كيلومترات بسيطة وينتهي العمل في خط أنابيب السيل الشمالي-2 (نورد ستريم-2)، الممتد بطول 1230 كم من روسيا إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق متجاوزًا المرور عبر أوكرانيا. لكن قبل استكمال المشروع، وجدت الشركات المنفذة نفسها أمام مأزق حقيقي؛ فكل هذه الشركات أوروبية، وفجأة أصبحت أمام واقع جديد بعد أن أقر مجلس النواب الأمريكي في 12 ديسمبر قانونًا بعقوبات على الشركات العاملة في المشروع. فقد صدق الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” على القانون في 20 ديسمبر 2019، ما جعل القانون واجب النفاذ. وتخشى الشركات العاملة في المشروع من فقدان أعمالها ومشروعاتها في الولايات المتحدة ومصادرة أملاكها، والتضييق على موظفيها ومنعهم من الدخول والعمل في المشروعات الأمريكية. ومن المفترض -بحسب القانون- أن يقدم وزير الخارجية الأمريكية قائمة بأسماء الشركات والأفراد العاملين بالمشروع. (1)
الشركات العاملة في المشروع -بالإضافة إلى شركة “غازبروم” العملاقة الروسية- هي شركتا Uniper وWintershall الألمانيتان، وOMV النمساوية، وEngie الفرنسية، وShell البريطانية الهولندية. وقد ضخت هذه الشركات استثمارات قدرها حوالي 10 مليارات دولار أمريكي في المشروع لمضاعفة استيراد الغاز الطبيعي الروسي ليصل إلى 55 مليار متر مكعب سنويًّا.
خريطة رقم (1): خط سير أنبوب السيل الشمالي لنقل الغاز الروسي إلى شمال ووسط أوروبا
العقوبات لا تشمل “السيل الشمالي-2” فقط، لكنها تشمل أيضًا “السيل التركي” (ترك ستريم)، وهو الخط الممتد بطول 1100 كم من روسيا وحتى تركيا، حيث يتجه إلى جنوب وشرق أوروبا لتلبية احتياجات هذه الأسواق. تكلفة الخط تبلغ حوالي 12.9 مليار دولار، ويضخ حوالي 31 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويًّا، ويستطيع أن يضخ ضعف هذا الحجم. علمًا بأن أعمال البناء قد أُنجزت بالكامل في خط “السيل التركي”، وهو في مرحلة اختبارات التشغيل، ومن المفترض بدء ضخ الغاز للجانب الأوروبي في 8 يناير 2020. ومن غير الواضح كيف سيكون مصير الشركات الأوروبية الناقلة للغاز الروسي عبر تركيا والتي تشملها هذه العقوبات!
خريطة رقم (2): خط سير أنبوب السيل التركي لنقل الغاز الروسي إلى جنوب وشرق أوروبا
ردود الأفعال
أول رد فعل جاء من موسكو، حيث وصف الكرملين العقوبات الأمريكية ضد “السيل الشمالي-2” بأنها انتهاك للقانون الدولي ومنافسة غير نزيهة(2). كما أكدت وزارة الخارجية الروسية أن موسكو ستتابع مشروعاتها الاقتصادية رغم العقوبات، موضحة أن الولايات المتحدة تسعى لحرمان حلفائها الأوروبيين من مصادر مضمونة لتوريدات الطاقة من روسيا (3) . وجاء في بيان الخارجية الروسية أن “الرغبة في الإضرار بالصادرات الروسية ليست الشيء الوحيد أو حتى الأهم على الإطلاق، بل ما لا يقل أهمية هو التوجه الواضح لفرض الغاز المسال الأمريكي على أوروبا، والذي يكلفها أكثر بكثير من الإمدادات عبر خطوط الأنابيب من روسيا، مشيرًا إلى أن من شأن ذلك إبطاء تطور اقتصاد أوروبا وتقويض قدرتها على المنافسة مع الولايات المتحدة في الأسواق العالمية، ونتيجة ذلك يبقى الأوروبيون خاسرين من كل النواحي (4) .
رد الفعل التالي جاء من ألمانيا، والتي اعتبرت هذه العقوبات تدخّلًا في شئونها الداخلية (5) . ونددت المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” بالعقوبات، حيث أشارت في كلمة لها أمام البرلمان إلى “أن بلادها ستعارض أي عقوبات أمريكية على الشركات المشاركة في إنشاء خط الغاز الخاص بمشروع السيل الشمالي، الذي يهدف إلى ضخ الغاز من روسيا إلى ألمانيا مباشرة” (6) . وفي السياق ذاته، أيد الاتحاد الأوروبي هذا الموقف، حيث أدان هذه العقوبات ورفضها، حيث ذهب المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي إلى أن الاتحاد يعارض من حيث المبدأ فرض عقوبات على شركات أوروبية تمارس “أعمالًا مشروعة” (7) .
وجاء رد الفعل الأعنف من تركيا، حيث ذهب “أردوغان” إلى أن فرض العقوبات على السيل التركي يمثل خرقًا لما وصفه بالحقوق التركية، مشيرًا إلى أنه سيكون لتركيا عقوبات خاصة بها ردًّا على هذه العقوبات (8) . وقد يكون هذا تلويحًا باتخاذ تركيا موقفًا ضد وجود القوات الأمريكية على أراضيها، فالولايات المتحدة تستعمل قاعدتين جويتين في تركيا، بإحداهما رؤوس نووية. المفارقة هنا أن العقوبات الأمريكية على تركيا امتدت لتشمل جانبًا آخر بطريقة غير مباشرة، حيث استحدثت ميزانية الدفاع التي أقرها “ترامب” في 20-12-2019 بندًا لتدريب الجيش اليوناني، وأضاف إليها الجيش القبرصي لأول مرة منذ تجميد هذه المساعدات سنة 1974 إبان الغزو والاحتلال التركي لشمال قبرص. ثم أضافت الميزانية بندًا آخر لتسليح الجيش اليوناني، مما يعني زيادة متاعب تركيا في شرقي المتوسط، بالإضافة إلى حالة التضييق على مشروع السيل التركي. ومن الصعب التكهن بكيفية سير الأمور بين واشنطن وأنقرة.
الأهداف الأمريكية
أشار بيان الخارجية الروسية إلى مغزى تحركات واشنطن، حيث تسعى الأخيرة -وفقًا للبيان- بجهود حثيثة لمحاصرة إمدادات الطاقة الروسية ومنعها من الوصول للأسواق الأوروبية، وإفساح المجال أمام الغاز المسال الأمريكي والأعلى سعرًا، الأمر الذي لن ينعكس إيجابًا على الأسواق الأوروبية. وبالرغم من ذلك، يبدو أن شحنات الغاز الأمريكي المسال تجد طريقها إلى أوروبا انطلاقًا من السوق البولندية. وقد كانت بولندا أولى محطات زيارة الرئيس “ترامب” إلى أوروبا بعد توليه الرئاسة عام 2017، مستبقًا زيارة حلفائه التقليديين في أوروبا الغربية.
وتجدر الإشارة إلى أن بولندا نفسها لا تريد أن تتجاوز روسيا أوروبا الشرقية وتتصل مباشرة بألمانيا، لما في ذلك من تهميش لأوروبا الشرقية، أخذًا في الاعتبار أن الصين وصلت هي الأخرى إلى شرق ووسط أوروبا من خلال طريق الحرير الجديد. وفي هذا السياق، أطلقت بولندا مشروع “مبادرة البحار الثلاثة”، كمحور تنمية جامع، على غرار مشروع طريق الحرير الصيني. مشروع “البحار الثلاثة” يربط البلدان المطلة على بحر البلطيق والبحر الأسود والبحر الأدرياتيكي، ويهدف لتعزيز مكانة أوروبا الشرقية. وتأتي العقوبات الأمريكية على خطوط نقل الطاقة الروسية لتعزز من مكانة مبادرة بولندا ومبادرة “البحار الثلاثة”.
خريطة رقم (3): توضح البلدان المشاركة في مبادرة البحار الثلاثة
Source: Three Seas Initiative Investment Fund established. Central Europe Energy Partner. Published 29-8-2019. . Access 22-12-2019
أما في شرق المتوسط، فيبدو أن تحرك تركيا لعمل اتفاقية ترسيم حدود بحرية مع ليبيا والإسراع بها هو محاولة لكسب ورقة تفاوض مقابل ضغوط الولايات المتحدة. فمن ناحية، يتعرض السيل التركي لانتكاسة بسبب العقوبات الأمريكية. ومن ناحية ثانية، لا تملك أنقرة حقولًا في شرقي المتوسط، وكل مبادرات المشروعات لنقل الطاقة من حقول المتوسط تتجاوز أنقرة وتتصل مباشرة بقبرص واليونان. لذلك أرادت أنقرة أن تصنع لنفسها موقفًا يضمن لها ورقة ضغط تستخدمها في التفاوض مع بلدان شرق المتوسط. لكن التحدي جاء من واشنطن عبر إقرار الكونجرس ” قانون شراكة الطاقة والأمن لشرق المتوسط لعام 2019″ Eastern Mediterranean Security and Energy Partnership Act of 2019، والذي أعلن بالإضافة للمساعدات العسكرية لليونان وقبرص انحياز الولايات المتحدة لخط أنابيب الغاز الطبيعي المزمع إنشاؤه بين إسرائيل وقبرص واليونان. أهمية هذا الخط أنه بديل للسيل التركي (الروسي) من ناحية، وتقوية لبلدان شرق المتوسط في مقابل تركيا، من ناحية أخرى.
خلاصة
تستمر الطاقة في لعب دور محوري في تشكيل الأوضاع الجيوسياسية في مختلف ربوع العالم، ولعل العقوبات الأمريكية على شركات الطاقة الأوروبية التي تهدف لمحاصرة الإمدادات الروسية من جانب، وترويض الحلفاء الأوروبيين من جانب آخر، بالإضافة لفتح المجال لصادرات الولايات المتحدة نفسها هي وحلفائها لا سيما إسرائيل؛ هي أهم الدوافع التي تقف وراء العقوبات الأمريكية الأخيرة. علمًا بأن الولايات المتحدة تروض أيضًا الدول الناقلة لإمدادات الطاقة مثل تركيا التي تنحاز لشراء منظومة دفاع جوي روسية على الرغم من التحذيرات الأمريكية في هذا الشأن. وفي هذا مفارقة، حيث الوضع معكوس في حالة بولندا على سبيل المثال؛ فالعقوبات الأمريكية على السيل الشمالي تأتي لتعزز من مكانة بولندا في شرق أوروبا، وتعلي من شأن مشروعها الاستراتيجي “مبادرة البحار الثلاثة”.
الشاهد من هذه التطورات أن روسيا والاتحاد الأوروبي وألمانيا عازمون على استكمال المشروع مهما كانت العقبات. بينما على الجانب التركي من غير الواضح كيف سيتأثر هذا المشروع بهذا التصعيد من قبل الولايات المتحدة، لا سيما أن التحركات الأمريكية ليست نابعة عن إدارة الرئيس “ترامب” ولكن عن الكونجرس ومجلس الشيوخ الأمريكي، الأمر الذي يعطيها درجة أكبر من الاستقرار والقوة. كل هذه الأمور تشير لاحتمالات التصعيد في شرق المتوسط أو على الأقل زيادة التوتر الذي لا ينتج عنه تعاون مشترك، ولكن معادلة صفرية لصالح الأقوى الذي يملك أوراقًا أكثر للضغط.
المصادر:
- “واشنطن تفرض عقوبات على الشركات المساهمة في بناء أنبوب الغاز الروسي نورد ستريم 2″، موقع فرنسا 24، 21-12-2019. متاح على الرابط التالي:. تم الاطلاع عليه في 22-12-2012.
- “الكرملين: العقوبات الأمريكية ضد السيل الشمالي-2 انتهاك للقانون الدولي ومنافسة غير نزيهة”، روسيا اليوم، 18-12-2019. متاح على الرابط التالي: ، تم الاطلاع عليه في 22-12-2019.
- “موسكو: سنتابع مشروعاتنا رغم العقوبات”، روسيا اليوم، 21-12-2019. متاح على الرابط التالي: . تم الاطلاع عليه في 22-12-2019.
- “روسيا: أوروبا هي الخاسرة من عقوبات أمريكا ضد خطوط أنابيب الغاز”، جريدة الوطن، 21-12-2019. متاح على الرابط التالي: . تم الاطلاع عليه في 22-12-2019.
- “ترامب يوقع قانون فرض عقوبات على أنبوب غاز السيل الشمالي2″، دويتشة فيله عربي، 21-12-2019. تم الاطلاع في 22-12-2019.
- “ميركل: سنعارض أي عقوبة أمريكية على مشروع الغاز الروسي”، موقع أي إم نيوز، 18-12-2019. تم الاطلاع في 22-12-2019.
- “الاتحاد الأوروبي يعارض العقوبات الأمريكية على الشركات المشاركة في بناء خط الغاز الروسي إلى أوروبا”، يورونيوز، 21-12-2019.
- تم الاطلاع في 22-12-2019. “أردوغان يهدد بالرد على أي عقوبات أمريكية بشأن السيل التركي”، روسيا اليوم، 20-12-2019. https://bit.ly/2rnzCIg. تم الاطلاع في 22-12-2019.