كشف فوز “عبدالمجيد تبون” من الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية الجزائرية بنسبة 58% من أصوات الناخبين، والتي أجريت في 12 نوفمبر 2019، عن تحولات غير متوقعة في المشهد الجزائري، بعد حسم جدل الشرعية وملء الفراغ السياسي، وبعد إعلان الرئيس المنتخب عن رغبته في الحوار مع رموز الحراك الشعبي ووضع دستور جديد للبلاد، وعدم نيته تشكيل حزب سياسي، بعد أن أصبح الرئيس الثامن للجزائر بعد الاستقلال في انتخابات اكتسبت أهميتها من كونها أول انتخابات رئاسية تُجرَى بعد رفض الحراك للعهدة الخامسة للرئيس “عبدالعزيز بوتفليقة”، الذي تنحى عن السلطة في أبريل 2019 بعد اندلاع التظاهرات في كافة أنحاء البلاد مطالبةً برحيله.
وجاءت النتائج على عكس توقعات استطلاعات الرأي العام الجزائري باحتمال تقدم “عز الدين ميهوبي” وزير الثقافة الأسبق وأمين حزب التجمع الوطني الديمقراطي. كما مثّل الاستحقاق الانتخابي الرئاسي انتقالًا سلسًا للسلطة العليا في الجزائر من دون استخدام للعنف برغم رفض قطاع من ممثلي الحراك الشعبي لنتائجها باعتبار أن “تبون” يمثل امتدادًا للنخبة السياسية البوتفليقية، حيث تولى حقائب وزارية متعددة، ومنصب الوزير الأول (رئيس الوزراء) في عهد الرئيس “عبدالعزيز بوتفليقة” في مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر من يونيو حتى أغسطس 2017، وهو ما جعل الحراك يعلن عن مقاطعته للانتخابات ورفضه الرئيس المنتخب، وإعلانه استكمال الضغط من أجل تنحية كل رموز النظام القديم بمن فيهم الرئيس الجديد.
نتائج الانتخابات
وفقًا لنتائج الانتخابات التي أعلن عنها “محمد شرفي” (رئيس السلطة الوطنية لتنظيم الانتخابات) فقد حصل “عبدالمجيد تبون” كمرشح مستقل على 4 ملايين و945 ألفًا و116 صوتًا، بنسبة 58.15%، فيما حصل “عبدالقادر بن قرينة” رئيس حزب حركة البناء الإسلامي على مليون و477 ألفًا و735 صوتًا، بنسبة 17.38%، وحصل “علي بن فليس” رئيس حزب طلائع الحريات على 896 ألفًا و934 صوتًا بنسبة 10.55%، وحصل “عز الدين ميهوبي” الأمين العام بالإنابة لحزب التجمع الوطني الديمقراطي على 617 ألفًا و753 صوتًا بنسبة 7.26%، وحصل “عبدالعزيز بلعيد” رئيس حزب جبهة المستقبل على 566 ألفًا و808 أصوات بنسبة 6.66%.
وباستعراض النتائج السابقة، يلاحظ أن “عبدالقادر بن قرينة” جاء في المرتبة الثانية بعد “عبدالمجيد تبون” الذي خاض الانتخابات مستقلًّا وبعيدًا عن دعم أحزاب السلطة التي اتجه دعمها وتأييدها لـ”عز الدين ميهوبي” الذي جاء في المرتبة الرابعة وقبل الأخيرة. فيما جاء في الترتيب الثالث “علي بن فليس” الذي شارك في استحقاقين رئاسيين سابقين خلال عامي 2004 و2014، حيث جاء في الترتيب الثاني في كليهما بعد “عبدالعزيز بوتفليقة”. أما “عبدالعزيز بلعيد” فقد جاء في الترتيب الخامس والأخير. وتعد انتخابات 2019 هي المشاركة الثانية له منافسًا على المقعد الرئاسي، حيث حصل على المركز الثالث في انتخابات 2014. أما فيما يتعلق بالمستقبل السياسي لأبرز المترشحين الخاسرين في الانتخابات فقد أعلن “عبدالقادر بن قرينة” عن طلبه إعفاءه من رئاسة حزب حركة البناء، في حين يتوقع بعض المتابعين للشأن الجزائري أن “بن قرينة” ربما سيكون له دور في المرحلة المقبلة. فيما أعلن “بن فليس” عن اعتزاله العمل السياسي، والتنحي عن قيادة حزب طلائع الحريات، وأن مشاركته في الانتخابات جاءت للإسهام في الدفاع عن ديمومة الدولة الوطنية. وبذلك يكون “بن فليس” قد أخفق في ثلاثة استحقاقات انتخابية رئاسية.
دلالات متنوعة
عكست نتائج الانتخابات الرئاسية الجزائرية التي أسفرت عن فوز “عبدالمجيد تبون” بعد اعتمادها من المجلس الدستوري العديد من الدلالات التي نشير فيما يلي إلى أهمها:
1- تغير اتجاهات تصويت الكتلة الانتخابية
يُهيمن المكون الشبابي على تشكيل الهيئة الناخبة التي تبلغ 24 مليونًا و741 ألف ناخب، حيث تتكون تركيبة الفئات العمرية ممن لهم حق التصويت في الانتخابات الجزائرية من 40% ممن تبلغ أعمارهم 18-40 سنة، 39% في الشريحة العمرية 41-50 سنة، 21% للشريحة العمرية فوق 50 سنة. وبرغم أن تيار الشباب هو المهيمن على تركيبة الهيئة الناخبة، إلا أن ثمة بروزًا لظاهرة مقاطعة الانتخابات، حيث كشفت نتائج الانتخابات عن مقاطعة مليون و243 ألفًا و458 شخصًا للعملية الانتخابية بنسبة 12% تقريبًا من إجمالي عدد الأصوات، فضلًا عن ضعف مشاركة الجاليات الجزائرية في الخارج والتي وصلت إلى 9%، وفي مقدمتها الجالية الجزائرية في فرنسا والتي تعد الأكثر عددًا. أما من الناحية الجغرافية فقد رفضت مناطق بعينها المشاركة في الانتخابات، كما رفضت قبول نتائجها أو الاعتراف بها، وفي مقدمتها منطقة القبائل التي تضم مدن: البويرة، وبجاية، وتيزيوزو. وربما يعود ذلك إلى شعور هذه المناطق بالحرمان الاقتصادي والاجتماعي، وافتقادها للخدمات الرئيسية التي تقدم في باقي ولايات الجزائر.
2- انخفاض معدل المشاركة السياسية
وفقًا للنتائج التي أعلنت عنها السلطة الوطنية لتنظيم الانتخابات فإن نسبة المشاركة بلغت حوالي 40%، وهي النسبة الأدنى على الإطلاق في تاريخ الانتخابات الرئاسية في الجزائر والتي بلغت في آخر خمسة استحقاقات انتخابية في الأعوام: 1995، 1999، 2004، 2009، 20014، النسب التالية على التوالي: 57%، 60%، 58%، 74%، 51%، لتصبح أعلى مشاركة في الانتخابات الرئاسية في عام 2009 بنسبة 74% والتي حصل فيها “بوتفليقة” على 90% من الأصوات المشاركة في الانتخابات، في حين حصل “تبون” في انتخابات 2019 على 58% من الأصوات. وربما يعود ذلك إلى اختلاف السياق الانتخابي الذي أُجري فيه كلا الاستحقاقين.
3- أفول دور أحزاب السلطة
أغلب المتابعين للشأن الجزائري واستطلاعات الرأي التي أجرتها بعض المؤسسات الجزائرية، أشارت إلى احتمال تقدم “عز الدين ميهوبي” الذي وصفته وسائل الإعلام بمرشح السلطة، ووصف هو نفسه بأنه الرئيس القادم للبلاد قبل انطلاق الحملة الانتخابية، كما أعلن أنه لن يكمل ولايته (5 سنوات) إن أصبح رئيسًا للبلاد، وسينظم انتخابات مبكرة تتوافر فيها الشرعية لتفرز رئيسًا كامل الشرعية؛ إلا أن “ميهوبي” حلّ في الترتيب الرابع بعد “تبون” و”بن قرينة” و”بن فليس”، وهو الأمر الذي جعل بعض المراقبين للشأن الجزائري يعتقدون بتراجع أحزاب السلطة التي هيمنت على المشهد الجزائري منذ إقرار التعددية في الجزائر عام 1995، وهو العام الذي شهد إجراء انتخابات تنافسية وصل فيها “الأمين زروال” لسدة الحكم ولم يكمل مدته القانونية، حيث استقال قبل نهايتها بعام، ليتم انتخاب “عبدالعزيز بوتفليقة” عام 1999 وينجح في إقرار قانون الوئام الوطني الذي أسهم في استعادة الحياة الحزبية في الجزائر وإن ظلت شكلية. إلا أنه عقب إعلان “بوتفليقة” استقالته بعد استمراره في السلطة لما يقرب من عشرين عامًا فقدت أحزاب التحالف الرئاسي قدرتها على الحشد والتعبئة للشارع في الانتخابات الرئاسية وهي أحزاب: حزب جبهة التحرير الوطني، وحزب التجمع الوطني الديمقراطي، وحزب تجمع أمل الجزائر “تاج”، وحزب الحركة الشعبية. ومن المفارقات أن قيادة جبهة التحرير اختارت التخندق في صف المترشح “عز الدين ميهوبي”، بدلًا من “تبون” الذي انتمى إليها وشغل عضوية الهيئة المركزية بالجبهة عام 2017، علمًا بأن “ميهوبي” هو أمين عام بالنيابة لحزب التجمع الوطني الديمقراطي غريم جبهة التحرير في كل استحقاق انتخابي.
4- تراجع تيار الإسلام السياسي
استمرارًا للتقليد الذي بدأ يترسخ في الجمهوريات العربية التي شهدت حراكًا جماهيريًا، فإن الجزائر لم تخرج عن ذلك التقليد الذي بدأ في التبلور والذي يعكس تراجع دور تيارات الإسلام السياسي وفشلها في الوصول إلى السلطة العليا من خلال الانتخابات التنافسية. فعلى نفس نهج تونس في اختيار “الباجي قايد السبسي”، ثم “قيس سعيد”، نجحت الجزائر في تأمين انتقال سلطتها العليا إلى شخصية مدنية لمدة خمس سنوات قادمة وهو ما يعني استعادة الشرعية الدستورية وملء الفراغ السياسي الذي خلفه غياب “بوتفليقة” عن المشهد الجزائري. وربما مثّل حصول المرشح الإسلامي “عبدالقادر بن قرينة” على 17% من أصوات الناخبين دليلًا على هذا التراجع برغم مساندة حزب حركة البناء الوطني له. كما يتجلى هذا التراجع أيضًا في تفتت كتلة التصويت للأحزاب المحسوبة على تيار الإسلام السياسي في رفض قادة الأحزاب والحركات الإسلامية دعم “بن قرينة”. وفي مقدمتهم حركة مجتمع السلم الإسلامية “حمس”، وإن اتجهت بعض قواعد هذه الأحزاب نحو تأييد وانتخاب “بن قرينة”. وتكشف هذه الانتخابات كباقي الاستحقاقات الانتخابية الرئاسية السابقة عن المكانة المحدودة لتيارات الإسلام السياسي عند الناخب الجزائري. ففي أول انتخابات رئاسية تعددية عام 1995، لم يحصل مرشح الإخوان “محفوظ نحناح” مؤسس ما يعرف بـحركة مجتمع السلم الإخوانية على أكثر من 26% من الأصوات، وفي انتخابات 2004 لم تحصل حركة الإصلاح الوطني ومرشحها الإخواني “عبدالله جاب الله” سوى على 5% من أصوات الناخبين، وتكررت الظاهرة مع التيار ذاته في انتخابات 2009 بحصول الإخواني “محمد جهيد يونسي” على 1.37% من نسبة التصويت.
رئيس جديد وملفات ممتدة
من المتوقّع أن تُسهم الخبرة السياسية التي اكتسبها الرئيس المنتخب “عبدالمجيد تبون” عبر مسيرته المهنية كوزير للسكن والعمران، ووزيرًا للاتصالات، ورئيسًا للوزراء، في إمكانية ترجمة شعاره الانتخابي إلى واقع ملموس، وهو الشعار الذي جاء تحت عنوان “بالتغيير ملتزمون وعليه قادرون”. فيما تظل ثلاثة ملفات رئيسية تحتاج إلى تعامل بناء سيتوقف حسمها على أداء النظام السياسي بقيادة “تبون” ومدى قدرته على اكتساب ثقة الشارع، أولها ملف الحراك الشعبي والحوار الوطني مع مكوناته. وقد عبرت دعوة “تبون” خلال الكلمة التي ألقاها عقب إعلان فوزه عن رغبته في لم الشمل من خلال الحوار الوطني الجاد مع كافة القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة، وقد استجابت العديد من الأحزاب، وأعلنت موافقتها على دعوة الرئيس الجديد للحوار، وفي مقدمتها أحزاب: حركة مجتمع السلم، وحزب جبهة العدالة والتنمية، وحزب جبهة القوى الاشتراكي، والتحالف الوطني الجمهوري.
أما الملف الثاني، وربما الأهم، فإنه يتمثل في التحديات الاقتصادية التي شكلت أحد الأسباب المفسرة لاندلاع الحراك الشعبي في الجزائر، حيث يعاني الاقتصاد الجزائري من تباطؤ في النمو وارتفاع نسبة البطالة، في ظل تراجع عائدات الطاقة التي تعتبر مصدر 95% من عائدات الدولة ومصادر دخلها، والتي انخفضت بنسبة 12.5% هذا العام. كما استنفدت الحكومة أكثر من نصف احتياطاتها من العملات الأجنبية منذ بدء انخفاض أسعار الطاقة عام 2014. أما الملف الثالث فإنه يرتبط بالسياسة الخارجية الجزائرية، حيث عبر “تبون” خلال حملته الانتخابية عن رغبته في تبني دبلوماسية اقتصادية لخدمة التنمية الوطنية، وإعطاء أهمية للدبلوماسية الثقافية لتعزيز صورة الجزائر في الخارج، غير أن التحديات في المجال الخارجي سترتبط بمدة قدرة “تبون” على استعادة دور الجزائر في المنطقة العربية وإفريقيا، وصياغة علاقات أكثر استقلالية مع القوى الكبرى وفي مقدمتها فرنسا، ورؤيته لكيفية التعامل مع التنظيمات الإرهابية والمتطرفة المنتشرة في منطقة الشمال الإفريقي والتي تمثل تهديدًا للاستقرار والتنمية.
مجمل القول، إن وصول “عبدالمجيد تبون” إلى سدة الحكم في الجزائر عبر انتخابات تنافسية سيحسم جدل الشرعية وملء الفراغ الدستوري في السلطة العليا بعد غياب “بوتفليقة” عن المشهد، وسيمثل بداية جديدة لاختبار مدى كفاءة النظام السياسي الجزائري في إحداث التغيير المنشود في آليات وممارسات الحكم تحت إشراف الرئيس المنتخب من: تعديل للدستور، وتجديد النخبة السياسية ومصادر شرعيتها على أساس دعم الانتقال من الحالة الثورية إلى بناء الدولة واستعادة فعالية مؤسساتها على أسس ديمقراطية حديثة.