تقليديًّا، تقوم الجيوش بفعاليات مختلفة مثل الأنشطة والتدريبات والمناورات لأهداف استراتيجية محددة، يمكن تحليل الأبعاد الاستراتيجية لها من خلال أنواع التشكيلات التي تنفذها وموقعها وتوقيتها والأطراف المشاركة فيها، وطبيعة الأهداف الاستراتيجية المطلوبة. بعضها قد يكون دوريًّا تقوم بها الأسلحة المختلفة في الجيوش في إطار برامجها التدريبية لرفع كفاءتها، لكن هناك أيضًا فعاليات غير اعتيادية تقوم بها الجيوش في ظروف غالبًا ما تكون غير تقليدية، خصوصًا للتعامل مع مخاطر وتهديدات طارئة تُشكل تحديًا للأمن القومي، تقتضي أن تقوم الجيوش المحترفة بنشاط نوعي استراتيجي أو تكتيكي، تقوم بها دولة أو أكثر في إطار تحالف أو تعاون مشترك، كتلك التحالفات التي تشكلت خلال الفترة الأخيرة لمواجهة ظواهر أمن غير تقليدي كظاهرة الإرهاب، أو الهجرة غير الشرعية، أو لتأمين أهداف ومصالح حيوية.
وفرضت حالة الأمن وسط إقليم متوتر -ويعتقد أنه سيظل قلقًا لفترة طويلة في المستقبل- على دولة مثل مصر الاستمرار في حالة دائمة من الجاهزية لقواتها المسلحة “للتدخل السريع” لمواجهة المخاطر والتهديدات التي تظهر من آن لآخر، وعلى جبهات متعددة في نفس الوقت. وخلال الأسبوع الماضي، قامت القوات المسلحة المصرية بتدريبات بحرية تهدف -بحسب البيان الرسمي للعملية- إلى فرض السيطرة البحرية على المناطق الاقتصادية بالبحر المتوسط، وتأمين الأهداف الحيوية في المياه العميقة، وهو السياق الذي يمكن تناوله بقدر من التحليل.
مسرح التدريبات في شرق المتوسط
ابتداءً، هناك متغيرات هيكلية تشهدها البيئة الجيوسياسية لشرق المتوسط لا تزال قيد التشكل، ستغير من طبيعة الترتيبات الأمنية التي عرفتها المنطقة في حقبة ما بعد الحرب الباردة، وتعكسها مؤشرات عديدة، منها وربما أبرزها متغير ميزان القوى وخرائط النفوذ للقوى الدولية والإقليمية في تلك المنطقة والتي تشكلت في ضوء التفاعلات التي شهدتها المنطقة على إثر الصراعات والنزاعات المتعددة. ثم المتغير الآخر المتمثل في الطفرة الاقتصادية لمنطقة شرق المتوسط في ظل اكتشافات الغاز، والتي شكّلت هي الأخرى محفزًا إضافيًّا للمتغيرات الاستراتيجية في المنطقة. ويمكن القول بشكل مؤكد إن القوات المسلحة المصرية استعدت بشكل استباقي لهذه المتغيرات تعكسها تقارير التسلح الدولية، التي تجعل مصر في صدارة البحريات الدولية والإقليمية. وبشكل أكثر تحديدًا فإن برامج التحديث والتطوير المستدامة وفق أعلى معايير النظم والبرامج.
لكن من المتصور أن ديناميكية التفاعلات الخاصة بالمتغيرات الإقليمية ستُفرز بالتدريج ظواهر جديدة مرحليًّا، منها في المرحلة الحالية “التفاعلات الهجين”، ولعل أبرز مظاهرها مساعي بعض الأطراف الإقليمية كتركيا لخلط التفاعلات المختلفة ببعضها، بهدف فرض معادلة اشتباك جديدة تجمع ما بين دورها في إشعال الصراعات الإقليمية وبين مساعيها للقرصنة في شرق المتوسط للوصول إلى حقول الغاز ولو بطرق غير مشروعة إلى جانب فرض صراع جديد على الإقليم، وهو ما ظهر بوضوح في التطور الأخير الخاص بقضية ترسيم الحدود مع حكومة الوفاق الليبية.
وبغض النظر عن المشروعية القانونية التي يفتقر إليها هذا الاتفاق، ففي الأخير لدينا تداخل في نقاط الاشتباك، إحداها تتطلب إجراءات الحماية والتأمين واستعراض جانب من آليات الردع لتأمين مسرح الأمن القومي المصري الذي لا يمكن الجدال حوله، ونقطة الاشتباك الأخرى هي تمدد هذا المسرح إلى الجوار الاستراتيجي المصري في المسرح الليبي الذي لا يقل أهمية عن المياه الاقتصادية المصرية في أعالي البحار، ما يفرض إجراءات رفع الجاهزية وتطوير التحركات الخاصة بتأمين الجبهة الغربية المصرية.
طبيعة وأهداف التدريب
قام بالتدريب تشكيل نوعي فريد من القوات البحرية المصرية ضم أحدث الأسلحة، شمل تشكيل إحدى حاملات الطائرات المصرية “ميسترال”، وتشكيل مصاحب ضم الغواصة “روميو” التي لفتت الأنظار لدى الكثير من دول العالم بما أُدخل عليها من تحسينات شكلت طفرة في أهميتها الاستراتيجية في المعارك البحرية، وهو ما يوضحه الفيديو الذي بثته القوات المسلحة للغواصة من الداخل، وللحظة إطلاقها صاروخ هاربون المضاد للسفن عمق– سطح “يصل مداه لأكثر من 130 كم” والذي أصاب أهدافه المحددة. وبالتالي فإن هذا التطور في حد ذاته هو مؤشر على القدرات الفنية والتكنولوجية المتقدمة التي تمتلكها القوات البحرية حاليًّا. وضم التشكيل أيضًا طاقم الغواصة الألمانية “تايب 209” التي تعد من أفضل الغواصات الهجومية في العالم.
ووفقًا لبيان العملية، فإن الهدف من التدريب هو “تطوير القدرة على مواجهة التحديات والمخاطر التي تشهدها المنطقة”، وهو ما يشتمل على عدة نقاط ورسائل محددة ومباشرة، منها ما يلي:
– هناك تهديدات ومخاطر تشهدها المنطقة في الوقت الراهن، استدعت الاستجابة الفورية من القوات المسلحة للتعامل معها في الوقت المناسب وبشكل سريع. ومن المعروف أن عامل التوقيت في الأنشطة العسكرية هو عامل استراتيجي، فعدم ضبط التوقيت يؤثر على النتائج بشكل واضح، لا سيما ما يتعلق منها بالرسائل المطلوبة في هذا التوقيت التي يجب أن تصل إلى الطرف أو الأطراف المطلوب أن تصل إليها تلك الرسائل “الآن”.
– القيادة والسيطرة: والتي تعكسها مؤشرات عديدة، منها سرعة الاستجابة الفورية لمواجهة التحديات والمخاطر المحتملة في المنطقة للتعامل معها بشكل استباقي، ونمط الانتشار، وطبيعة منظومات القيادة والسيطرة التي تعكسها طبيعة التشكيل العسكري القائم بالتدريب، ومدى دقتها وقدرتها على تحقيق الأهداف المطلوبة في الزمن المحدد، والقدرة على تكرار ذلك التدريب بشكل متقدم في حال استمرار الخصم في التصعيد، وتأكيد أن مصر قادرة على فرض التعامل مع أي متغيرات تتعلق بمعادلات توازن القوى وكسر محاولات التأثير عليها من جانب أي قوة منافسة أو معادية، فضلًا عن القدرة على التعامل مع متغيرات معادلات الاشتباك.
– رسائل الردع: ينطوي هذا النمط والأول من نوعه على التدريبات وطبيعة التشكيل والتسليح البحري “الهجومي” على فكرة رسائل الردع بشكل مباشر، وهو هدف مترتب على فاعلية عامل القيادة والسيطرة في التأكيد على القدرة المصرية بعدم السماح لأي قوة منافسة أو خصم بتجاوز الخطوط الحمراء للأمن القومي المصري، وأنه كما تمتلك القوات المسلحة المصرية القدرات “الدفاعية” فهي أيضًا تمتلك قدرات “هجومية” في نفس الوقت وبكفاءة عالية، ويمكنها اتخاذ قرار صارم في التوقيت المناسب باتخاذ إجراءات الردع، سواء في إطار تأمين الأهداف الحيوية باعتبارها هدفًا ثابتًا، أو ردع محاولات التأثير غير المباشرة أو الطارئة مع تصاعد التحديات وفقًا لمنظور التفاعلات الهجينة، وربما الجاهزية أيضًا لإسناد حلفاء في المنطقة قد يتعرضون لتهديد في ظل سياسات العداء المتنامية ضدهم كأهداف متغيرة بحسب الظروف والتطورات.في الأخير، تفرض حالة استمرار وتنامي التهديدات والمخاطر -لا سيما الطارئة- في المنطقة استعدادات أشبه بقوة “الردع السريع”، والاستعداد لخطوة متقدمة للدفاع عن الأمن القومي المصري، وذلك في إطار مدرك استراتيجي مرحلي كاشف وهو أن المنطقة لن تستقر في الوقت الحالي والمدى المتوسط، وأن الجوار المصري على كافة الأبعاد الاستراتيجية هو “جوار ملتهب”، وأن هناك أنظمة إقليمية “متهورة” ربما يصعب ردعها بآليات الردع التقليدية، وبالتالي فقد تكون هناك ضرورة لرفع مستويات الردع إلى درجات ما دون الاشتباك تكتيكًا، والجاهزية لاحتمالات أعلى قد يتطلبها الأمر لاحقًا وفقًا لدرجة وطبيعة التطورات.