شكّلت استقالة عادل عبدالمهدي، رئيس الوزراء العراقي، وقبول البرلمان العراقي لها في جلسته التي عُقدت في الأول من ديسمبر 2019، نقطة تحول في مسيرة التظاهرات العراقية، لا سيما وأن البرلمان كلف رئيس الجمهورية الدكتور “برهم صالح” بتسمية رئيس وزراء جديد، في حين أعلن تحالف “سائرون” عدم تمسكه بأن يكون رئيس الوزراء الجديد من ضمن صفوفه باعتباره الكتلة الأكبر بمجلس النواب العراقي، وإمكانية الموافقة على شخصية تحظى بموافقة المتظاهرين في ميادين العراق. وقد أسهم تحالف “سائرون” بشكل رئيسي مع كتلة “الفتح” بزعامة “هادي العامري” في اختيار “عادل عبدالمهدي” مرشحًا توافقيًّا العام الماضي، عبر تجاوز جدل الكتلة الأكبر تحت شعار أن “العراق أكبر من الكتلة الأكبر”، ليعيد التحالف نفس المشهد بعد استقالة رئيس الوزراء بالقول إن “الشعب هو الكتلة الأكبر”.
جاءت الاستقالة بعد شهرين من اندلاع التظاهرات في العراق، وبعد مرور عام على تولي حكومة “عادل عبدالمهدي” مقاليد السلطة في البلاد. وبرغم أن البعض يعتبرها نوعًا من الانفراجة السياسية والانتصار الجزئي للشارع العراقي؛ إلا أن آخرين يعتبرونها انعكاسًا لانسداد الأفق السياسي في العراق، وعدم قدرة النظام السياسي وعجز مؤسساته عن إيجاد بدائل لتحقيق مطالب المتظاهرين التي خرجت ترفع شعارات تنادي بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية، وتردي أحوال البنية الأساسية، وانتشار البطالة، وتزايد الفساد، حيث احتل العراق المرتبة الثالثة عشرة عالميًّا بين أكثر دول العالم فسادًا وفقًا لتقرير منظمة الشفافية العالمية الصادر في يناير 2019. فضلًا عن تحول العراق إلى ساحةٍ تُدار من خلالها تناقضات المصالح بين القوى الإقليمية والدولية وتجاذباتها المعقدة. وهو ما يعني أن مشكلات العراق ربما تتطلب حلولًا جذرية تتجاوز استقالة “عبدالمهدي”.
من الناحية الدستورية يمكن تغيير رئيس الوزراء العراقي من خلال العديد من الآليات؛ فبخلاف تقديم الاستقالة، من الممكن أن يقدم رئيس الجمهورية طلبًا للبرلمان يطلب فيه إقالة رئيس مجلس الوزراء بشرط موافقة الأغلبية المطلقة من الأعضاء. كما يمكن لخمسة أعضاء من البرلمان أن يطلبوا من رئاسة البرلمان استجواب رئيس مجلس الوزراء وللأسباب المقدمة منهم تتم الإقالة بالأغلبية المطلقة. وفي حال الاستقالة أو الإقالة تعتبر الوزارة كلها مستقيلة، وتواصل تصريف الأعمال لحين تشكيل الحكومة الجديدة، على أن يقوم رئيس الجمهورية بتكليف مرشح آخر بتشكيل الحكومة. كما أقرت المادة “81” من الدستور العراقي بأن يقوم رئيس الجمهورية مقام رئيس مجلس الوزراء عند خلو المنصب لأي سبب كان، كما يقوم رئيس الجمهورية بتكليف المرشح الجديد بتشكيل الوزارة، خلال مدة لا تزيد على خمسة عشر يومًا.
لماذا الاستقالة الآن؟
تتنوع الدوافع التي أسهمت في قيام رئيس الوزراء العراقي “عادل عبدالمهدي” بتقديم استقالته:
1- دموية المظاهرات: على الرغم من أن المظاهرت بدت منذ انطلاقها تدعو إلى مطالب اجتماعية واقتصادية، كونها ذات طبيعة اجتماعية محركها الأساسي طبقة محرومة في مواجهة طبقة سياسية شيعية فاسدة؛ إلا أنها ما لبث أن تحولت إلى أعمال عنف خلفت ما يزيد على 400 قتيل وآلاف الجرحى والمصابين في المدن العراقية منذ بدء الاحتجاجات، بحسب ممثلة الأمم المتحدة في العراق “جينين بلاسخارت”. وقد أشارت تقارير إعلامية متعددة إلى أن اليوم الذي سبق تقديم “عادل عبدالمهدي” لاستقالته، وهو 28 نوفمبر 2019، كان الأكثر دموية في العراق، لا سيما في محافظات الجنوب على وجه الخصوص في الناصرية والنجف وكربلاء وهي المناطق ذات الأغلبية الشيعية، حيث قُتل أكثر من 40 متظاهرًا في هذا اليوم.
2- موقف المرجعية الدينية الشيعية: تطور موقف المرجعية من المظاهرات تدريجيًا إلى أن وصل إلى مرحلة الانحياز لمطالب المتظاهرين في ساحات العراق، بل والسماح لطلاب الحوزات الدينية الشيعية بالمشاركة في المظاهرات التي خرجت في مدينة النجف. وبرغم تماهي مواقف المرجعية مع حكومات ما بعد نظام “صدام حسين”؛ إلا أن ثمة تغيرًا في مواقفها من المظاهرات الحالية، حيث شكلت التصريحات المعلنة للمرجع الشيعي الأعلى في العراق “آية الله علي السيستاني” منذ اندلاع المظاهرات في العراق، خلال خطب الجمعة التي ألقاها ممثله “أحمد الصافي” في كربلاء، رفضًا للمماطلة والتسويف من قبل النخبة السياسية الحاكمة، والمطالبة بالإصلاح الاقتصادي والاجتماعي ومحاربة الفساد، مرورًا بمناداته بضررة إسراع مجلس النواب بإقرار الإصلاحات للتوصل إلى انتخابات تعكس إرادة الشعب، وبأن العراق لن يكون ما بعد هذه الاحتجاجات كما كان قبلها في كل الأحوال، وصولًا إلى دعوته مجلس النواب لسحب الثقة من الحكومة، وأن مجلس النواب الذي انبثقت عنه الحكومة الراهنة مدعو إلى أن يعيد النظر في خياراته بهذا الشأن، ويتصرف بما تمليه مصلحة العراق، والمحافظة على دماء أبنائه، وتفادي انزلاقه إلى دوامة العنف والفوضى والخراب. وربما كشف البيان الصادر عن مكتب رئيس الوزراء العراقي في 29 نوفمبر 2019، عن التأثير المباشر لدعوة “السيستاني” لإقالة الحكومة، والذي أعلن فيه رئيس الوزراء تقديم طلب الاستقالة من رئاسة الحكومة الحالية بالإشارة إلى أن استقالته جاءت استجابة لدعوة المرجعية الدينية.
3- تغير مواقف الكتل السياسية: ثمة اتجاه يرى أن الكتل السياسية التي أيدت اختيار رئيس الوزراء العراقي “عادل عبدالمهدي” قبل عام، وأهمها “سائرون” و”الفتح”، تحاول أن تجعل من استقالته نوعًا من المناورة السياسية بهدف الحفاظ على باقي مرتكزات النظام السياسي الذي تشكل في عراق ما بعد “صدام حسين”، وهو الأمر الذي يؤيده على أرض الواقع تبلور مواقف تحالف “سائرون”، الكتلة السياسية الأكبر في البرلمان والمدعومة من رجل الدين الشيعي “مقتدى الصدر”، وتحالف “النصر” الذي يرأسه رئيس الوزراء السابق “حيدر العبادي”، ووقوفهم إلى جانب المحتجين بعد استقالة “عبدالمهدي” عبر رفضهم المشاركة في المفاوضات الحالية لاختيار رئيس وزراء جديد. وهو ما أعلنه “العبادي” بأنه يحرص على اتخاذ مواقف تقترب من الشعب العراقي، وأن يكون المرشح لمنصب رئيس الوزراء الذي يخلف المستقيل “عادل عبدالمهدي” مستقلًّا وينال ثقة عامة الشعب.
4- الضغوط الدولية: شكّلت الضغوط الدولية أحد العوامل الدافعة، وإن لم تكن الحاسمة، لاستقالة رئيس الوزراء العراقي، والتي تنوعت ما بين تقديم خارطة طريق للخروج من نفق الفوضى، وهو المقترح الذي تقدمت به ممثلة الأمم المتحدة لدى العراق “جينين بلاسخارت” خلال لقائها المرجع الشيعي الأعلى في العراق “آية الله علي السيستاني” في مدينة كربلاء في 11 نوفمبر 2019، ويقوم على مراجعة قانون الانتخابات العراقي. كما شكلت الدعوات الدولية المطالبة برفض استخدام العنف ضد المتظاهرين ترجمةً لمثل هذه الضغوط، حيث أدانت الولايات المتحدة الاستخدام “المروع والشنيع” للقوة ضد المتظاهرين جنوب العراق. وقال مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشرق الأوسط “ديفيد شينكر” للصحفيين، في 2 ديسمبر 2019، إن “استخدام القوة المفرطة خلال عطلة نهاية الأسبوع في الناصرية كان مروعًا وشنيعًا. وأضاف “شينكر”: “ندعو الحكومة العراقية إلى التحقيق ومحاسبة أولئك الذين يحاولون أن يكمموا بوحشية أفواه المتظاهرين السلميين”. كما جاءت مواقف دول الاتحاد الأوروبي لتتماشى مع رؤية المجتمع الدولي في إدانة استخدام العنف ضد المحتجين، ورفض إقحام كيانات مسلحة في المظاهرات، ودعم اللجوء إلى الحلول السلمية.
دلالات الاستقالة
برغم تعدد العوامل التي أسهمت في تقديم رئيس الوزراء العراقي استقالته؛ إلا أن العوامل الداخلية شكلت المتغير الأكثر تأثيرًا، وهو الأمر الذي يعكس العديد من الدلالات. فمن ناحية، تعكس هذه الاستقالة بداية انهيار المشروع الإيراني في العراق وأفول دولة الملالي، وهو النفوذ الذي شكّله الترابط الوثيق بين الثورة الإيرانية وامتدادها العقائدي في العراق بعد عام 2003، لإكسابه الزخم والتمدد من خلال الحوزات الشيعية في العراق وتوظيف الرمزية المعنوية للنجف لتصدير الثورة الإيرانية إلى الشيعة غير الإيرانيين ليصبحوا بمثابة أذرع ممتدة في دول الإقليم لخدمة المشروع الإيراني في مناطق نفوذه بدول المنطقة العربية. هذه الاستقاله تحمل في رمزيتها رفضًا لهذا المشروع من قبل المتظاهرين وهتافاتهم التي تُعد تغيرًا جذريًّا في الموقف من إيران ومن قلب المناطق الشيعية في العراق مثل “إيران بره بره.. بغداد تبقى حرة”. وفي هذه المظاهرات أيضًا أحرق الشباب الغاضب صور “الخميني”، والقنصلية الإيرانية في النجف، وهاجم مقرات الأحزاب والميليشيات الموالية لإيران، ومنها: منظمة بدر، وتيار الحكمة، وعصائب أهل الحق.
من ناحية ثانية، تعكس الاستقالة انسداد قنوات النظام السياسي وعدم قدرته على استيعاب مطالب المحتجين دخل أبنيته المؤسسية، بما جعل عملية الإطاحة برئيس الوزراء وفق بعض الاتجاهات سعيًا من النخبة الحاكمة لحماية باقي مكونات النظام.
من ناحية ثالثة، فإن الاستقالة تمثل رفضًا للدولة الدينية، ورغبة في تأسيس دولة المواطنة. وربما يعود ذلك إلى مبدأ المحاصصة الطائفية الذي شكّل البُعد المهيمن على توزيع السلطات والأدوار والوظائف داخل مصفوفة النظام العراقي. وهو الأمر الذي جسدته العديد من المؤشرات الرافضة لهذا المبدأ بالإعلان عن مبادرات عراقية لتعديل النظام الانتخابي، وإعادة تشكيل المفوضية العليا للانتخابات، ورفض التقسيم الطائفي للمكونات العراقية. وحتى على المستوى الخارجي، حمّل وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” التدخلات الإيرانية في العراق ولبنان مسئولية الاحتجاجات التي يشهدها البلدان، مشيرًا إلى أن المتظاهرين في العراق ولبنان وإيران نفسها، يعارضون النظام الديني وتدخلات طهران في المنطقة.الخلاصة أن استقالة رئيس الوزراء العراقي، لن تشكل حلًّا جذريًّا للتحديات التي تواجه العراق منذ الإطاحة بنظام “صدام حسين” عقب الغزو الأمريكي، بقدر ما يمكن أن تمثل فرصة سانحة لإمكانية الوصول إلى مشتركات حقيقية واختيار شخصية تحظى بالتوافق العام، لنزع فتيل الأزمة بين الفرقاء المتصارعين، وإعطاء أولوية للمبادرات السياسية، لتجاوز أزمة الثقة بين النخب العراقية، وهو ما يعني ضرورة البحث في كيفية مواجهة تحديات الممارسة السياسية منذ سقوط نظام “صدام حسين” عام 2003، وذلك من خلال تلبية المطالب الداعية إلى إجراء تعديل دستورى، وإقرار نظام انتخابي كفء يسهم في تشكيل طبقة سياسية على أسس من المواطنة بدلًا من المحاصصة الطائفية، وبما يسهم في العبور بالعراق الجديد الذي يعد ثاني أكبر منتج للنفط في منظمة أوبك نحو الاستقرار والتنمية.