقوم جهاز تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة مُنفردًا بمنح هذه المشروعات تراخيص مؤقتة لمُدة ثلاث سنوات لمزاولة أعمالها دون تدخل أية جهة أخرى وذلك في مُقابل رسوم تبدأ من 5 آلاف جنيه للمشروعات مُتناهية الصغر وتنتهي بـ20 ألفًا للمشروعات المتوسطة. كذلك امتد التيسير إلى ما ستدفعه المشروعات الصغيرة والمتوسطة من ضرائب، حيث اكتفى بما نسبته 0.75% للمشروعات التي يزيد حجم أعمالها على مليون جنيه ولا يجاوز مليوني جنيه، و1.25% للمشروعات التي يزيد حجم أعمالها على مليوني جنيه ولا يجاوز 3 ملايين جنيه سنويًّا، وأخيرًا 1.5% من حجم الأعمال بالنسبة للمشروعات التي يزيد حجم أعمالها على 3 ملايين جنيه ولا يجاوز 10 ملايين جنيه سنويًّا. أما المشروعات مُتناهية الصغر فقد تبنى مشروع القانون مُعدلًا مختلفًا لها يبدأ بـ1000 جنيه لتلك التي يقل حجمها عن 250 ألف جنيه، و2500 للمشروعات التي يتراوح حجم أعمالها بين 250 و500 ألف، و6000 للمشروعات التي يتراوح حجم أعمالها بين 500 ألف ومليون جنيه.
مما سبق يتضح جليًّا أنه رغم نجاح الحكومة على المُستويين النقدي والمالي، وتحقيقها ما تم الاتفاق عليه مع صندوق النقد الدولي، إلا أن القطاعات الحقيقية خاصة الصناعة ما زالت في وضعٍ لا يُشجع على الاستثمار بسبب هياكل عملها غير القادرة على مُجاراة التطورات الحادثة على مستوى الاقتصاد الكُلي أو وتيرة الاستثمار الخاص، مما قد يحول دون تحقيق مُعدلات نمو أعلى بكثير، لذلك أكد الصندوق على إعادة تنظيم هذه الهياكل عبر قوانين ولوائح جديدة لتعديل الخلل القائم وإتاحة الفرصة أمام هذه القطاعات للاستفادة من نتائج برنامج الإصلاح الاقتصادي.