كشفت التظاهرات اللبنانية التي اندلعت في 17 أكتوبر 2019 عن هشاشة النظام القائم على المحاصصة الطائفية منذ أن تم وضع ركائزه بعد اتفاق الطائف عام 1989 الذي أنهى الحرب الأهلية التي استمرت ما يقرب من خمسة عشر عامًا، وهو الاتفاق الذي أسفر خلال هذه الفترة الممتدة التي وصلت لما يقرب من ثلاثين عامًا عن نوع من اقتسام السلطة التوافقي بين الطوائف اللبنانية المتصارعة على السلطة والنفوذ والثروة، كما ضمن توزيع الأدوار والوظائف القيادية داخل النظام السياسي، خاصة الرئاسات الثلاث: رئاسة الجمهورية للمسيحيين، ورئاسة الحكومة للسنة، ورئاسة البرلمان للشيعة. هذا النظام استقر العمل به في لبنان، بحيث أصبح من تقاليدها السياسية والقانونية منذ ثلاثة عقود. غير أن تجليات الممارسة على أرض الواقع كشفت بجلاء عن استحواذ رموز الطوائف على الثروة والسلطة معًا في ظل معاناة الأغلبية العظمى من اللبنانيين في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية، وتهالك البنية الأساسية، وتزايد التضخم، وارتفاع نسب البطالة بين الشباب، بما حوّل الأزمة التي بدأت بمحاولة الحكومة إقرار ضرائب جديدة لفرضها على قطاع الاتصالات إلى حراك شعبي ثائر وُصف في بداياته بانتفاضة “الواتساب” قبل أن ينتشر في كافة ميادين لبنان متجاوزًا الطوائف وبمشاركة قطاع واسع من اللبنانيين من كافة الانتماءات الدينية والمذهبية، منددين بتدهور الأوضاع الاقتصادية وانتشار الفساد، ومطالبين برحيل النخبة السياسية الحاكمة، رافعين شعار “كلن يعنى كلن”.
وحاول مجلس الوزراء خلال رئاسة “سعد الحريري”، وقبل تقديم استقالته، استيعاب مطالب الحراك الشعبي من خلال تبني ورقة إصلاحات تضمنت 24 بندًا، أبرزها: الاتفاق مع البنوك لخفض تكلفة الدين العام، وفرض ضرائب على أرباح المصارف لمدة عام واحد، وخصخصة قطاع الاتصالات، والشروع في إصلاح قطاع الكهرباء، وإقرار مناقصات محطات الغاز، فضلًا عن خفض جميع رواتب الوزراء والنواب الحاليين والسابقين بنسبة 50 في المائة، وإلغاء جميع الصناديق مثل صناديق المهجرين، والجنوب، والإنماء والإعمار. إلا أن هذه التصورات لم تلبِّ طموحات المحتجين، واستمروا في النزول إلى الشارع، ما دفع “سعد الحريري” إلى تقديم استقالة حكومته في 29 أكتوبر 2019 برغم اعتراض القوى الرئيسية الشريكة التي تُشكل مجلس الوزراء: التيار الوطني الحر، وحزب الله.
وقد اتسمت التظاهرات اللبنانية بأنها أول محاولة جادة للتخلص من الإرث الطائفي المعقد، وهو الإرث الذي تم توظيفه من جانب قوى خارجية لدعم نفوذها وسيطرتها على القرار السياسي لدرجة دفعت بعض المتابعين للشأن اللبناني إلى وصف لبنان بالدولة التي تُصاغ سياساتها من خارج حدودها. الأمر الذي يتجلى من خلال النفوذ الطائفي، وجعل تنظيمات ما دون الدولة تتحول إلى “دويلة” داخل لبنان، وعلى رأسها “حزب الله” المدعوم من إيران في ظل امتلاكه السلاح، وتدخله بشكل مباشر في العملية السياسية بما عُرف بالثلث المعطل داخل مجلس النواب.
ولا شك أن “حزب الله” مثّل أداة لتأزيم الواقع اللبناني، سواء خارجيًّا من خلال انخراطه في صراعات إقليمية كما في سوريا والعراق، أو داخليًّا كما وضح في حالة شغل منصب الرئاسة اللبنانية الذي ظل شاغرًا لمدة 3 سنوات إلى أن امتثل الجميع لإرادة “حزب الله” والتوافق حول مرشحه من التيار العوني “ميشال عون” ليصبح رئيسًا للجمهورية. كما أصبحت استقالات الحكومات اللبنانية نتاجًا للأزمات التي يثيرها الحزب، فقد أسهم سلوك الحزب في إسقاط حكومة الوحدة الوطنية عام 2011 بعد أن استقال الوزراء التابعون للحزب وحلفائه، كما استقال رئيس الحكومة “نجيب ميقاتي” في 2013 اعتراضًا على قيام الحزب بتهيئة السياق المؤيد للانخراط في الصراع السوري. ولم يختلف الحال كثيرًا فيما يتعلق بالاستقالة الاحتجاجية التي قدمها “سعد الحريري” في 2017 رفضًا لاستمرار الحزب في انتهاك إيران للسيادة اللبنانية، معتبرًا أن طهران تمثل الفتنة أينما حلت، وأن شرورها سترد عليها وستقطع يدها، في إشارة ضمنية إلى “حزب الله”. ولم يختلف موقف الحزب كثيرًا من التظاهرات الحالية عن سوابقه التاريخية وسلوكه المتكرر، حيث وصف “حسن نصر الله” المحتجين بالمتآمرين، وأعلن أن الحزب قادر على أن يغير معادلة الشارع في لبنان، ومطالبًا بضرورة إنهاء الحراك باعتباره يثير الفوضى ويدفع لبنان إلى أتون الحرب الأهلية. وبرغم أن الحزب هو المسئول الرئيسي عن الأزمة الحالية؛ إلا أنه يحاول من الناحية الشكلية التجاوب مع جهود القوى الدولية والإقليمية لتسويتها، دون أن يقدم من الناحية الفعلية أي دعم لهذه الجهود، إدراكًا منه أن القرار في النهاية لا يُتخذ في بيروت وإنما في طهران، وهو الأمر الذي جعل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق “فؤاد السنيورة” يعتبر أن أزمة لبنان الحالية ترجع إلى سيطرة “حزب الله” على البلاد، وإحكام قبضته القوية على الحكومة اللبنانية، فضلًا عن إخلاله بالدستور واتفاق الطائف، وهي تحديات لا تزال ماثلة مع دخول لبنان العام الجديد في 2020.
تحديات عديدة
تتنوع التحديات التي تواجه لبنان وهو يدخل عامًا جديدًا على وقع تظاهرات الشارع، والتي ستكون لها تداعياتها الممتدة على مستقبل النظام السياسي. ونشير فيما يلي إلى أبرز هذه التحديات:
1- تشكيل الحكومة الجديدة: يمثل تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة “حسان دياب” بعد تكليفه من قبل رئيس الجمهورية “ميشيل عون” التحدي الأبرز الذي يواجه لبنان في بداية العام الجديد، لا سيما وأن ثمة إصرارًا من المحتجين على تشكيل حكومة تكنوقراط من وزراء متخصصين في مجالاتهم وبعيدين عن ترشيحات الطوائف والأحزاب السياسية، وهو الأمر الذي يرفضه الثنائي الشيعي “حزب الله” وحركة “أمل”، وتمسكهم بالصيغة التوافقية التي تشكلت على أساسها الحكومات المتعاقبة في لبنان خشية أن يكون تشكيل حكومة تكنوقراط بمثابة خطوة على طريق استبعاد ممثليهم من أي حكومة مستقبلًا. لذلك تم طرح اقتراح تشكيل حكومة تكنو سياسية، أي تجمع بين التكنوقراطيين والسياسيين. ولكن مشاورات الحكومة لا تزال مستمرة، وربما سيكون مخاضها صعبًا في ظل إصرار من الطوائف على الاحتفاظ بحصصها داخل الحكومة الجديدة، بل وعدد حقائبها الذي استقر كتقليد متبع في تشكيل الحكومات السابقة.
2- التحدي الاقتصادي: معظم التحليلات تشير إلى أن الأزمة الاقتصادية هي سبب التظاهرات التي تشهدها شوارع لبنان، ما دفع رئيس الجمهورية “ميشال عون” إلى التصريح بأن لبنان قد أضحى على حافة الإفلاس. ويُعزز من هذا التصور تزايد التحديات التي يواجهها الاقتصاد اللبناني في ظل قصور وشح مصادر الدخل والإيرادات العامة، وتراجع الاحتياطات من النقد الأجنبي إلى 28 مليار دولار. ويعمق من هذه الأزمة تنامي الديون الحكومية، وارتفاعها إلى ما يقرب من 150% من الناتج المحلي الإجمالي، في ظل وجود التزامات على لبنان بسداد ديون تبلغ 10.9 مليارات دولار خلال عام 2020، فضلًا عن ضعف الأداء الحكومي عن تقديم الخدمات العامة، لا سيما أزمة التيار الكهربائي؛ إذ لا يحصل المواطنون على الكهرباء سوى أربع ساعات فقط على مدار اليوم. كما يشكل الفساد وجهًا آخر لأزمات لبنان الاقتصادية، حيث أحصت وزارة الخزانة الأمريكية -وفقًا لصحف أمريكية- حجم الأموال المنهوبة في لبنان في الداخل والخارج منذ 1982 حتى 2019 وقدرت بـ800 مليار دولار.
3- الطائفية: تُشكل الطائفية منظومة قائمة ومتجذرة داخل المجتمع اللبناني، خاصة أن العديد من الكتابات تعتقد أن أزمة لبنان هي بالأساس أزمة سياسية بين الفرقاء؛ فكل طرف يسعى لتوظيف المكون الطائفي للحصول على أكبر قدر من المكاسب السياسية والاقتصادية، ذلك أن الخلاف ليس قائمًا بين الطوائف فقط، بل داخل كل طائفة. فبرغم وجود شيعة مناهضين لمسلك “حزب الله” ورفض هيمنته فإن ثمة آخرين منهم يؤيدون توجهات الحزب ويدعمون تغلغله. كما أن ثمة فريقًا من السنة ومن تيار المستقبل ذاته كان لديهم اعتراض على تقديم “سعد الحريري” لاستقالته. لذا فإن الحراك اللبناني يسعى لمواجهة منظومة طائفية تتحكم في الطبقة السياسية، وتوزع على أساسها الامتيازات والحصص التي يصل فتاتها إلى منتسبي كل طائفة، وهو ما يصعب من فرص نجاح الحراك في التغيير الجذري لواقع هذه المنظومة التي أصبح لها أدوارها الوظيفية داخل كل طائفة كبديل لوظائف الدولة، مثل الحصول على الوظائف والخدمات والحماية الاجتماعية والأمنية التي توفرها كل طائفة.
4- النفوذ الخارجي: يشكل النفوذ الإقليمي والدولي أحد أبرز التحديات التي تواجه لبنان، ذلك أن ارتهان السياسة اللبنانية لصراع الهيمنة الدولية ومشروعات القوى الإقليمية، يُسهم في تغذية المكونات الأولية للمجتمع اللبناني، بما يعلى من دورها كحواضن مؤثرة على توجهات المجتمع، وفي مقدمتها المشروعات المذهبية والطائفية. لذلك لا يمكن الفصل بين ما يحدث في العراق وسوريا واليمن وما يحدث في لبنان، وهي الدول التي يشكل الوجود الإيراني فيها محددًا رئيسيًّا لتفاعلاتها الداخلية والخارجية، حيث تسعى إيران من خلال أذرعها في هذه الدول (مثل “حزب الله” في لبنان) إلى تحقيق هدفين رئيسيين؛ الأول تحييد المطالب الداخلية الراغبة في تجاوز الطائفية والحفاظ على المكتسبات التي تحققت، والثاني توظيف هذه الأذرع في نقل الصراع الأمريكي الإيراني بعيدًا عن عمق الأراضي الإيرانية، ونقله إلى مناطق التمدد الإيراني.
سيناريوهات محتملة
في ضوء تعقيدات الداخل اللبناني بعد استقالة رئيس الوزراء “سعد الحريري”، وتكليف “حسان دياب” بتشكيل حكومة جديدة، وفي ضوء غياب خريطة واضحة المعالم لاستعادة الاستقرار في البلاد؛ فإن ثمة ثلاثة سيناريوهات رئيسية محتملة لتطورات المشهد اللبناني.
1- سيناريو استمرار ثورة التوقعات: أسهمت استقالة رئيس الوزراء “سعد الحريري” كمطلب لقوى الحراك في ارتفاع سقف التوقعات برحيل النخبة السياسية الحاكمة ككل، وذلك من خلال الرغبة في استكمال باقي مطالب الحراك، مثل: حل البرلمان، وإجراء انتخابات نيابية مبكرة على أساس أن تكون لبنان دائرة انتخابية واحدة بعد تعديل القانون الانتخابي، ثم إسقاط الرئيس. ويقوم هذا السيناريو على أن الحراك اللبناني تجاوز الطوائف وقدسيتها والعصبيات والأحزاب، ورفع شعار “كلن يعني كلن”.
2- سيناريو الفوضى والصراع الطائفي: يقوم هذا السيناريو على أن المكتسبات الطائفية التي تحققت لصالح فئة معينة من اللبنانيين سيشكل الإضرار بها رفضًا قاطعًا من قبل هؤلاء المنتفعين، وهو ما يتمثل في محاولات انقضاض الأطراف المعادية للحراك وفي مقدمتها “حزب الله” وأنصاره. فقد أرسل الحزب بعض عناصره للاشتباك مع المتظاهرين قبل أن تتمكن قوات الجيش من فض الاشتباك وحماية المحتجين. وتأتي هيمنة الحزب على قطاع معتبر من اللبنانيين لتوظيفه للبعد الطائفي، واستفادة عناصره من قدراته الاقتصادية، ودفاعهم عن استمرارية الواقع الراهن. في المقابل، فإن ثمة رفضًا من المحتجين في الشارع اللبناني لهذا الواقع، مع المطالبة بتغيير معادلة الحكم الحالية على أسس من المواطنة بدلًا من التخندق الطائفي، وهو ما سيؤدي إلى دخول الدولة اللبنانية ما بين رافضي الواقع الحالي وداعميه إلى أتون الحرب الأهلية، والعودة إلى صيغ “الكانتونات” الفيدرالية الخاضعة للهيمنة الدولية.
3- سيناريو تحييد الطائفية: يقوم هذا السيناريو على الإصلاح التدريجي للمنظومة الطائفية، التي أسهمت في تعقد عملية صنع القرار، وجعلته موزعًا بين القوى الطائفية ومراكز السيطرة عليها. وربما يمثل العودة إلى بنود اتفاق الطائف عام 1989 والذي أسهم في إنهاء الحرب الأهلية في لبنان، حيث نص الاتفاق على تشكيل هيئة وطنية لتصفية الطائفية خلال عام من عقد هذا الاتفاق. وقد تم تجاهل هذا النص منذ ذلك التاريخ حتى الآن، ولم ينظر إليه بعين الاعتبار باعتباره المخرج الحقيقي للبنان من أزماته. ووفقًا لمؤيدي هذا السيناريو من قوى الحراك، فإن الانتفاضة الحالية ربما تمثل بداية حقيقية لتجاوز الطائفية من خلال مشاركة كافة الطوائف في فعالياتها، وهو ما يحتاج للبناء على ما تحقق بحيث لا تتحول مكافحة الطائفية إلى ممارسات شكلية، بل إلى واقع معاش من خلال إعادة الاعتبار للمواطنة كقيمة مركزية للتعايش بين كافة المكونات الاجتماعية. وهو الأمر الذي سيحتاج لفترة ممتدة حتى تختبر الممارسات وتكون أكثر استقرارًا ورسوخًا.
الخلاصة أن مستقبل النظام اللبناني مع بداية عام جديد سيتوقف على مدى إدراك المحتجين وصناع القرار بأن لبنان يعاني من هشاشة دائمة وعدم استقرار متواصل، وأنه بلد يتأرجح على حافة الهاوية دائمًا بفعل التوازنات الدقيقة التي تتحكم في مصيره، بما يعني ضرورة التوصل إلى تفاهمات مشتركة لإنجاز تشكيل الحكومة الجديدة، ووضع خارطة طريق واضحة المعالم من خلال اقتراح خطة إصلاحية شاملة للأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية تحمي مصالح الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، وتتجاوز الإرث الطائفي وتعقيدات النفوذ الخارجي.