جرى التعرف على جثة قاسم سليمانى قائد فيلق القدس فى الحرس الثورى الإيرانى، والرجل المهم فى سياسات طهران الخارجية بالمنطقة، من خلال الخاتم الذى كان يرتديه دوماً، فى حين كانت جثة سليمانى ممزقة، من جراء النيران التى أحدثتها الصواريخ الأمريكية، كما لم يتم التعرف على جثة أبومهدى المهندس نائب قائد ميليشيات الحشد الشعبى العراقية الموالية لطهران. قُتل فى الغارة أيضاً 10 أشخاص، من بينهم مسئول التشريفات فى ميليشيا الحشد محمد رضا الجابرى، الذى ذهب إلى المطار كى يصطحب هذه المجموعة رفيعة المستوى، لاجتماع كان يجرى الإعداد له ببغداد من أجل اعتماد خطة جديدة تنقل الأحداث، إلى ما بعد عملية التحرش الخشن بالسفارة الأمريكية قبيل العملية بأيام معدودة.
هذا فى أقرب تقدير له، هو تغيير جذرى فى «قواعد الاشتباك» ما بين طرفين، دخلا العراق معاً إلى حد ما منذ عام 2003، وظلت منذ هذا التاريخ هناك قواعد وخطوط تماس، حرص كلاهما على ألا يتجاوزها احتراماً للخدمات المتبادلة بينهما، ومراعاة للأثمان التى جرى بذلها على تلك الأرض التى نكبت بهذا التوغل المزدوج.
جرت فى نهر الأحداث العراقية مياه كثيرة، وتقلب المشهد أكثر من مرة، لكن ظلت العلاقة المثيرة بين واشنطن وطهران، على أرض العراق تحديداً، لها خصوصيتها التى عكست إدراك كل طرف، أن الخيوط المشدودة فى العديد من الملفات الأخرى، كالاتفاق النووى وسوريا والخليج والوكلاء فى الإقليم، تستلزم أن تكون خطوات السير بالدقة والحرص الزائد فى دولة يتجاوران فيها بصورة قد تدفع للسقوط فى هاوية التصعيد القاتل، مع أول زلة قدم على هذا الخيط المشدود.
«عملية سليمانى» بالطبع كانت لها مقدمات وارتباك ظاهر على صعيد هذه الملفات العالقة جميعها، ومنذ بداية العام 2019 بدا أن ربيع تلك العلاقة فى طريق الأفول، لكن ربما كلاهما لم يلتقط الإشارة بما تستوجبه من حرص، وإيران هنا هى التى كان أوجب عليها قدر أكبر من القراءة الرشيدة، التى طالما تميزت بها قبلاً. لكن يبدو أن فائض النفوذ والتمدد أصاب حساباتها بقدر من غرور، أعمى بصرها عن الخيط المشدود فمضت فى طريقها دون تحسب للعواقب، ولا يجوز إغفال انشغالها بتلك المتغيرات التى ضربت ملفاتها الخارجية بقوة، ومؤخراً طالت الداخل، وإن ظل أقل كثيراً مما كان يجرى فى لبنان والعراق منذ شهور.
بدا قرار اغتيال «أيقونة» العمل والنفوذ الإيرانى الخارجى، وفى دول الارتباط على وجه التحديد، صادراً من ترامب شخصياً بأدائه المسرحى والمباغت. ولم يختلف هنا عن معظم الرؤساء الأمريكيين حين يخوضون فصل تجديد الولاية، فإذا بهم يلجأون إلى شن حرب فى مكان ما، حتى وإن كانت مبرراتها ليست بالقدر المقنع فى ملابساتها أو تداعياتها. وهناك من يرى أن انزعاجاً ما قد أصاب «ترامب» شخصياً، صاحب قرار الخروج أو تقليص الوجود فى سوريا، من الانتصارات الكبيرة التى تحققت فى ساحة إدلب، ومقتل الكثير من قيادات التنظيمات الجهادية، ما يمهد باستعادة السيطرة عليها من قبل النظام السورى، وبمساعدة إيران. لينتهى الموضوع السورى لصالح الأخيرة، وبذلك تتمكن طهران من تحقيق هدف كبير مزدوج، هو إنهاء الموضوع السورى لصالحها، وثانياً ربط العراق بسوريا وبالتالى مع لبنان. وهى مسألة تشكل الكثير من الخطورة بالنسبة لأمريكا، ولإسرائيل أيضاً التى يقلقها بشدة التمدد الإيرانى فى المنطقة.
إيران رغم إدراكها أن الملفات جميعها تعانى من ضغوط كبيرة وعميقة، لكنها فى هذه العملية تحديداً تحتاج بشدة إلى بعض الأعمال العاجلة، التى من شأنها أن ترسل رسالة للداخل الإيرانى المضطرب، بأنها ما زالت قادرة على المجابهة والرد بالنظر إلى رمزية «قاسم سليمانى»، حيث جرت تغذيتها طوال أعوام والتصق بمنظومة عمل «الحرس الثورى» وقدراته ونفوذه. فى ذات الوقت الذى يبدو هناك بالداخل الإيرانى، من يميل ويضغط باتجاه أن تركن إيران للتهدئة، حتى لا يكون ذلك مقدمة للدخول فى عملية فعل ورد فعل، فهؤلاء يرون أن إمكانيات أمريكا هى التى ستفرض الأمر الواقع فى النهاية. هؤلاء يحاولون العودة للخيوط القديمة ومساحات العمل المقبولة، على اعتبار أن أمريكا قد تسمح لإيران ببعض من الردود الخجولة، من أجل أن تعطيها فرصة لتقول إنها ردت على «عملية سليمانى» بضربة مضادة، مثل ما حدث مع إسقاط إيران للطائرة الأمريكية المسيرة، واستهداف أرامكو وناقلات النفط فى الخليج. لتعطى من خلال ذلك فرصة لطهران أن تقول للداخل إنها قادرة وموجودة، من دون التورط فى مساحات تصعيد كبيرة، سيكون رد الفعل الأمريكى عليه منطقياً وقاسياً للغاية، وليس أبلغ من دليل عملية اغتيال سليمانى بعد ساعات من الهجوم على السفارة الأمريكية ببغداد.
بجانب لحظات تفكير الأطراف بالفعل وردة الفعل، هناك خسارة حقيقية فادحة تكبدتها إيران بالفعل من خسارة «سليمانى» جنرال إيران القوى، الذى ظل طوال مسيرته المهنية صانعاً ماهراً لخلطة استراتيجيات الحرب الجديدة بالسياسة، واعتبر قائداً عقائدياً لنشاط إيران «الثورى» بالمنطقة. فهو لم يقف عند حد قيادته لـ«فيلق القدس» رغم خطورة وتشعب دوره، بل تجاوز ذلك إلى إدارة حروب إيران بالوكالة فى أكثر من محطة بالشرق الأوسط، من خلال إلهام مقاتلى الفصائل فى الميدان فى ذات الوقت الذى يقوم فيه بالتفاوض مع عملاء الاستخبارات والقادة السياسيين.
عين خامنئى، «سليمانى» قائداً لفيلق القدس فى عام 1998 وراهن عليه ودعمه بكل السبل، ليعمل من خلال المنصب الذى ظل فيه خلف الكواليس لسنوات، بينما كان على الأرض يعزز روابط إيران بحزب الله فى لبنان، وحكومة الأسد، والفصائل الشيعية فى العراق. ليصبح نفوذ «سليمانى» داخل المؤسسة العسكرية الإيرانية لا ينازعه فيه أحد، وقد ترجم ذلك جلياً فى 2019 عندما منحه «خامنئى» ميدالية «وسام ذى الفقار»، وهو أعلى وأول قائد عسكرى يحظى بهذا التكريم فى إيران.
*نقلا عن صحيفة “الوطن”، نشر بتاريخ ٧ يناير ٢٠٢٠.
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية