منذ انهيار الاتحاد السوفيتي يحتدم بين حينٍ وآخر جدلٌ حول مستقبل منظمة حلف شمال الأطلسي. والجديد نسبيًّا هو دخول كبار المسئولين على الخط بتصريحات علنية تشكك في مستقبل المنظمة “ماكرون”، أو في جدواها أو في جدوى الالتزام بأحكامها “ترامب”، ناهيك عن الأسئلة حول الدور التركي: هل ترغب أنقرة في البقاء في الناتو، وهل يتحمل الناتو كلفة بقائها؟
ومن الجديد أيضًا المناخ السائد بين الزعماء والقادة، حيث يتعمد ثلاثة منهم (ترامب، وماكرون، وأردوغان) إلقاء التصريحات الاستفزازية التي تحمل قدرًا غير مسبوق من التهديد والسباب وتحقير النظراء.
منطق المتشائمين يتلخص في حجتين رئيستين وحجج ثانوية. الحجة الرئيسة الأولى، أن المنظمة أُنشئت لوجود إجماع حول ضرورة التصدي لخطر الاتحاد السوفيتي والشيوعية العالمية، ولم يعد هناك لا اتحاد سوفيتي ولا شيوعية عالمية، وأنه لا يوجد الآن إجماع حول تحديد العدو المستهدف، ولا موقف موحد من مصدرين للمخاطر هما روسيا والصين. فتركيا مثلًا تقترب من روسيا، وهناك شكوك حول مواقف كلٍّ من الرئيسين “ترامب” و”ماكرون” من موسكو، ناهيك عن موقف “ماثيو سالفيني” الذي يمكنه الوصول إلى الحكم في إيطاليا. وهناك أيضًا من يرى في الصين داعمًا اقتصاديًّا أو قوة يمكن إشراكها في الإشراف على النظام العالمي والتفاعل معها بدلًا من معاداتها. وهناك أيضًا اختلاف حول تقييم أهمية خطر الإرهاب المتطرف وموقعه في قائمة الأولويات، حيث تراه دول جنوب أوروبا خطرًا حالًّا وسرطانًا ينمو على أبوابها (شمال إفريقيا، ومنطقتا الساحل والصحراء). وعبّر الرئيس “ماكرون” عن هذا التوجه عندما قال إن الإرهاب هو العدو المشترك الوحيد، بينما تخشى دول أخرى من أن التركيز على هذا الخطر يصرف النظر عن ضرورة مواجهة صعود الصين واستمرار “النهج العدواني لروسيا”، ناهيك عن تورط تركيا في دعمه.
يمكن إعادة صياغة الحجة الأولى، لنقول إن تعدد المخاطر وصعود الصين يجبر الولايات المتحدة على اختيار أحد المسلكين، إما زيادة حادة في الإنفاق العسكري وفي ميزانية الدفاع، وإما التقليل الحاد من الإنفاق على الدفاع عن دول أوروبا، مما يؤثر سلبًا على رغبة تلك الدول في البقاء داخل المنظمة ويحثها على تكثيف التعاون فيما بينها على حساب الانخراط في الناتو، أو على الأقل أن يتسبب ذلك في فقدان الناتو لدوره المركزي.
الحجة الرئيسة الثانية هي التراجع الكبير في الدعم الشعبي الأوروبي للمنظمة وللتحالف مع الولايات المتحدة ولمفهوم التضامن مع حليف معتدى عليه. فقد أبرزت استطلاعات رأي في ١٤ دولة أوروبية أن هناك أغلبية تفضل الوقوف على الحياد في حال نشوب صراع مسلح بين الولايات المتحدة وروسيا، أو بين الولايات المتحدة والصين. والملفت أن الرأي العام في دول أوروبا الشرقية المعادية تاريخيًّا لروسيا، والمعتمدة على الولايات المتحدة في الدفاع عن أراضيها، ذهب نفس المذهب وإن كان بنسب أقل نسبيًّا. وكانت استطلاعات قديمة في كلٍّ من فرنسا وألمانيا وإيطاليا قد أظهرت رفضًا شعبيًّا لفكرة دخول حرب دفاعًا عن حليف تعرض لهجوم. ومن المهم التشديد على كون هذا التطور المثير للقلق سابقًا على وصول “ترامب” إلى السلطة، ولكن الرئيس الأمريكي الحالي لم يعالج الوضع بل ساهم في تفاقمه.
أما الحجج الثانوية فإنها تتعلق بتقاعس دول مهمة (ألمانيا، وإيطاليا، وإسبانيا) عن الوفاء بالتزاماتها، وأهمها تخصيص ٢٪ من الناتج المحلي الإجمالي للدفاع. وهي دول تتهمها الولايات المتحدة بانتهاج سلوك الراكب الذي لا يدفع تذكرة، وبأن التغييرات التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي تسببت في مشاكل مستعصية على الحل، فتم التوسع في قبول العضوية بمخالفة التطمينات التي قُدمت للرئيس السابق “يلتسين”، وهذا يفسر السلوك الروسي، وأضيفت مهام جديدة إلى المهام الأصلية للحلف دون دراسة وافية، وزاد عدد مسارح العمليات التي يتم التدخل فيها. وهناك حجج تركز على اختلاف الثقافات الاستراتيجية بين الدول الأعضاء، وتعارض المصالح والأولويات.
في المقابل، يستطيع المدافعون عن الناتو التقدم بحجج مضادة أو التقليل من شأن حجج الفريق الآخر. سيقولون على سبيل المثال، إن ما أنجزه الناتو أمر عظيم وصعب الاستغناء عنه، وإن الشق العسكري للحلف يسير على ما يُرام، فهو متطور ومتين للغاية باستثناء الملف التركي وشراء أنقرة منظومة صواريخ روسية. كما نظم الحلف مائة مناورة عسكرية خلال عام ٢٠١٨ ولن ينخفض عن هذا العدد في سنة ٢٠١٩، وأسس قيادات جديدة للتعامل مع النشاط العسكري الروسي. وسيشدد أنصار الحلف على كونه المنتدى الوحيد الذي يسمح للدول الغربية بإجراء حوار استراتيجي عميق فيما بينها، وأنه دفعها إلى التنسيق الاستراتيجي والتكتيكي والعملياتي، وأثبت قدرات مذهلة على التأقلم، وبنى قواعد معرفية متينة. ويمكن القول أيضًا إن تعدد المخاطر، وصعود الصين، والسلوك الروسي، تفرض تقوية الحلف لا فضه، لا سيما في ظل الارتفاع الدائم في تكلفة السياسات الدفاعية في ظل تعدد المسارح وتطور التكنولوجيا، وأن ظاهرة “الراكب الذي لا يدفع التذكرة” في تراجع مستمر، سواء كان ذلك نتيجة لتهديدات “ترامب” كما قال السيد “ستولتانبرج” سكرتير عام المنظمة، أم كان رد فعل طبيعيًّا على غزو القرم، وأن عدد حلفاء الولايات المتحدة رصيد لها وليس عبئًا عليها على عكس ما يقوله الرئيس “ترامب”.
ويُمكن التقليل من شأن رفض الرأي العام للمنظمة في دول كثيرة بذكر ما قاله كبار منظّري النظم الديمقراطية، من أن المواطنين في تلك الدول أقل ميلًا إلى الخيار المسلح من غيرهم، وأنهم يذهبون إلى حد بعيد في التنازلات، ومنها المهينة، حفاظًا على السلام، ولكنهم ينقلبون إلى محاربين شرسين يخوضون حروبًا شاملة إن فاض بهم الكيل وإن أحسوا بعدم وجود بديل. قد نكون أمام وضع جديد نظرًا للتفكك والتفسخ الاجتماعيين، ولعلو صوت الفردية، ولشيخوخة السكان، ولكن الأرجح أن وقت الشدة سيغير التوجهات.
ويمكن أيضًا القول إن التعاون الوثيق والاتحاد ضرورة وجودية نظرًا لحجم وتنوع التحديات والمخاطر التقليدية والجديدة، وأن السؤال الحقيقي هو: هل يظل الناتو هو الإطار المناسب؟ أم هل من مصلحة الجميع فضه وترك الأوروبيين يسعون إلى بناء جيش أوروبي؟ ما يمكن قوله إن الناتو أثبت قدرة على التأقلم والتطور، وأنه أداة وتنظيم عريقان، وأن مشكلة اختلاف الثقافات الاستراتيجية وتضارب المصالح واختلاف الأولويات لن تزول مع تغيير الإطار أو بإنشاء نظير يقتصر على أوروبا، فمصالح الدول المجاورة لروسيا -وأغلبها يرفع من إنفاقه العسكري- ستظل مختلفة عن مصالح دول البحر المتوسط. وبصفة عامة، يعتقد الكاتب أن غالبية الدول الأوروبية ستتوجس من قيادة فرنسية أو ألمانية. وأخيرًا وليس آخرًا، فإنه من المستحيل حاليًّا الاستغناء عن الولايات المتحدة. وحتى على المدى الطويل سيكون من الصعب تعويض الخبرات العملياتية الأمريكية أو التأخر الأوروبي في مجال الذكاء الصناعي. وقد يكون غياب الولايات المتحدة دافعًا يحث ألمانيا على بذل المزيد، وقد يكون هذا الغياب انتقاصًا من قدرة الجميع على الضغط عليها.
المشكلة ليست في الجانب العسكري والأمني للحلف، المشكلة سياسية ونفسية، حيث توجد أزمة ثقة بين الأعضاء الكبار، يغذيها ميل فريق منهم إلى الابتزاز المفضوح، وميل فريق آخر إلى الركوب دون تذكرة وتغليب الكثير للاعتبارات السياسية الداخلية الحالة على حساب الاستراتيجيات طويلة الأمد.
فيما يتعلق بالقمة الأخيرة لقادة الناتو، نستطيع القول إن سقف التوقعات كان منخفضًا نظرًا لتعقد القضايا والخلافات حول الملفين السوري والتركي، وتحديدًا حول الانسحاب الأمريكي من سوريا وحرب أنقرة ضد الأكراد، وكان منخفضًا بسبب التصريحات التي سبقته، الصادرة عن “ماكرون” و”ترامب” و”أردوغان”، فقد اعتاد الإعلام العالمي على حدة كل من الرئيسين الأمريكي والتركي. ولم يأتِ الرئيس “ترامب” بجديد، حيث كرر توبيخه للدول التي لا تنفق ٢٪ من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، والجديد كان من نصيب “ماكرون” و”أردوغان”. الرئيس الفرنسي قال إن الناتو في حالة “موت سريري”، وهو تعبير بالغ القسوة، رفضه قادة آخرون منهم “ترامب” و”أردوغان” و”ميركيل” و”استولتالنبرج”. وكان “ماكرون” خصص وقتًا طويلًا الصيف الماضي لتحسين العلاقات مع موسكو مما أثار استياء بعض نظرائه. وهدد “أردوغان” بالاعتراض بالفيتو على خطط الناتو لحماية دول البلطيق ما لم تُوافق الدول الأعضاء على اعتبار أعدائه من الأكراد “إرهابيين”. وبصفة عامة، يستاء الجميع من شراء “أردوغان” أسلحة روسية، ومن استغلاله ملف الهجرة للابتزاز، وبسلوكه في شرق المتوسط وفي ملف الغاز، وبتدخله في الشئون الداخلية، ومن نهجه المعتمد على سياسة خشنة مع الشركاء.
وجاء الحصاد إيجابيًّا رغم التراشق اللفظي بين “ترامب” و”ماكرون”، وبين “ماكرون” و”أردوغان”، وأقرّ الحلف خططه وسياساته تجاه البلطيق بعد أن تنازل “أردوغان” عن مطلبه –غالبًا مقابل ثمن لم يتضح بعد- واتّفق على اعتبار الفضاء الخارجي مسرحًا للعمليات، وأجمع الأعضاء على اعتبار الاعتماد على الفضاء الخارجي للاتصالات نقطة ضعف يجب أن تُعالج في ظل تصاعد قدرات الصين وروسيا السيبرانية، وعلى ضرورة اعتبار صعود الصين تحديًا يجب التعامل معه، وعلى زيادة الإنفاق في ملفات مواجهة الإرهاب. واتفق الأعضاء على ضرورة التفكير في تطوير بنية سياسية للناتو لتسهيل التشاور، وعلى التزام الحذر عند التعامل مع الاستثمارات والتكنولوجيا الصينية.
ومن الممكن طبعًا التقليل من شأن الإنجازات، بأن نقول إن أهم إنجاز هو عدم حدوث كوارث لا يمكن معالجتها، وأن ما يسمح بالتحدث عن نجاح هو انخفاض سقف التوقعات، أو أن الوضع برمته غير صحي، لأن القادة الثلاثة سمموا الجو والعلاقات لتحقيق حصاد هش ومكاسب رمزية أو هامشية أو لا يُعتد بها، وأن الأثر السلبي في النفوس ستظهر تبعاته إن آجلًا أو عاجلًا. إلا أن أهم اعتراض هو المشكلات التي لم يتم حسمها، وهي من ناحية ترتيب أوروبا في جدول أولويات واشنطن. ومن ناحية أخرى، رفض ألمانيا لدور يناديها. وأخيرًا موقف تركيا، فالملف التركي يمثل معضلة، ذلك أن موقعها الجغرافي يحتم محاولات جادة لإبقائها في المنظمة، لكن سلوكها يحتم طردها. ولكني أري أن المشكلات لم تحسم لأنها لم “تنضج” بما فيه الكفاية.