عكس ردُّ الفعل الأمريكي على محاولة أنصار “الحشد الشعبي” العراقي اقتحام السفارة الأمريكية، عزمَ واشنطن خوضَ معركة المواجهة ضد التصعيد الإيراني المباشر في العراق. حيث اعتبرت الإدارة الأمريكية أن طهران تقف وراء كل تلك التطورات، استنادًا إلى تقدم قادة الحشد المقربين من إيران صفوفَ الحشود الغاضبة التي حاولت اقتحام السفارة، الأمر الذي حاولت طهران من جانبها نفيه، وردت على اتهام واشنطن لها بالإشارة إلى أن تصعيد واشنطن بالضربات العسكرية التي طالت معسكرات الحشد في العراق وسوريا تأتي ردًّا على المناورات العسكرية المشتركة التي أجرتها طهران مع كلٍّ من الصين وروسيا. ومن المتصور أن إجمالي تلك التطورات تقود إلى وصول واشنطن وطهران إلى نقطة اللا عودة للاستراتيجية التي أقرها الطرفان في العراق منذ إسقاط النظام العراقي السابق عام 2003.
كان الموقف الأمريكي يتجه في الهجمات على قواعد “الحشد الشعبي” في العراق وسوريا إلى الاحتواء، فقد أكد مسئولو الخارجية الأمريكية والبنتاجون أن واشنطن لا تريد مزيدًا من التصعيد العسكري في العراق، وهو ما أشار إليه “براين هوك”، المبعوث الأمريكي إلى إيران، عقب الضربة مباشرة، حيث أكد أنها جاءت ردًّا على تجاوز وكلاء طهران “الخطوط الحمراء” التي سبق أن أعلنها الرئيس “دونالد ترامب”، مع سقوط قتيل أمريكي في قاعدة K1 قرب كركوك جراء الهجمات الصاروخية، لكن على ما يبدو فإن إيران لم تستجب لرسائل الاحتواء الأمريكية، وقررت في ضوء رد فعلها على قصف قواعد الحشد الاستمرار في تجاوز الخطوط الحمراء، ما يُنذر باستمرار مسار التصعيد على الجانبين.
مسارات التحرك المحتملة
بالنسبة للولايات المتحدة، فإن استيعاب الدرس التاريخي يبدو ملحًّا في ظل هذه الأجواء، حيث يعيد مشهد الثلاثاء 31 ديسمبر 2019 إلى الذهن الأمريكي مشهد اقتحام السفارة الأمريكية في طهران عام 1979، والذي لا تريد تكراره بعد أربعة عقود. وبالتالي، من المحتمل أن تزيد واشنطن من حضورها العسكري في العراق بشكل رئيسي ضمن استراتيجية زيادة قواتها العسكرية في الخليج بشكل عام، حيث تشير التدابير السريعة التي اتخذتها الإدارة الأمريكية إلى توجه واشنطن لزيادة قواتها العسكرية لتأمين سفاراتها وقواعدها العسكرية، ضمن توجه عام لزيادة حضورها العسكري في العراق، وهو توجه مضاد للتحركات الإيرانية التي سعت منذ بداية العام الماضي إلى دفع وكلائها عبر البرلمان لإصدار تشريع يُنهي التواجد الأمريكي في العراق الخاص باتفاقية “قوات التحالف الدولي للحرب على داعش” لدى إعلان الرئيس “ترامب” نيته توجيه قواته المنسحبة من سوريا إلى العراق لمراقبة طهران، وهي الخطوة التي نجحت الرئاسات الثلاث (الجمهورية – البرلمان – الحكومة) في عرقلتها.
في هذا الإطار، من المتوقع أن تقوم الإدارة الأمريكية باتخاذ خطوات لردع إيران في العراق في الفترة المقبلة ضمن سياق “الخطوط الحمراء”، ومراقبة التحركات الإيرانية بين العراق وسوريا، وهي استراتيجية أقرب إلى الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه إيران في سوريا والعراق. ويؤكد هذا التوجه سياسة “الرد المناسب” المشار إليها من الجانب الأمريكي، فبعد فترة وجيزة من وصول القوات الأمريكية فعليًّا من سوريا إلى العراق، اتجهت إيران إلى التصعيد العسكري، حيث دفعت ميليشيا “حزب الله العراقي” –المدرجة على قائمة الإرهاب الأمريكية منذ 2009- إلى استهداف إحدى القواعد التي انتشرت فيها تلك القوات بصواريخ كاتيوشا، وصلت -وفق تقديرات- إلى نحو 300 قذيفة صاروخية، فجاء الرد الأمريكي بهجوم نوعي مضاد، استهدف الميليشيا المسئولة عن الهجوم على القاعدة، والمسئولة -في الوقت ذاته- عن تأمين مخازن وخطوط إمدادات الصواريخ بين العراق وسوريا.
كذلك، من المتصور أن واشنطن ستعتمد خيارًا إضافيًّا في المواجهة مع طهران، وهو زيادة انتشارها العسكري في الخليج، والذي بدأ أول ملامحه مع الإعلان عن قدوم قوة عسكرية إلى الكويت (750 جنديًّا)، إضافة إلى القوات التي تم الاتفاق عليها قبل نحو شهرين مع السعودية (3000 جندي) ومنظومات (باتريوت) في أعقاب هجمات أرامكو التي تتهم واشنطن طهران بالوقوف وراءها. ومن ثمّ فإن ملامح التحركات الأمريكية في المرحلة المقبلة تجاه إيران ستعتمد مسارَيِ الاستمرار في مواجهة الضغوط إلى أقصى درجة ممكنة بزيادة مستوى العقوبات على طهران ووكلائها الإقليميين، إلى جانب زيادة مستوى الحشد العسكري الأمريكي في المنطقة لمواجهة التصعيد العسكري الإيراني.
أما بالنسبة لطهران، والتي سعت إلى فرض قواعد اشتباك جديدة مع واشنطن في المنطقة والعراق، فمن المتصور أنها ستعمل في مسارات موازية لمسارات الحركة الأمريكية، حيث ستواصل مسارات الضغط عبر وكلائها في العراق، سياسيًّا وعسكريًّا، كما ستزيد من التصعيد عبر باقي الوكلاء الإقليميين، لا سيما الميليشيا الحوثية في اليمن. فبعد فترة من الهدوء دامت نحو 3 أشهر تقريبًا توقفت خلالها الهجمات الصاروخية على السعودية، كما كانت تسعى إلى إقرار هدنة معها؛ عادت الميليشيا الأسبوع الماضي لإطلاق الصواريخ مجددًا داخل الحدود السعودية.
كذلك، من المتصور أن طهران ستسعى إلى رفع وتيرة التعاون العسكري مع روسيا والصين؛ فالمناورات التي شهدها الخليج الأسبوع الماضي تأتي ضمن مسار طويل لهذا التعاون، سبقه تبادل زيارات لوفود عسكرية عالية المستوى، والاشتراك في فعاليات عديدة، منها عروض عسكرية ومعارض تسلح. وفي ظل الاتجاه الدولي الذي تقوده واشنطن لتأسيس قوة بحرية دولية لتأمين الخليج تضم العديد من دول العالم، فلا شك أن إيران تتحرك في خطوة في نفس الاتجاه، تظهر من خلاله أنها عضو في تحالف دولي يضم القوى المنافسة للنفوذ الأمريكي في المنطقة.
المأزق العراقي
الاصطفافات التي تعكسها تطورات المشهد العراقي الراهن تؤكد من جديد المأزق السياسي والأمني في العراق، وأن العراق هو من يدفع كلفة السجال الأمريكي–الإيراني على أرضه، الأمر الذي يتبلور في عدة نقاط:
أ- عدم الاستقرار السياسي: أحد الأهداف التي سعت إليها إيران بدفع وكلائها لإشعال المشهد في العراق هو إعادة هندسة المشهد السياسي هناك لصالحها، واستمرار السيطرة على نفس المسار الذي تعتمده منذ سقوط النظام السابق. فمن المؤكد أن طهران نجحت في تحويل الأنظار من مشهد “الانتفاضة السياسية” التي يقوم بها الحراك الشعبي المناهض للعملية السياسية والنظام السياسي القائم على مدار العقدين الأخيرين، إلى مشهد السفارة الأمريكية و”الانتفاضة السيادية”، على اعتبار أن الولايات المتحدة قامت بانتهاك سيادة العراق. ومن مشهد الحراك أيضًا المنتفض ضد تغول الفساد وبعض الرموز الدينية، لا سيما التي تقود الحشد، إلى مشهد “المقاومة” الأَوْلَى بالاعتبار حاليًّا، والتأكيد على مكانة “الحشد الشعبي” ليس فقط كقوة أمنية متحكمة ومسيطرة، لكن تعزيز مكانته في ظل خطف الحراك الأضواء منه. كذلك، مع وصول الساسة في العراق إلى طريق مسدود لتشكيل الحكومة العراقية، فقد أظهر هذا المخاض مدى التصدع داخل البيت الشيعي. وبما أن هناك قواسم مشتركة لدى الأغلبية الشيعية على مناهضة الوجود الأمريكي؛ فإن إثارة قضية الوجود الأمريكي في العراق ستُعيد تقريب الأطراف التي كادت تصل إلى حد الصدام للعودة مرة أخرى للتكاتف على “قضية وطنية”.
ب- عدم الاستقرار الأمني: من المتصور وفقًا لما سبق أن إيران حققت الأهداف السياسية من تحريك المشهد العراقي في اتجاه مغاير للتوقعات، لكنّ الخطورةَ هي وصول طهران وواشنطن إلى نقطة اللا عودة، حيث يعمل الطرفان على مسرح واحد، وغالبًا ما شكلت الحكومة العراقية قناة الاتصال بينهما، لا سيما في فترة الحرب على “داعش”. لكنّ الأحداث كشفت أن هذه القناة نفسها أصبحت عرضة للتجاذبات والتنافس بين الطرفين، كما أن تداعيات ما يجري حاليًّا ستضع الطرفين من الآن فصاعدًا على خط المواجهة باستمرار، والتي أصبح العراق أبرز ساحاتها. لكن من المتوقع أن تتمدد في مواقع أخرى تدريجيًّا إن لم يتم احتواؤها.
مجمل القول، إن دورة الصراع الأمريكي-الإيراني في المنطقة وصلت إلى نقطة ذورة في المرحلة الراهنة، ستبقى مفتوحة على سيناريوهات عديدة في المدى القريب، بعضها لم يكن متوقعًا. ومن المؤكد أن الولايات المتحدة لم تعد وحدها تعتمد قاعدة ممارسة الضغط إلى أقصى درجة؛ بل إن إيران ستلعب وفق القاعدة ذاتها أيضًا.