عقب حالة من الفراغ السياسي امتدت لنحو ثمانية أشهر منذ استقالة الرئيس “عبدالعزيز بوتفليقة” على خلفية الحراك الشعبي الواسع، شهدت الجزائر نقطة فاصلة في تاريخها تجسدت في انعقاد الاستحقاق الرئاسي في الثاني عشر من ديسمبر، بمشاركة خمسة مرشحين، وصلت فيها نسبة المشاركة الإجمالية في الداخل والخارج لنحو 39.83%، لتسفر عن فوز “عبدالمجيد تبون” من الجولة الأولى منها بنسبة 58.15%، وهو ما مثل نقلة مهمة في الحياة السياسية الجزائرية بالانتقال من جيل التحرير إلى جيل الاستقلال.
ومما ساهم في حسم “عبدالمجيد تبون” الانتخابات لصالحه رصيده الشعبي كسياسي محارب للفساد، وهو ما تأكد من خلال استقالته من منصبه كوزير أول في الجزائر عقب ثلاثة أشهر منذ توليه ذلك المنصب (25 مايو-15 أغسطس 2017). كذلك جاء أداء “تبون” في المناظرة التي عُقدت بين مرشحي الرئاسة ليكشف عن تبنيه نهجًا قريبًا من توجهات الشارع الجزائري إلى حد بعيد، وهو ما تأكد في خطابه الأول بعد الإعلان عن فوزه بالانتخابات في الرابع عشر من ديسمبر والذي كشف فيه عن تبنيه نهجًا في التعامل مع الحراك الشعبي يقوم بشكل كبير على إيجاد قنوات تواصل وحوار جاد يحقق مصلحة الدولة الجزائرية ووحدتها، ويهدف إلى لم الشمل والعمل بعيدًا عن الإقصاء، والسعي لدمج الشباب الجزائري في الحياة السياسية والاقتصادية، وتقديم العديد من رجال النظام السابق للمحاكمات، وإطلاق سراح المعتقلين.
تحديات مختلفة
مع أهمية هذا التحول المهم، يواجه الرئيس الجزائري الجديد “عبدالمجيد تبون” مجموعة من التحديات المختلفة.
1- استمرار حالة الحراك الشعبي وأزمة الشرعية
على الرغم من الانقسامات المختلفة التي شهدها الحراك الشعبي الجزائري، لا يزال هذا الحراك مستمرًّا، سواء من خلال التظاهرات الأسبوعية، أو من خلال استمرار الضغط في سبيل تحقيق قائمة طويلة من المطالب المتعددة. فقد تفاوتت الرؤى داخل الحراك الشعبي نفسه بين مرحب بالانتخابات الرئاسية كإحدى آليات معالجة الفراغ السياسي الذي شهدته الجزائر منذ استقالة “بوتفليقة”، وبالتالي الترحيب بنسبة المشاركة والمصادقة الضمنية على ما أفرزته صناديق الاقتراع، وبين من يرى أن تلك الانتخابات لا تُشكل توجهات الشارع الجزائري ولا مطالب الحراك، وبالتالي الرفض التام لها ولنتائجها. ولا يمكن إغفال القوة التي تمتع بها الحراك طيلة الأشهر الماضية، وبالتالي فهي بمثابة معضلة تواجه مسار استكمال خارطة الطريق. لكن في النهاية، لا يزال الحراك يثبت قدرة على الاستمرارية في المستقبل كأحد أهم اللاعبين على الساحة السياسية الجزائرية.
ويفرض استمرار الحراك الشعبي أزمة شرعية حقيقية في الجزائر، خاصة في ظل رفض شريحة عريضة من الحراك للانتخابات ونتائجها، وهو ما عززه الضعف النسبي للمشاركة في الاستحقاق الرئاسي (حوالي 39.8%) والتي تُعد النسبة الأدنى على الإطلاق في تاريخ الاستحقاقات الرئاسية الجزائرية (وصلت نسبة المشاركة في انتخابات عام 2014 لحوالي 52%، وحوالي 75% في انتخابات 1994)، الأمر الذي يفرض بطبيعة الحال تحديات كبيرة أمام الرئيس الجديد لتجاوز هذه الفجوة بين النظام السياسي والجماهير.
2- التوازنات الصعبة في تشكيل الحكومة
تعد مهمة تشكيل الحكومة الجديدة إحدى العقبات التي تواجه الرئيس الجزائري الجديد، خاصة في ظل افتقار الساحة السياسية لنخبة فعالة قادرة على قيادة المرحلة الراهنة، وتساهم في تحقيق التغيير المطلوب، وتتمتع بقبول شعبي. إجرائيًّا ينص الدستور الجزائري على استشارة الرئيس للأغلبية البرلمانية في تعيين الوزير الأول. ويزيد الأمر صعوبة إطلاق الرئيس “تبون” وعودًا بإحداث قطيعة مع النظام السابق، الأمر الذي قد يفرض عليه اتخاذ مسافة بعيدًا عن الحزبين الكبيرين داخل البرلمان (جبهة التحرير الوطني، والتجمع الوطني الديمقراطي).
3- المشكلات الاقتصادية والمالية
منذ سنوات عديدة تُشكل الأوضاع الاقتصادية أزمة حقيقية في الجزائر، حيث كانت دافعًا وراء اندلاع الاحتجاجات الشعبية، خاصة في ظل ما يشهده الاقتصاد الوطني الجزائري من مشكلات بفعل تراجع أسعار النفط، ما أدى إلى تراجع في حجم الإيرادات الحكومية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن صادرات النفط تُمثل 95% من الدخل الحكومي، وما تبع ذلك من تحديات أخرى مثل ارتفاع معدلات البطالة التي بلغت في أواخر عام 2018 حوالي 11.7%، الأمر الذي يتطلب اتخاذ إجراءات اقتصادية عاجلة تأخذ بعين الاعتبار معطيات الواقع وتطلعات الشعب الجزائري.
4- مشكلات النخبة الوطنية
تبدو الجزائر بحاجة ماسة إلى نخبة جديدة تمثل بديلًا لنخبة 1965، ويمكنها تولي المناصب القيادية والتنفيذية بالدولة، فمن المُلاحظ أن النخبة الجزائرية وعلى مدار الأشهر القليلة الماضية، وتحديدًا منذ إقالة الرئيس “بوتفليقة”، لم تلعب دورها كقوة رئيسية في قيادة المشهد السياسي، بل اكتفت نسبة كبيرة منها بمسايرة الحراك الجماهيري الذي كان أكثر حسمًا وقوة. ويأتي المتغير الجيلي ليفسر قدرًا كبيرًا من عجز النخبة السياسية الجزائرية عن قيادة المشهد الحالي، في ظل ما شهدته السنوات الماضية من تعثر عملية تصعيد نخبة سياسية شابة في أحزاب الحكم والمعارضة على السواء، الأمر الذي دفع بهذه الفئة العمرية المهمة إلى خارج المؤسسات الحزبية والسياسية.
وإلى جانب المتغير الجيلي، شهدت الانتخابات الرئاسية الأخيرة صعودًا ملحوظًا للتيار الإسلامي، تجلى في حصول رئيس حركة البناء الوطني -أحد التيارات المنشقة عن حركة مجتمع السلم- “عبدالقادر بن قرينة” على نسبة 17.38% ليأتي في المرتبة الثانية بعد الرئيس “عبدالمجيد تبون”، خاصة مع تراجع قدرة الأحزاب التقليدية الحاكمة (حزبي جبهة التحرير الوطني، والتجمع الوطني الديمقراطي) في المشهد السياسي، وهو ما تجلى بوضوح في فشل “عز الدين ميهوبي” -المدعوم من الحزبين- في المنافسة بقوة بتلك الانتخابات وحصوله فقط على نسبة 7.26%، وهي النسبة التي تقل عن نسبة الأصوات الباطلة التي قاربت نحو 12%، الأمر الذي يدلل على بروز التيار الإسلامي بقوة في خضم المشهد السياسي الجزائري، وربما يفتح المجال واسعًا أمام الحركات الإسلامية للعب دور كبير نحو استقطاب قوى الحراك الشعبي لها، ووضع قدم لها في المستقبل المنظور، خاصة في ظل الانتخابات النيابية التي من المُقرر تحديدها عقب إجراء التعديلات الدستورية والاستفتاء عليها.
5- تحديات السياسة الخارجية
هناك ارتباط وثيق بين ملفات السياسة الخارجية ومجريات الداخل. ويمكن الإشارة لبعض التحديات على صعيد العلاقات الخارجية التي ربما تواجه النظام الحالي، ويأتي على رأسها قضية الصحراء التي لا تزال تُشكل عقبة كبيرة في العلاقات الجزائرية المغربية. ولعل انتخاب “تبون” رئيسًا للجمهورية الجزائرية، وتفاعل الحراك الشعبي مع قضية الصحراء، سيدفع إلى حلحلة تلك الأزمة. وكان من بين المؤشرات المهمة تهنئة الملك “محمد السادس” العاهل المغربي، والتي تضمنت الدعوة لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين تقوم على أساس من الثقة المتبادلة والحوار البناء. كما أن حالة التراجع الإقليمي التي شهدتها الجزائر في السنوات الأخيرة لحكم الرئيس “بوتفليقة” تشكل تحديًا آخر، حيث تتصاعد التطلعات الجزائرية لاستعادة دورها النشط على الساحتين العربية والإفريقية، خاصة في ظل تعقد القضايا الإقليمية كما هو الحال بالنسبة لليبيا ودول الساحل والصحراء.
متغيرات متلاحقة
لم تكن الانتخابات الرئاسية ووصول “عبدالمجيد تبون” للسلطة المتغير الوحيد الذي شهدته الساحة الجزائرية في الأسابيع الأخيرة. فمن ناحية، أطلق الوضع الجديد سلسلة من التفاعلات السياسية المهمة التي تحمل مؤشرات مهمة للتغيير. ومن ناحية أخرى، واكب الانتخابات متغيرات ظرفية أخرى لم تكن متوقعة كالوفاة المفاجئة لرئيس الأركان “أحمد قايد صالح”. ونشير فيما يلي إلى أهم المتغيرات التي سيكون لها دور كبير في صياغة المستقبل السياسي للجزائر بعد الانتخابات الرئاسية.
1- تقرب الأحزاب السياسية المعارضة من النظام الجديد
فقد أبدت بعض الأحزاب الكبرى في الداخل الجزائري تعاونها مع النظام الجديد، والقبول بالحوار الوطني الشامل، كما هو الحال بالنسبة لحزب العدالة والحرية، الذي دعا إلى “طي صفحة الماضي لتجاوز حالة الانسداد القائمة”. ورحبت حركة مجتمع السلم، وحزب جبهة القوى الاشتراكية، وحزب صوت الشعب، بخطاب الرئيس “تبون”، خاصة دعوته إلى الحوار، وإن كانت تلك التوجهات المرنة مرتبطة بتحقيق “تبون” لوعوده الانتخابية، ومنها التخفيف من التوتر، وفتح آفاق الحوار الشامل دون إقصاء، وإطلاق سراح المعتقلين؛ إلا أنها في المجمل تُدلل على الرغبة الحقيقية في العمل على سد الفراغ السياسي الذي تشهده الجزائر، والحيلولة دون الوقوع في ذلك الفخ مرة أخرى، كما حدث خلال تسعينيات القرن الماضي ولمدة تجاوزت أربع سنوات. كما تشير هذه الاستجابة إلى اتساع مساحة التفاهم المحتملة بين النظام الجديد وبين مختلف الأحزاب السياسية بغض النظر عن توجهاتها الأيديولوجية وموقعها من نظام “بوتفليقة”.
2- رحيل “أحمد قايد صالح”
خلال العام الماضي احتل رئيس الأركان “أحمد قايد صالح” مركز النظام السياسي، خاصة منذ استقالة الرئيس “بوتفليقة”. وقد كان لقايد صالح دور كبير للدفع في مسار الانتخابات الرئاسية تحقيقًا للاستقرار الجزئي للأوضاع التي شهدتها الجزائر منذ فبراير الماضي. وتأتي الوفاة المفاجئة لقايد صالح لتفتح الباب أمام متغيرات متعددة يتعلق بعضها بتغيير نهج الدولة في التعامل مع الحراك ومع إجراءات إنهاء الوضع السياسي المضطرب حتى الآن، ويتعلق البعض الآخر بالتغيرات المحتملة التي قد يستدعيها خروج “قايد صالح” من المشهد داخل المؤسسة العسكرية.
3- الإصلاحات الداخلية في الأحزاب السياسية
منذ بداية الحراك تشهد الجزائر تغيرات متلاحقة داخل الأحزاب السياسية الرئيسية، وهو ما عززه فوز “عبدالمجيد تبون” بالانتخابات الرئاسية، حيث تشهد غالبية الأحزاب الجزائرية في الوقت الحالي تصاعدًا في وتيرة الإجراءات المتخذة لتدوير العمل السياسي داخل تلك الأحزاب بين القيادات العليا والصف الثاني بها، خاصة بعدما قدم بعض قادة الأحزاب استقالتهم واعتزالهم العمل السياسي، كما هو الحال بالنسبة لرئيس حركة البناء الوطني “عبدالقادر بن قرينة”، و”علي بن فليس” رئيس حزب طلائع الحريات. ومما يعزز من فرص نجاح الخطوات الإصلاحية داخل الأحزاب السياسية، ما أثبته الحراك الشعبي من ضعف مؤسسي يصب في صالح الأحزاب كمؤسسات ضرورية لتنظيم العمل السياسي، وذلك في ظل افتقار الحراك إلى قيادة واضحة يمكنها التفاوض مع السلطة على المطالب المختلفة، علاوة على عجز ذلك الحراك عن تأمين خارطة طريق واضحة تكون عملية وقابلة للتطبيق.
لقد مثلت الانتخابات الرئاسية الجزائرية الأخيرة وما أسفرت عنه من نتائج نقطة تحول جوهرية وفرصة تاريخية في المشهد السياسي الجزائري، كونها تمثل بداية حقيقية لملء الفراغ السياسي، وتكريس الديمقراطية، وبناء دولة المؤسسات، الأمر الذي سيستدعي سلسلة من الإجراءات الضرورية، أهمها تشكيل حكومة توافقية، وإجراء إصلاحات دستورية وقانونية، والسعي نحو بناء توافق سياسي عريض حول القضايا الوطنية الرئيسية، بما يُساهم في نهاية الأمر في احتواء الأزمة السياسية التي امتدت لنحو عام كامل.