أثارت تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” التي طالب فيها الولايات المتحدة بالاعتراف بحق إسرائيل في ضم منطقة غور الأردن إليها -والتي تشكل ما يقرب من ثلث مساحة الضفة الغربية المحتلة- جدلًا واسعًا، خاصة مع نفي مساعد وزير الخارجيّة الأمريكيّة “ديفيد شنكر” أن تكون قضيّة ضمّ غور الأردن ضمن القضايا التي تضمنها جدول أعمال اللقاء الذي عُقد بين وزير الخارجيّة الأمريكي “مايك بومبيو”، ورئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، في البرتغال في الخامس من ديسمبر الجاري. كما اشتد هذا الجدل أيضًا على خلفية حديث “نتنياهو” عن رغبته في عقد اتفاقية دفاع مشترك مع الولايات المتحدة، وإصراره على أنه طرح القضيتين معًا في لقائه مع “بومبيو”. فهل ثمة رابط بين القضيتين؟ وهل يسعى “نتنياهو” إلى وضع الولايات المتحدة أمام أحد الخيارين بشكل غير مباشر: الاعتراف بضم الغور إلى إسرائيل، أو عقد اتفاقية الدفاع المشترك؟ وما هي الدوافع التي دفعت “نتنياهو” لتقديم المقترحين حتى لو بدا ظاهريًّا أنه لا يضع أحدهما تعويضًا عن الآخر؟
عقيدة إسرائيل الثابتة
تاريخيًّا كان هناك تردد إسرائيلي منذ تأسيس الدولة العبرية تجاه مسألة الانضمام إلى اتفاقيات دفاع جماعية. في مقابل ذلك ومنذ حرب يونيو 1967 دارت كل المشروعات التي تناولت مستقبل الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل في هذه الحرب -خاصة الضفة الغربية- حول الحدود الآمنة للدولة، وحتمية ضم غور الأردن في أي تسوية محتملة للصراع مستقبلًا. ويعتبر حزب الليكود الذي أسسه “مناحم بيجن” عام 1973، الحزب الأكثر تشددًا في رفض فكرة الاتفاقات الدفاعية مع الولايات المتحدة، ورفض المساومة على حق إسرائيل في ضم الأراضي التي احتلتها عام 1967، وعلى الأخص الضفة الغربية وفي القلب منها منطقة غور الأردن، ففكرة الانضمام إلى تحالف عسكري تقوده الولايات المتحدة نوقشت في إسرائيل منذ الخمسينيات من القرن الماضي، ولأسباب عديدة كانت الفكرة غير ممكنة التحقيق. فمن ناحية، ظلت الولايات المتحدة حتى أواسط الستينيات تتبع سياسة تهدف إلى منع الاتحاد السوفيتي من التمدد إلى المنطقة العربية، وكان من شأن انحيازها السافر لإسرائيل إلى حد توقيع اتفاق دفاع مشترك معها أن يدفع بالعرب إلى الاتحاد السوفيتي بشكل حاسم، وهو ما كان يُهدد المصالح الأمريكية والغربية الأمنية والاقتصادية، أي إن هذا الطرح لم يكن واقعيًّا من جانب بعض القادة الإسرائيليين آنذاك من حيث مدى رغبة واشنطن في توقيع اتفاقية دفاع مشترك مع إسرائيل.
من ناحية ثانية، انطوت الشخصية اليهودية تاريخيًّا على شك عميق في الأغيار -الجوئيم بالتعبير العبري- وحافظت الحركة الصهيونية التي نجحت في تجسيد الدولة في النهاية على هذا الشك، ومن ثم رفض قادة إسرائيل وعلى رأسهم “ديفيد بن جوريون” -أول رئيس وزراء إسرائيلي- فكرة رهن أمن الدولة بإرادة الآخرين، مؤكدًا على مبادئ: حق إسرائيل المطلق في تحديد حدودها ومصالحها الأمنية بعيدًا عن تدخل أي طرف دولي أو إقليمي، وهو ما كان يعني بالضرورة رفضًا لفكرة اتفاقيات الدفاع المشترك التي تُلزم أطرافها بالتزامات متبادلة فتحد من سيادة قراراتها الأمنية والدفاعية من جانب، ويمكن أن تورطها من جانب آخر في صراعات خارجية لا تتوافق مع قدراتها أو أهدافها الاستراتيجية.
انكسار الثوابت ومواجهة حقائق جديدة
برغم انتصارها في حرب يونيو 1967، تعاملت إسرائيل مع الأراضي التي احتلتها على أنها ورقة مساومة مع الدول العربية للحصول على اعتراف بها مقابل إعادة جزء كبير من هذه الأراضي، وكان واضحًا أن مصير الضفة الغربية هو الذي يشغلها أكثر من بقية الأراضي التي احتلتها (سيناء، الجولان، قطاع غزة). وفي فترة مبكرة (يوليو 1967) قدم نائب رئيس الوزراء “إيجال ألون” (من حزب العمل) خطة عُرفت باسمه اقترح فيها إنهاء الاحتلال الإسرائيلي مع تقسيم متفاوض عليه للأراضي. ووفقًا لهذه الخطة، تحتفظ إسرائيل بثلث الضفة الغربية وتحمي نفسها من الغزو من الشرق على يد قطاع من المستوطنات والمنشآت العسكرية على طول نهر الأردن (منطقة الغور).
لم يقبل اليمين الإسرائيلي هذه الخطة ووعد بإفشالها إذا ما وصل للحكم، متمسكًا بمبدأ حق إسرائيل في تحديد حدودها وفقًا للتراث اليهودي والدواعي الأمنية بغض النظر عن موقف القانون الدولي من الأراضي التي احتلتها إسرائيل. غير أن نتائج حرب أكتوبر 1973، وما تبعها من توقيع إسرائيل اتفاقات فض الاشتباك مع مصر وسوريا عامي 1974 و1975، وصولًا لاتفاق كامب ديفيد مع مصر عام 1978، أدى لاهتزاز هذه الثوابت الإسرائيلية، سواء تلك المتعلقة بتحديد حدودها أو مستقبل القضية الفلسطينية، أو إمكانية عقد اتفاقات دفاعية مشتركة مع الولايات المتحدة. فمن الناحية العسكرية، برهن الخطر الداهم الذي تعرضت له إسرائيل، خاصة على يد الجيش المصري، على أنها غير قادرة على الدفاع عن نفسها بمفردها، وأنها في حاجة للولايات المتحدة والأمم المتحدة لحماية وجودها وأمنها والاعتراف بحقوقها. كما كان اضطرارها للقبول بالانسحاب من سيناء في إطار معاهدة السلام الموقّعة مع مصر عام 1979 وفقًا لمرجعية القرار الدولي 242، والحدود الدولية، سببًا في تقويض مبدأ أن إسرائيل هي من تحدد حدودها بنفسها.
وأثناء مباحثات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل ظهر أول اقتراح أمريكي بعقد اتفاقية دفاع مشترك مع إسرائيل للتغلب على حجة رئيس الحكومة الإسرائيلية “مناحم بيجن” الذي زعم أن إسرائيل لا يُمكنها الانسحاب من الأراضي التي احتلتها خوفًا من تعرض أمنها لخطر بالغ. ردًّا على ذلك، عرض الرئيس الأمريكي “جيمي كارتر” -الذي كان يرعى المفاوضات المصرية الإسرائيلية- على “مناحم بيجن” أن تعقد الولايات المتحدة مع إسرائيل معاهدة دفاع مشترك تضمن لإسرائيل أن انسحابها من الأراضي المصرية بالكامل وقبول تنفيذ قرار الأمم المتحدة الشهير 242 وتطبيقه على الضفة الغربية الفلسطينية، لن يؤدي إلى مخاطر على أمنها مستقبلًا. ووفق رواية وزير الخارجية المصري الأسبق “محمد إبراهيم كامل” الذي كان ضمن وفد المفاوضات المصري في كامب ديفيد، فقد رد “بيجن” على “كارتر” بأن إسرائيل ستقبل بالمعاهدة الأمريكية بشرط أن تكون مدتها ألفي عام!
لم يفهم “كارتر” ما قاله “بيجن”، وبدا الأمر غريبًا أن يطلب “بيجن” معاهدة تمتد لهذه الفترة الخرافية، غير أن أحد مساعديه نبهه إلى أن “بيجن” رجل مندمج بكل تكوينه الوجداني والعقلي مع التراث اليهودي، وأنه يتحدث بلغة توراتية بلاغية، ولكن المعنى الذي كان يقصده هو رفض العرض الأمريكي الذي يراه متجاهلًا لحقيقة أن اليهود تعرضوا للتشريد والإبادة على مدى ألفي عام، لم يتحرك خلالها أحد لإنقاذهم أو لمساعدتهم على العودة لوطنهم الموعود! وبالتالي فإنه حين يتعلق الأمر بالدفاع عن اليهود وإسرائيل فإن الضمانة الوحيدة هي قوة الدولة العبرية، وأن معاهدات الدفاع المشترك حتى مع الولايات المتحدة ليس بوسعها أن تطمئن إسرائيل على أمنها.
أيضًا يمكن القول إن توقيع إسرائيل اتفاقية أوسلو مع الفلسطينيين عام 1993 قد زاد من الشعور الإسرائيلي بانهيار أسس العقيدة الخاصة بانفراد إسرائيل بتحديد حدودها، بل والسماح بإمكانية نشأة دولة فلسطينية في غزة ومعظم الضفة الغربية، من المحتم أنها ستكون خطرًا مستقبليًّا على إسرائيل حال ممارسة حقوقها (أي الدولة الفلسطينية) كدولة مستقلة في عقد المعاهدات الأمنية والاقتصادية مع دول أخرى. والملاحظ أن الولايات المتحدة لم ترع المفاوضات التي قادت إلى اتفاقية أوسلو، بل لعبت النرويج ودول أوروبية أخرى دور الوسيط في هذه الاتفاقية، وبالتالي لم يظهر الاقتراح الذي سبق للرئيس “كارتر” تقديمه لـ”بيجن” (اتفاقية الدفاع المشترك) في هذه الاتفاقية. وحتى عندما تأزمت الأوضاع لاحقًا وبدا أن الإسرائيليين يحاولون التنصل من الاتفاقية، رفض “بنيامين نتنياهو” أثناء رئاسته للحكومة في ولايته الأولى (1996-1999) عرضًا أمريكيًّا لتوقيع اتفاقية دفاع مشترك مقابل التزام إسرائيل بالتوصل إلى حل نهائي مع الفلسطينيين، حيث يذكر السفير الإسرائيلي السابق في واشنطن “مايكل أورن” أن “نتنياهو” رفض بنفسه مرارًا عروضًا لإبرام معاهدة دفاع أمريكية-إسرائيلية خلال ولايته الأولى كرئيس للحكومة، عندما طرح الرئيس الأمريكي آنذاك “بيل كلينتون” الفكرة مرتين. وحسب “أورين” أيضًا فإن وزيرة الخارجية الأمريكية “هيلاري كلينتون” أثارت غضب “نتنياهو” عندما طرحت اقتراحًا مشابهًا. يقول “أورين”: “أتذكر كيف أن هيلاري كلينتون اقترحت في يوليو 2009 قيام الولايات المتحدة بتوسيع مظلتها النووية لتشمل إسرائيل، واعترض بيبي على الفكرة بشدة.. لقد خلق ذلك انطباعًا أنه لا يمكن لإسرائيل الدفاع عن نفسها -وهي رسالة خطيرة لأعدائنا- وأن الولايات المتحدة قد تتقبل في النهاية إيران نووية”.
انتقال المعركة للداخل الإسرائيلي
يشير أغلب المنتقدين لـ”نتنياهو”، حتى من داخل الليكود مثل “جدعون ساعر” عضو الكنيست الذي يسعى لخلافته في قيادة الحزب، إلى أن “نتنياهو” يحاول تجاوز أزمة تقديمه للمحاكمة على خلفية اتهامات بالفساد والرشوة عبر إطلاق تصريحات كاذبة. ويشكك هؤلاء في جدية “نتنياهو” بضم الغور، أو عقد معاهدة دفاعية مع الولايات المتحدة الأمريكية، خاصةً مع ظهور اعتراضات قوية من جانب المعارضة الإسرائيلية ومؤسسة الجيش والمؤسسات الأمنية لدعوة “نتنياهو” لعقد اتفاقية دفاع مشترك مع الولايات المتحدة، حيث عبر زعيم المعارضة الإسرائيلية وزعيم حزب كاحول لافن “بيني جانتس” عن معارضته توقيع مثل هذه الاتفاقية التي من شأنها تقييد حركة الجيش الإسرائيلي. وبهذا يكون قد تبنى موقف قيادة الجيش التي عارضت توجه رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” والرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” لإبرام معاهدة دفاع مشترك بين البلدين لنفس السبب الذي ذكره “جانتس”.
وأوضحت تصريحات مشابهة من شخصيات أمنية كبيرة اعتراضها على خطة “نتنياهو” في هذا الشأن. على سبيل المثال، قال وزير الدفاع الأسبق في حكومة “نتنياهو” (وخصمه السياسي الحالي) “موشيه يعالون” في مقابلة إذاعية: إنه لو كانت واشنطن وإسرائيل توصلتا إلى اتفاق كهذا قبل يونيو 1981، على سبيل المثال، ما كانت إسرائيل ستقوم بتدمير المفاعل النووي في العراق، لأن الأمريكيين عارضوا الفكرة، والرئيس “جورج بوش” كان ضدها، وبالتالي ما كانت ستحدث”. أيضًا تساءل “عاموس يادلين”، رئيس معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، في تعليقه على اقتراح “نتنياهو” بقوله: هل يعتزم رئيس الوزراء مناقشة حدودنا مع مجلس النواب الأمريكي الآن؟ مشيرًا في الوقت نفسه إلى نقطه مهمة، وهي أن أقوى مؤيدي وداعمي إسرائيل مثل السيناتور الجمهوري “ليندسي جراهام”، يرفضون اتفاقية دفاع مشترك مع إسرائيل لأنها ستتسبب في القضاء نهائيًّا على مشروع حل الدولتين لإنهاء الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي!
في هذه النقطة الأخيرة التي أثارها “عاموس يادلين” يكمن حل اللغز الذي بدا فيه أن “نتنياهو” ينقلب ظاهريًّا على الثوابت القومية الإسرائيلية وعلى تراث الليكود ذاته وتراثه هو شخصيًا، فالواقع أن “نتنياهو” لا يقترح اتفاقية الدفاع المشترك لأنه يؤمن بفائدتها لإسرائيل، بل لاستخدام هذا الطرح لإفساد مخطط “ترامب” المعروف بصفقة القرن والذي يستهدف إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي عبر إقامة دولة فلسطينية إلى جوار إسرائيل. ويدرك “نتنياهو” أن المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط ستجعل من صفقة القرن والدولة الفلسطينية أمرًا محتمًا لا يمكن لإسرائيل أن تقاومه. كما يدرك في الوقت نفسه أن من شأن اتفاق يُلزم كل طرف بالدفاع عن حدود الآخر تحديد أين ستقوم إسرائيل برسم حدودها في القدس والضفة الغربية، وهو ما يريد أن يتفاداه “نتنياهو”، وبالتالي فإن “نتنياهو” يسعى لإفساد الصفقة عبر وضع الولايات المتحدة أمام خيارين: إما أن تقبل بضم إسرائيل لغور الأردن وما يترتب عليه من تدمير حل الدولتين عمليًا، أو أن تستجيب لاحتياجات إسرائيل الأمنية في حال رفضها الاعتراف بضم إسرائيل لغور الأردن كمنطقة حيوية لأمنها، واستبدال ذلك بمعاهدة دفاع مشترك مع الولايات المتحدة قد تكلف واشنطن التورط المباشر في حروب إسرائيل مع إيران ووكلائها مثل حزب الله وحماس. رهان “نتنياهو” -إذن- في ظل يقينه بأن الكونجرس الأمريكي -المنوط به الموافقة على مثل هذه الاتفاقات- لن يقبل بتوقيع مثل هذه الاتفاقية، هو أن تتراجع واشنطن عن صفقة القرن وتتجاهل مستقبلًا أي قرار إسرائيلي بضم الغور، إن لم يكن تأييده علنًا!