يذهب البعض إلى تفسير توقيت بث المقطع المصور الذى أصدرته وكالة «أعماق» المنصة الإعلامية لتنظيم «داعش»، باعتباره دلالة على افتقار التنظيم للقدرة على تنفيذ عمليات مسلحة على الأرض، فيقوم بالاستعاضة عن ذلك بإطلاق قذيفة إعلامية بحجم هذا الشريط المروع. فقد ظهر مؤخراً إصدار بعنوان «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، مدته 31 دقيقة يوثق عملية هجوم قام بها عناصر تنظيم «داعش»، على منطقة «الفقهاء» جنوب ليبيا. أظهر التسجيل مقاتلين من داعش بعضهم يلبس بدلات عسكرية أو شبه عسكرية، والبعض الآخر يرتدى لباساً أسود، أثناء الهجوم على قرية «الفقهاء» بعربات الدفع الرباعى التى انطلقت من الصحراء، فى إغارة بدت كاسحة وصادمة أو هكذا بدت فى المشاهد الحية التى اشتمل عليها الإصدار المصور.
الاحتمال الأرجح أن هذا المقطع المصور، يوثق الهجوم الذى نفذه التنظيم أبريل الماضى ولهذا فهو ليس بجديد، لكن أحداث الجنوب تقريباً لم تتوقف منذ هذا التاريخ، وغير معلوم على وجه الدقة إلى أين غادر عناصر التنظيم بعد تنفيذ تلك الغارة. يبقى حجم العنف والانتهاك الواسع الذى نفذه التنظيم بحق المنطقة، فقد قام عناصر التنظيم -كما جاء بالمقطع المصور- بإحراق بعض المقرات الأمنية والحكومية، بينها مركز الحرس البلدى بالفقهاء، إضافة إلى اختطاف عدد من المواطنين وتصفيتهم بالرصاص وهم مكبلو الأيادى من الخلف بعد مداهمة منازلهم، كما أقام التنظيم كعادته، نقاط فرز تشبه النقاط الأمنية، حيث يقوم فيها بتفتيش السكان والأهالى المارين على طرقات مداخل منطقة الفقهاء، ويحرص بالطبع على توثيق ذلك بالصورة كى يبثها فى إصداراته الإعلامية، للإيحاء بأنه يسيطر على المنطقة للحد أنه يقوم بتوزيع نقاط أمنية فيها، ويمثل ذلك دون شك أيضاً طعناً وجرحاً غائراً فى مفهوم السيادة على تلك المنطقة الحدودية. فمنطقة «الفقهاء» تقع فى منطقة نائية جنوبى منطقة الجفرة، كإحدى المناطق الخمس المكونة للمنطقة التى تجاور جبال الهروج، على الطريق المؤدى نحو الجنوب الغربى إلى «براك» ومدينة «سبها». وقد سبق لـ«داعش» أن هاجمتها فى أكتوبر 2017، وقتلت حينها (14 شخصاً) بين عسكريين ومدنيين، البعض بالنيران وغيرهم ذبحاً بالسكاكين!
الجنوب الليبى دون شك يحتل ركيزة أساسية فى مخططات «داعش» الاستراتيجية، ليس فقط لمجرد إعلانه سابقاً عن تأسيس «ولاية فزان»، التى لم يتمكن من التوطين الفعلى المستقر فيها حتى فى ذروة تفوقه واستقراره بالمركز فى سوريا، لكنها منطقة لن تخرج بأى حال -فى المدى المنظور على الأقل- عن مستهدفاته الجغرافية. فالأمر وفق المخطط الداعشى يتجاوز حدود الدولة الليبية، حيث يضم للولاية المستهدفة الجنوب التونسى المتاخم لتلك المنطقة، الذى نفذت فيه عملية الهجوم على بلدة «بن قردان» عام 2016. حيث يراهن التنظيم على أن الجنوب معبأ بالغضب واحتقان الحالة الاقتصادية الضاغطة، وهو يراقب عمليات التهريب التى تجرى على جانبى الحدود الليبية التونسية باعتبارها بيئة مثالية لوجوده، بغرض فرض حمايته على هذا النشاط غير الشرعى، المستمر منذ عقود حتى من قبل الثورة التونسية، حينها كان يقتصر على تهريب المواد الغذائية، اليوم أصبحت المنطقة معبراً لتهريب الأسلحة من ليبيا نحو تونس ومنها أيضاً إلى الجزائر. هذه معادلات يسعى «داعش» وغيره من التنظيمات الإرهابية إلى اختراقها، فهى النمط المثالى الجديد الذى يضمن الحياة للتنظيمات، وفق منظومات المنافع المتبادلة ما بين الإرهاب المسلح وتشكيلات الجريمة المنظمة.
لا يقتصر الأمر على جنوب تونس؛ فهناك خطوط اتصال وتأثير واستهداف أيضاً للمناطق الحدودية الواقعة شمال تشاد ومالى والنيجر، وجميع تلك الحدود القريبة جداً من مسرح العمليات الذى نتناوله، بها قدر عالٍ من الهشاشة الأمنية التى تسمح بهذا التمدد الداعشى بصورة مريحة. وهنا يجب الإشارة إلى أن تلك المنطقة لا يوجد بها تنظيم «داعش» وحده، فهناك ميليشيا أخرى قوية ونافذة وتتبع مباشرة حكومة «فايز السراج» بطرابلس. يطلق عليها مسمى «قوات حماية الجنوب»، وهى ميليشيا قوامها الرئيسى مقاتلون من «قبائل التبو» الليبية، وتضم بين صفوفها عدداً كبيراً من المرتزقة أصحاب الجنسية التشادية ودول أفريقية أخرى مثل نيجيريا. هذه الميليشيا تقاتل تحت إمرة «حسن موسى التباوى» الذى يظهر تحت مسمى حركى «أبوبكر السوقى»، من أجل نفى صلته القبائلية بـ«التبو» الموجودين داخل كل من الأراضى الليبية والتشادية. وهناك العديد من الوقائع والإشارات المؤكدة بأن تلك الجماعة الإرهابية تستهدف الإضرار بالنسيج الاجتماعى الليبى، عبر إحياء أشكال الفتنة بين القبائل والمكونات الاجتماعية. فقد ارتكبت عدداً من الهجمات المسلحة فى مدن «مرزق» و«سبها» و«غدوة»، وغيرها من المدن، منذ إعلان الجيش الوطنى الليبى إطلاق عملية «طوفان الكرامة» لتحرير العاصمة طرابلس فى أبريل الماضى من الميليشيات، كنوع من الالتفاف وتخفيف الضغط على الميليشيات المتحالفة معها بمحيط طرابلس وداخلها، بعد اشتداد ضربات الجيش الليبى وتحقيقه نقاط تقدم مؤثرة، دفعت حكومة طرابلس إلى تنشيط تلك الجبهة مرة أخرى، وإمداد عناصرها بالأموال والسلاح من أجل إشغال الجيش الليبى بما يجرى خلفه بالجنوب من تهديدات.
هذه الميليشيات التى تجاور تنظيم «داعش»، وتنسق العمل فيما بينهما حتى لا يحدث تنافس أو تضارب فى المصالح، هى الأخرى لها حصص معلومة من الجنوب ولها مهام تستدعى لها فى الوقت المناسب لتنفيذها. لعل أشهر تلك المهام أن «أبوبكر السوقى» ظل لفترة، مكلفاً وميليشياته بحماية «حقل الفيل» النفطى من قبل حكومة الوفاق، التى شارك من خلالها فى عمليات واسعة لتهريب الوقود، لكنه فر عند دخول الجيش الليبى إلى الجنوب فى يناير الماضى. كما ورد اسمه بتقرير «المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين»، والمنظمة الدولية لمكافحة الجريمة 2017، رفقة كل من «أدامو تشيكى التباوى» و«شريف أبردين الطارقى» باعتبارهم المسئولين عن استقبال الأفارقة القادمين من صحراء الجنوب، وأنهم يتقاضون رسوماً كبيرة مقابل السماح للمهاجرين غير الشرعيين بعبور الصحراء الليبية نحو الشمال.
*نقلا عن صحيفة “الوطن”، نشر بتاريخ ١٠ ديسمبر ٢٠١٩.
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية