صدرت فى الأسبوع الماضى حركة محافظين جدد، شملت 16 محافظة، وعُيِّن 23 نائبًا شابًا، فى بادرة كبيرة لنقل خبرة إدارة المحافظات بين الأجيال، وفى حديث الرئيس عبدالفتاح السيسى مع القيادات، ركز على قضية «التنسيق» مع الوزارات المعنية، وتطوير أداء الجهاز الإدارى، وتنمية مهارات العاملين والكوادر، ومكافحة الفساد، وتلبية احتياجات المواطنين ومتابعة أوضاعهم والتفاعل معهم.
ولكن ما لفت النظر كان تأكيد الرئيس على بناء الإنسان تعليمًا وصحة وبيئة، مع إحياء قصور الثقافة ومراكز الشباب، و«استغلال الميزات النسبية فى كل محافظة وتعظيم مواردها الذاتية». هذه المهام مجتمعة تقدم لنوعية من المحافظات تختلف عن تلك التى اعتدنا عليها لأنها قامت فى جوهرها السابق على كونها تنظيمًا إداريًا تابعًا للحكومة المركزية فى القاهرة، ومن ثَمَّ فإنه يمثل واحدًا من الأعباء الثقيلة الواقعة عليها سواء كان ذلك فى الرواتب أو الاستثمارات أو تقديم الخدمة والعون للمواطنين.
المهام المطروحة لها علاقة بالقوة الصلبة التى تضيف إلى الحكومة المركزية المزيد من الموارد وليس الخصم منها، ولهذا كان «البحث عن المزايا النسبية»، التى تجذب الاستثمارات أو تدفع رأس المال المحلى الميت منه والحى لكى تقيم مشروعات توفر المزيد من فرص العمل، والمنتج للاستهلاك والتصدير، وباختصار إحياء السوق المحلية، والذى يضيف إلى معدلات النمو القومية.
المهام أيضًا تختص بالقوة الناعمة بأشكالها المختلفة، والتى تنفخ الحياة فى الثقافات المحلية، وتدفع المواهب والقدرات البشرية إلى أعلى درجات أدائها بدلًا من الركود السائد فيها انتظارًا لحركة وحراك الحكومة المركزية وحال الثقافة والفنون والرياضة فى القاهرة.
مفاتيح كل ذلك ليست متاحة بالشكل الذى يسمح للمحافظين بالإنجاز الكبير، ولعل التغييرات المتواترة فى المنصب تؤكد أن المعضلة ليست واقعة فى الأشخاص- رغم أن التأهيل للوظيفة ضرورى للتعامل مع محافظة بعينها- بقدر ما هى فى «النظام» الخاص بعلاقة الحكومة المركزية بالمحافظات.
وفيما هو متاح من معلومات فإن هناك بالفعل قانونًا للمحليات جرى الإعداد له منذ فترة، وكذلك فإن هناك مشروعًا لإصلاح الجهاز الإدارى للدولة، وكلاهما كما نأمل يتيح الانتقال من نظام للإدارة المحلية تكون وظيفة المحافظ فيه متابعة مشروعات الحكومة، والتفتيش على المدارس والمستشفيات، وتعبئة الجهود المركزية لمواجهة المواقف الطارئة والحرجة، إلى نظام آخر للحكم المحلى يتيح للمحافظ تعبئة الموارد واستثمارها فى محافظته، فالحقيقة هى أن معظم محافظات مصر، إن لم يكن كلها، فيها الكثير من المزايا النسبية سواء من البشر المنتجين أو الموارد الطبيعية أو ما يمكن تخليقه من خلال التكنولوجيات الحديثة.
ما يحتاجه المحافظ، ونائبه الشاب، هو البحث عن الصناع والزراع والتجار وروابطهم من غرف تجارية وصناعية «وإذا كانت غير متاحة يجرى إنشاؤها» لتشكيل مجالس استثمارية تعبئ القدرات الكبيرة، والشباب فى المشروعات المتوسطة والصغيرة.
وفى محافظات مصر توجد فروع للبنوك ومكاتب التوفير، وهذه بما فيها من خبرات وتمويل يمكنها أن تكون جزءًا من عمليات التنمية المحلية المضافة للاستثمارات القومية، التى مهما كان نصيب كل محافظة منها فإنها تظل قاصرة فى مواجهة الزيادة السكانية ومطالب الشباب للحاق بالعصر الذى يعيشون فيه.
وإذا كان كل ذلك صعبًا أو أن هناك عوائق قانونية أو دستورية أو سياسية أو أمنية تجعل ما سوف يأتى امتدادًا لما كان فى الوادى المصرى المزدحم بالسكان والإشكاليات، فإن هناك حاجة ماسّة للنظر إلى محافظات سيناء والبحر الأحمر والساحل الشمالى والوادى الجديد نظرة مختلفة. لقد مضت الاستراتيجية التنموية المصرية شوطًا بعيدًا فى استراتيجية الانتقال من «النهر إلى البحر»، وكان مشهد افتتاح أنفاق القناة أخّاذًا وداعيًا إلى الاستغلال الأمثل للعلاقات الجديدة بين الوادى المكتظ بالبشر والصحراء خفيفة السكان.
لقد رَعَتْ مبادرة التأمين الصحى على سبيل المثال أن تبدأ بالمحافظات المصرية الأكثر تقدمًا والأقل سكانًا فى بورسعيد والإسماعيلية والأقصر نظرًا لأنها الأكثر استعدادًا للتعامل مع التجربة، وفى الظن أن اختيار المحافظات المشار إليها لعمليات التنمية واسعة النطاق سوف يستحق إعطاء دفعة كبيرة للقدرات التنفيذية للمحافظ، حيث ثبت من التجربة أن المحافظ، وهو ممثل رئيس الجمهورية فى المحافظة، ليس كافيًا لاختراق الجبال من حواجز القوانين التى تشابكت حول مفهوم «الإدارة المحلية»، الذى لا يفى بالغرض والمطلوب. تقدير آخر قد يكون مفيدًا، وهو أن يكون هناك مقياس لأداء المحافظات المصرية من حيث الإسهام فى الناتج المحلى الإجمالى، والصادرات والواردات، وتخفيض نسبة الأمية فى المحافظة، وأداء المراكز الثقافية وما تنتجه، ونوعية الحياة، وحماية البيئة، وجذب السائحين، وهى أمور حيوية ومهمة.
*نقلا عن صحيفة “المصري اليوم”، نشر بتاريخ ١ ديسمبر ٢٠١٩.