في سابقةٍ هي الأولى من نوعها، وضع الرئيس العراقي “برهم صالح” استقالتة تحت تصرف البرلمان العراقي. ويكشف بيان الاستقالة عن حجم الضغوط الخارجية والداخلية التي تعرض لها الرئيس في إطار محاولته إدارة أزمة تكليف رئيس جديد للوزراء في أعقاب استقالة حكومة “عادل عبدالمهدي” على إثر الحراك الشعبي الذي يشهده العراق منذ نحو ثلاثة أشهر. ووفقًا لمراقبين فإن “صالح” بهذه الاستقالة يبعث برسالة سياسية مفادها إبراء ذمته أمام الشارع العراقي والقوى السياسية بعد الفشل في إدارة تلك الأزمة لأسباب كشف عنها في الكتاب الخاص بالاستقالة.
تلويح بالاستقالة وليست استقالة نهائية
وفق عديد من المراقبين فإن الكتاب الذي تقدم به الرئيس العراقي لا يُعد استقالة نهائية وفقًا للنص الدستوري، لكنها تُعد إعلان نية على الاستقالة، حيث قال: “لدي استعداد للاستقالة”، وبالتالي فإنه يرمي بالكرة في ملعب البرلمان، الذي سيتعين عليه إبداء رد فعل حيال هذه الخطوة، حيث يمنح البرلمان والكتل السياسية فرصة أخيرة للتوافق أو مغادرة المنصب وعدم المشاركة في الماراثون السياسي. ووفقًا للمادة 75 من الدستور العراقي فإنه يتعين على الرئيس أن يكتب استقالته ويرسلها لرئيس مجلس النواب، وفي حال مضيّ أسبوع على الاستقالة تعد نافذة، على أن يتولى رئيس مجلس النواب المنصب خلال شهر يتم خلاله انتخاب رئيس جديد بموافقة ثلثي نواب البرلمان.
سلوك الرئيس في إدارة الأزمة
يُشير سلوك الرئيس العراقي منذ بداية الأزمة إلى أنه وضع شروطًا واضحة لمسار الخروج من الأزمة، تتمثل في عدم مخالفة الدستور باعتباره كرئيس للجمهورية هو الحامي له. الأمر الآخر، هو الموازنة بين مطالب الحراك الجماهيري بهدف الحفاظ على السلم الأهلي، وبين الكتل النيابية والقوى السياسية كمسار إجرائي يقره الدستور. فعلى وقع الجدل بين تحالفي “سائرون” بزعامة رجل الدين الشيعي “مقتدى الصدر” وتحالف “البناء” بقيادة “هادي العامري” حول تفسير “الكتلة الأكبر” التي يحق لها ترشيح رئيس الوزراء، أحال الرئيس الأمر إلى المحكمة الاتحادية. كذلك، مع إبداء نيته الاستقالة فهو يتفادى الوقوع في مخالفة دستورية، حيث تم تجاوز المهله الزمنية التي يمنحها الدستور لرئيس الجمهورية لإعلان تكليف رئيس الوزراء، والتي يفترض أنها انتهت عمليًّا في 19 ديسمبر الجاري.
ضغوط متعددة
يبدو أن الرئيس العراقي حاول مقاومة الضغوط التي يتعرض لها، والتي وصلت إلى ذروتها اليوم مع مساعي كتلة “البناء” إعلان ترشيح “أسعد العيداني” محافظ البصرة السابق كرئيس للوزراء، وهو الأمر الذي حاول برلمانيون تسويقه عقب لقاء مع الرئيس قبيل إعلانه رغبته في الاستقالة، الأمر الذي وجه برد فعل سريع من الحراك في الميادين، لا سيما في بغداد والبصرة. كما أصدر الحراك بيانًا أكد فيه مسئولية “العيداني” عن الانتهاكات وعمليات القمع التي شهدتها تظاهرات البصرة العام الماضي، والتي كانت سببًا في إقالته. وبمواكبة مواقف الحراك أصدر تحالف “سائرون” بيانًا أعلن فيه أنه لم يشارك في تلك المشاورات، ولن يشارك في الحكومة، كما طالب بالابتعاد عن الفاسدين. وعلى خطاه أيضًا أعلن “ائتلاف النصر”، الذي يقوده “حيدر العبادي” رئيس الوزراء السابق، رفضه الدفع بمرشح من الكتل البرلمانية وترشيح شخصية مستقلة. ومن الواضح أن الرئيس العراقي أدرك أن هناك إجماعًا على رفض “العيداني”، وبالتالي رفض تمريره دون توافق سياسي وجماهيري.
وكشفت وسائل إعلام محلية ودولية عن دور “قاسم سليماني” (قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني) المباشر في إدارة الأزمة الحالية في العراق، والذي تمثل في هندسة مواقف الكتل السياسية الموالية لطهران تجاه الحراك، والمشاورات الخاصة بترشيح رئيس للوزراء. كما كشفت عن تهديد “سليماني” للزعامات الدينية والسياسية الرافضة للمرشح المدعوم من طهران. وتجلت كافة هذه المظاهر في فرض “العيداني” كمرشح في نهاية المطاف، حيث هددت ميليشيا “عصائب أهل الحق” الرئيس شخصيًّا، كما قادت حملة تشويه وتخوين ضد الرئيس على مدار الأسبوع الأخير، في حين أعلن قادة تحالف “البناء” “هادي العامري” و”نوري المالكي” زعيم ائتلاف دولة القانون التصعيد ضد “صالح” إن لم يمرر مرشح التحالف.
تداعيات محتملة
أولُ التداعيات ظهرت في رد فعل الحراك الذي توجه بالشكر لرئيس الجمهورية على موقفه الرافض للرضوخ لضغوط تحالف البناء. وفور صدور بيان الرئيس أيضًا، توجه زعيم التيار الصدري هو الآخر بشكر رئيس الجمهورية، كما أعلنت الكتل البرلمانية رفضها نية الرئيس الاستقالة. وإجمالًا، فإن هذه الأطراف منحت الرئيس ثقة، وأكدت على مصداقيته السياسية، وبالتالي رد الاعتبار له في مقابل حملة التشوية التي تعرض لها.
كذلك، فإن ردود الفعل من جانب القوى السياسية والنيابية تؤكد على طبيعة الاصطفافات الراهنة، فقد أعلنت ثلاث كتل هي “سائرون” و”الحكمة” و”النصر” رفضها موقف الرئيس بالاستقالة، وهي تمثل 115 صوتًا تقريبًا من إجمالي أصوات البرلمان، لكن هذه الخطوة لا تعد أكثر من تسجيل موقف سياسي وليس تصويتًا على الاستقالة، كونها لم تقدم رسميًّا بعد. وفي المقابل فإن هناك تيارًا أصبح معاديًا للرئيس، وهو تحالف البناء الذي سيواصل حملته المناهضة ضد الرئيس الذي كشف عن حجم الضغوط التي مارسها التحالف لفرض مرشحه من جهة، ومن جهة أخرى فإن “صالح” وضع التحالف في حرج، كونه أعلن موقفه صراحة على الملأ بأنه لا يستطيع تكليف “العيداني” “مرشح البناء”.
في الأخير، هناك رسالة وبيان من الرئيس العراقي تكشف عما وصلت إليه الأزمة السياسية العراقية من تعقيدات، لكنها أيضًا محطة كاشفة عن هشاشة العملية السياسية في العراق، وأن هناك تآكلًا في آلياتها بعد أكثر من عقدين لم يشهد فيهما العراق استقرارًا سياسيًّا حتى وصل إلى نقطة الصدام مع افتقار العملية السياسة للمصداقية، وفق ما تؤكد عليه شعارات الحراك، التي تؤكد على أن العملية السياسية لم تسفر سوى عن تجذر الطائفية والفساد وعن هيمنة إيران على العراق.
هناك سيناريوهات متوقعة في ضوء التطور الأخير تتعلق بتداعيات رسالة الرئيس، وهي عدول الكتل السياسية المتشددة عن مواقفها في محاولة منها لإنقاذ الموقف السياسي والتداعيات الصعبة المنتظرة حال مضيّ الرئيس إلى الاستقالة فعليًّا وانهيار العملية السياسية العراقية، ما سيضاعف من الأزمة الحالية ويدفع العراق إلى سيناريوهات أكثر ضبابية، وربما تعدل إيران أيضًا عن موقفها وتراجع خطواتها في إطار محاولة إنقاذ البيت الشيعي العراقي الذي يشهد تصدعًا كبيرًا في ظل الأزمة الحالية. ومن المتصور أن الكتلة الكردية سيكون لها دور مهم في المرحلة القادمة، لا سيما في ظل مغادرة الرئيس لبغداد وتوجهه مباشرة إلى السليمانية، وبالتالي فستكون هناك مشاورات ستسفر عن دور للأكراد إما في طرح مبادرة لتسوية الأزمة الراهنة، أو ترجيح اصطفاف من الاصطفافات وبالتالي تزيد من ثقله السياسي، لكن من المؤكد أن الأكراد أول من يعارضون المضيّ في الاستقالة، لأنهم يدركون تداعيات تلك الخطوة، سواء على البناء السياسي بشكل عام أو بالنظر للصعوبات الشديدة في التوافق على بديل على نحو ما جرى في اختيار الرئيس “صالح” لهذا المنصب.