على قدم وساق تعمل تركيا على دفع المشهد الليبي إلى هاوية ممتدة لا سقف لها، تماثل النموذج السوري في أقل تقدير، إن لم تتجاوزه في تداعياته، بالنظر إلى موقع ليبيا الجغرافي وإطارها الإقليمي، الذي بقدر تمايزه عن سوريا إلا أن له من خصوصية تأثيره ما يفتح الباب على احتمالات تُثير قلقًا بالغًا، وتستنفر دوائر التهديد، وهذا ما جرى خلال أسبوع واحد مضى منذ إعلان أنقرة عزمها تقديم مساعدات عسكرية لـ”حكومة الوفاق” قد تصل إلى حد التواجد المباشر بطرابلس العاصمة.
دول مثل مصر واليونان وقبرص حسمت أمرها مبكرًا، وتقف في وجه هذه المستجدات برفض صريح وواضح لا لبس فيه، فلديها إدراك واسع بحجم المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها مصالحها الاستراتيجية، التي لا تقبل المساومة، في حال مضت أنقرة في تنفيذ “خدعة” حصولها على اتفاقيات بحرية وأخرى أمنية، تشرعن تواجدها العسكري على الأراضي الليبية. فرنسا أعلنت وقوفها ضد هذا المخطط التركي، وهي تتناقض مع المشروع العثماني في أكثر من منطقة، لكن في ليبيا قد تكون وتيرة الفعل السياسي أعلى، أو تكون تلك الساحة فرصة لتعويض الضيق الذي يلف موقفها في ساحات أخرى، لتصير تلك التطورات الأخيرة فرصة سانحة لباريس كي ترد الصاع أكثر منه على وجه طموح التمدد الأردوغاني. الدولة الأخيرة التي جاءت بعد تردد لتنضم لهذا القطار الرافض، والمستنفر للمجابهة، كانت إيطاليا فقط، الأحد الماضي، لتحسم أمرها بوضوح أخيرًا معلنة على لسان رئيس وزرائها “جوسيبي كونتي” رفضها لمشروع الرئيس التركي “رجب أردوغان” في ليبيا.
روما طوال سنوات الأزمة والفصول الأخيرة منها على وجه الخصوص، اتسمت سياستها بحالة من الغموض والانغلاق على نفسها، حتى عندما حاولت عبر “مؤتمر باليرمو” أن تبدد مخاوف الأطراف الأخرى، بعدما بدا أنها أكثر انحيازًا لـ”حكومة الوفاق”، وتحاول طوال الوقت وضعها في كافة توازن مع بقية المكونات الليبية، ممثلة في البرلمان والحكومة المؤقتة وقبلهما الجيش الوطني الليبي. لم يسهم “مؤتمر باليرمو” بتغيير حقيقي في المواقف، وعبرته روما دون أن تنجح في تصدير موقف متوازن للدول المعنية، رغم أن هذا كان المستهدف من انعقاده. أخيرًا أدى تلويح “أردوغان” بالتدخل العسكري في ليبيا، تحت مظلة إبرامه اتفاقًا مع “فايز السراج” بهذا الخصوص، على ما يبدو إلى تغيير موقف إيطاليا ووضعها مباشرة أمام تساؤل لا يجوز المداورة إزاءه: أين تقف روما من الطلب المقدم من حليفها الافتراضي لسرعة إرسال نجدة عسكرية تركية؟ وهنا أجابت إيطاليا “مبدئيًّا” بالرفض وسيظل البحث عن أماكن وقوفها الفعلية لاحقًا لتلك الإجابة. روما تتمايز عن الأطراف الأخرى بامتلاكها نقاط ارتكاز بعضها عسكري بغرض التأمين، وآخر استخباراتي نشط، يضع آذان إيطاليا في حالة إلمام كامل بكل ما يدور في المدن الليبية وسواحلها. وهذا الأمر يقع بشكل رئيسي في كل من “طرابلس” و”مصراتة”، والأخيرة بها مستشفى عسكري إيطالي كبير جاهز لاستيعاب أي من الحالات أو المواقف الحرجة، التي يمكن أن تندلع بغتة كعادة سيناريو الأحداث الليبية. وبهذا الموقف الأخير يمكن اعتبار أن هناك “موقفًا أوروبيًّا” شبه متكامل، يتشكل برفض المشروع التركي في دخوله على الملف الليبي، خاصة بعد تقارب كل من إيطاليا وفرنسا، حيث كانتا من قبل سجينتي تنافسهما عليه.
تركيا بدأت فعليًّا تنفيذ التدخل العسكري لصالح “حكومة الوفاق”، ليس بالصورة التي تحاول إلباسها ثوب الشرعية عبر طلب “السراج”؛ بل من خلال إرسال “مقاتلين مرتزقة” انخرطوا طوال سنوات مضت في صفوف التنظيمات الإرهابية العاملة في سوريا، والتي تُدار من الأراضي التركية في مدينة “غازي عنتاب” ومحيطها على وجه الخصوص. ففيها جرى صناعة الجسد الإرهابي الكبير “الجيش الوطني السوري الحر”، الذي جرى استخدامه كقوات متقدمة ورئيسية في العمليات العسكرية الثلاث التي قامت بها تركيا، تحت ذريعة “مكافحة الإرهاب” مخترقة الشمال السوري بكامله تقريبًا. هذا الجيش المرتزق مثّل عباءة فضفاضة لم تكن هي الوحيدة المكون المسلح الذي تديره الاستخبارات العسكرية التركية، لكنه تميز بكونه ظل جاهزًا لاستقبال فلول الفصائل والتنظيمات الصغيرة، التي ما تلبث أن تنهار عملياتيًّا على الأرض أو يتفكك بنيانها التنظيمي، حتى يجري فتح أبواب هذا الجيش لضم بقاياها المدربة على استخدام السلاح، والتي لن تجد لها مخرجًا آمنًا من دائرة الارتزاق الإرهابي الجهنمية. هذا الجيش المزعوم، وقبله عشرات الفصائل المشار إليها، يواجهون اليوم على الأراضي السورية تضييقًا كبيرًا، وانحسارًا حقيقيًّا يمثل أزمة “تموضع” وجودية وضاغطة على مسار التوافق السياسي بين الأطراف اللاعبة هناك، وبالطبع تركيا في القلب من تلك الأطراف وغارقة لأذنيها في ترتيبات ومساومات لا نهاية لها. وما يجري في “إدلب” ومحيطها تفصيلة ونموذج واحد فقط من عشرات غيره. وجدت أنقرة نفسها منذ نوفمبر الماضي أمام ضرورة التعامل الجدي والسريع مع “فوائض” العناصر الإرهابية، وإلا فسيكون التفافهم للدخول إلى الأراضي التركية حتميًّا، ففيها يقبع قياداتهم ومنها كانوا يدارون، ويتعايشون، ويتلقون العلاج لسنوات.
لذلك، ففي هذا الفصل الحرج من عمر الأزمة السورية، جاءت ليبيا ربما لتمثل حلًّا سحريًّا أمام أنقرة كي تضرب مجموعة من العصافير بطلقة إرهاب واحدة، متمثلة فيما يمكن اعتباره “إعادة تدوير”، وتموضعًا جديدًا يحقق لها القدرة على الإمساك برأس حربة إرهابية، ممتدة في طرفها الآخر إلى إدارة ظلت لسنوات تنخر في جسد الإقليم، من أجل إعلاء مشروع عثماني متكامل للاستحواذ والنفوذ، تقوم عليه جماعة “الإخوان” وفروعها في المنطقة والعالم، وتنفذ أفعاله الخشنة الدموية التنظيمات الإرهابية الصريحة، مثل: “داعش”، و”القاعدة”، ومشتقاتهما. هذا المشروع بامتداداته الواسعة أصبح اليوم لديه أطماع صريحة ومعلنة في ثروات الطاقة الموجودة في منطقتنا وفي مياه هذه الأطراف الإقليمية المتداخلة في هذا المشهد، وأظنه لن يكون بعيدًا عن الإقدام على مغامرة كبيرة في ليبيا، إما لاستخدامها كورقة ضغط أو مساومة فيما يطمح إليه، أو لصناعة مشهد من الفوضى الهائلة علها تكون طريقه للاستحواذ على القدر الذي يتيسر له. هكذا، تبدو خطط تركيا في مسار الأحداث الأخيرة، استكمالًا وامتدادًا لما جرى قبلها، والماثل للعيان في ساحات الصراع الأخرى.