يشكل الإرهاب مصدر قلق متزايدا للمجتمع الدولي الذي شهد في العقدين الماضيين وقوع عدد متزايد من الهجمات على أيدي الجماعات الإرهابية. وفي الدول النامية، تعالت الأصوات بأن التهديدات الإرهابية يمكن أن تعرقل المكاسب الاقتصادية المحدودة التي استطاعت هذه الدول أن تحققها بصعوبة كبيرة، نظرًا لإسهامها في عدم الاستقرار السياسي، وتقويض فرص التنمية المستقبلية.
وبالنظر إلى القارة الإفريقية، نجد أن ظاهرة الإرهاب هي إحدى العقبات الرئيسية أمام جهود تحقيق السلام وبناء الدولة الوطنية وتسريع وتيرة التنمية في جميع أنحاء القارة، حيث شهدت القارة الإفريقية خلال العقد الأخير صعودًا غير مسبوق في العمليات والجماعات الإرهابية في مختلف أقاليمها. فوفقًا لمؤشر الإرهاب العالمي لعام 2019، جاءت 15 دولة إفريقية في قائمة الدول الثلاثين على مستوى العالم من حيث حدة النشاط الإرهابي، كما أكد المؤشر أن جماعة “بوكو حرام” في غرب إفريقيا هي أكثر الجماعات الإرهابية “فتكًا” في العالم.
هذه الحقائق تُبرز أهمية قيام المجتمع الدولي باتخاذ جميع الخطوات اللازمة لإيجاد طرق فعالة لحرمان المنظمات الإرهابية من تمويلها، فلم تعد القوة العسكرية والتدابير القانونية والعمليات الاستخباراتية قادرة وحدها على دحر الإرهاب، من دون إيقاف كافة أشكال الدعم الذي تحصل عليه المنظمات الإرهابية.
ما المقصود بـ”تمويل الإرهاب”؟
يُقصد بتمويل الإرهاب “كل شكل من أشكال جمع أو تلقِّي أو حيازة أو إمداد أو نقل أو توفير أموال أو أسلحة أو آلات أو معلومات أو غيرها، بشكل مباشر أو غير مباشر، وبأية وسيلة بما فيها الشكل الإلكتروني، وذلك بقصد استخدامها في ارتكاب أية جريمة إرهابية، أو مجرد العلم بأنها ستستخدم في ذلك”، وتتضمن عملية تمويل الإرهاب أربع خطوات، هي: الجمع، والتخزين، والنقل، وأخيرًا الاستخدام للمصادر التمويلية المختلفة، وذلك حسب الحاجة لتعزيز أهداف المنظمة الإرهابية.
وفي المقابل، تشمل مكافحة تمويل الإرهاب: إحكام الرقابة المالية، وتعقب ومحاصرة وقطع تمويل الأفراد والجماعات والمنظمات الإرهابية، وكذلك قطع الطريق على نقل واستخدام الأموال في تنفيذ عمليات إرهابية. وتجدر الإشارة -في هذا الصدد- إلى أنه مهما كانت درجة إحكام الرقابة وترتيبات تعقب أموال المنظمات الإرهابية والشبكات المتعاونة معها، فإن نتيجة هذه الرقابة لن تتمكن من القضاء تمامًا على عمليات تمويل الإرهاب. ولذلك فإن الهدف الرئيسي والأكثر واقعية في مجال مكافحة تمويل الإرهاب يتمثل في الحد من تمرير تمويلات تسمح بشن هجمات واسعة النطاق تسفر عن أعداد كبيرة من الضحايا، وذلك من خلال توفير معلومات مالية، وتفكيك البنية التحتية لتمويل الإرهاب.
المصادر المتنوعة لتمويل الإرهاب في إفريقيا
تختلف الجماعات الإرهابية في طبيعتها وأهدافها، ولكنها تحتاج جميعًا إلى موارد للمحافظة على وجودها وتيسير وتمويل أنشطتها ومختلف أنواع الهجمات التي تقوم بها. وقد تنوعت مصادر التمويل التي تلجأ إليها الجماعات الإرهابية بين التبرعات المباشرة من أفراد أو حكومات أو كيانات قانونية أو منظمات غير ربحية، بالإضافة إلى التمويل الذي يتم الحصول عليه من الأنشطة غير المشروعة (مثل: الاتجار بالبشر، والمخدرات، وغسيل الأموال، والاحتيال، والعملات الرقمية كالبيتكوين، والسرقة وتهريب الآثار، فضلًا عن المتاجرة في النفط الخام والمعادن والأحجار الكريمة والغاز الطبيعي، وجمع الإتاوات، والخطف مقابل الفدية).
وقد شهدت القارة الإفريقية ممارسات متنوعة شملت مختلف هذه الصور من تمويل التنظيمات الإرهابية. فعلى سبيل المثال، تشير التقديرات إلى أن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي تلقى ما يقرب من 100 مليون دولار في صورة فديات تم دفعها لتحرير رهائن اختطفهم التنظيم، وذلك خلال الفترة (2008- 2014).
وتقدر وزارة الخزانة الأمريكية إيرادات تنظيم “بوكو حرام” الناشط في حوض بحيرة تشاد بنحو 10 ملايين دولار سنويًّا. وتأتي معظم هذه الإيرادات من أعمال الخطف للأجانب والمحليين والفتيات الصغيرات، بالإضافة إلى عمليات تهريب المخدرات، والاتجار في البشر، وجمع الإتاوات، وبيع الماشية المسروقة.
وفي القرن الإفريقي، تحصل حركة الشباب الصومالية على إيراداتها في صورة تبرعات من أفراد وجمعيات خيرية، ومساعدات كبيرة من دول إقليمية راعية للإرهاب، بالإضافة إلى إتاوات تفرضها على السكان المحليين وعلى التنظيمات الإرهابية الأصغر، فضلًا عن امتلاك الحركة أنشطة اقتصادية تتضمن استخراج وبيع الموارد الطبيعية خاصة الفحم، وإيرادات عمليات الخطف والقرصنة البحرية، ورسومًا وضرائب على أنشطة أعمال محلية في مناطق تخضع لنفوذ التنظيم.
كما شهدت القارة الإفريقية تبادل الدعم التمويلي بين التنظيمات الإرهابية وبعضها بعضًا. ففي نوفمبر 2015، اعتقلت قوات مكافحة الإرهاب في مالي ثلاثة أشخاص، يشتبه في ضلوعهم بهجمات إرهابية، وقادت المعلومات الاستخباراتية إلى رصد تلقي زعيم إحد الجماعات الإرهابية مبلغ 60 مليون فرنك إفريقي منذ عام 2012، من زعيم لجماعة إرهابية أخرى تعمل في شمال مالي كتمويل لأنشطة جماعته.
ويظل الخطر الأكبر يتمثل في نمطين مهمين من تمويل الإرهاب تشهدهما القارة الإفريقية، ويربط التنظيمات الإرهابية الناشطة في دولها بمصادر التمويل الخارجي؛ حيث يتمثل النمط الأول في الدعم المادي غير المالي الذي تتلقاه الجماعات الإرهابية من الخارج، سواء في صورة أسلحة أو مؤن عسكرية أو في صورة أدوية وأغذية ومؤن متنوعة، والتي يأتي بعضها تحت غطاء مساعدات إنسانية قد تقدمها جمعيات خيرية أو حتى منظمات دولية تنشط في المناطق التي تعد ساحات تقليدية لنشاط أو حتى سيطرة التنظيمات الإرهابية. أما النمط الثاني للحصول على الدعم الخارجي فيتمثل في الاستفادة الكبيرة التي حققتها التنظيمات الإرهابية في إفريقيا من التطور الهائل في تكنولوجيا المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت، والتي تستخدم في نقل الأصول المالية عبر دول العالم من دون رقابة تذكر لسلطات الدول المرسلة أو المتلقية لهذه التدفقات غير المشروعة.
تدابير مكافحة تمويل الإرهاب: جهود دولية وإفريقية
على الصعيد العالمي، ركزت جهود الأمم المتحدة قبل عام 2001 على مكافحة الإرهاب بشكل عام، ولكن بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وضرب مبنى التجارة العالمي، اتضحت أهمية تطوير المسارات التقليدية لمكافحة الإرهاب ليتصاعد الاهتمام العالمي بضرورة تجفيف مصادر تمويل الإرهاب، كنوع من الإجراءات ذات الطابع الوقائي الاستباقي.
وكان أبرز مظاهر هذا التوجه الجديد التعجيل بدخول الاتفاقية الخاصة بمنع تمويل الإرهاب التي تم إبرامها عام 1999، ومنذ ذلك الحين توالت قرارات مجلس الأمن في توقيع تدابير اقتصادية على كل دولة أو شخص حقيقي أو اعتبار يسهم في تمويل الإرهاب، وقد تضمنت هذه القرارات مجموعة متنوعة من التدابير الاقتصادية لمكافحة تمويل الإرهاب، تضمنت تجميد الأصول المالية والموارد الاقتصادية، وحظر السفر، وفرض حظر على توريد الأسلحة والعتاد، بالإضافة إلى حظر تجاري لمصادر التمويل غير المشروعة بما فيها النفط ومشتقاته والآثار والمتاجرة في البشر والمعادن النفيسة مثل الماس والذهب والفضة والنحاس، وضرورة مصادرتها، بالإضافة إلى الحظر المالي، ومنع العائدات المتأتية من الأعمال غير المشروعة. وتم تطبيق هذه القرارات على عدد من الجماعات الإرهابية والمؤسسات التي تساهم في تمويل الإرهاب أو العمليات الإرهابية داخل القارة الإفريقية وخارجها.
ولوضع هذه التوجهات الجديدة موضع التنفيذ على أرض الواقع، أنشأت الأمم المتحدة مجموعة من فرق العمل المعنية بدعم الجهود المبذولة من أجل منع تمويل الإرهاب والمنظمات الإرهابية، ولا سيما الجهود الرامية إلى توطيد القدرات وتعزيز التعاون، ومنها فريق العمل المعني بالإجراءات المالية، وفريق مكافحة غسل الأموال في شرق إفريقيا والجنوب الإفريقي، وفريق العمل الحكومي الدولي لمكافحة غسل الأموال في غرب إفريقيا، وفريق العمل المعني بالإجراءات المالية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وعلى الصعيد الإفريقي، حرص القادة الأفارقة مع نهاية التسعينيات على تبني مبادرات لمكافحة الإرهاب، حيث تم توقيع اتفاقية الجزائر لعام ١٩٩٩ وبروتوكولها الإضافي في عام ٢٠٠٤، كما قامت العديد من الدول الإفريقية والأطراف الفاعلة بالتعاون على الصعيد الإقليمي والدولي لمواجهة العمليات الإرهابية، سواء بشكل ثنائي أو متعدد الأطراف. ومع زيادة موجة الإرهاب في القارة في العقد الأخير اتجهت الكثير من الدول إلى وضع استراتيجياتها الوطنية الخاصة بمكافحة الإرهاب بجانب استراتيجيات مستقلة موازية اهتمت بقضية مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. وعلاوة على ذلك، سعت الحكومات إلى تعطيل وسائل الإرهابيين لجمع الأموال وتخزينها ونقلها من خلال التبادل الفعال للمعلومات.
وقد نتج عن إجراءات الرقابة والتضييق التي اتبعتها الدول لمكافحة تمويل الإرهاب، الانخفاض الملحوظ في حجم التمويل التي تحصل عليه الجماعات الإرهابية، مما أدى بتلك الجماعات إلى البحث عن مصادر بديلة للتمويل، وركزت جهودها على التمويل الذاتي عبر مبالغ صغيرة الحجم يصعب رصدها وتتبعها. كما لجأت بعض الجماعات إلى تغيير استراتيجيتها باللجوء إلى العمليات الصغيرة عبر العناصر الكامنة المعروفة باسم “الذئاب المنفردة”، على غرار التحول الذي مرت به “بوكو حرام” منذ عام 2012 بعدما نجحت القوات المشتركة متعددة الجنسيات (MNJTF) -التي كانت تجمع بين بنين، والكاميرون، وتشاد، والنيجر، ونيجيريا، وعدد من الشركاء الدوليين- في الضغط على “بوكو حرام”، وتضييق الحصار المالي عليها، لتتحول من الهجمات الإرهابية الكبيرة إلى الهجمات الانتحارية منخفضة التكلفة باستخدام النساء والأطفال. حيث كشف المركز العالمي لمكافحة التطرف أن جماعة “بوكو حرام” استخدمت حوالي 100 طفل كقنابل بشرية في نيجيريا لتنفيذ عمليات إرهابية خلال عام 2017.
وعلى الرغم من النجاحات الإفريقية التي تحققت في مجال مكافحة تمويل الإرهاب بالاستفادة من جهود دول القارة والدعم الدولي الكبير، لا تزال مشكلة تمويل النشاط الإرهابي تمثل تحديًا رئيسيًّا للدول الإفريقية. فبحسب ما أعلن عنه الاتحاد الأوروبي في فبراير من عام 2019، لا تزال ست دول إفريقية تحتل مراكز متقدمة في القائمة الأوروبية للدول المتهمة بالتهاون في مكافحة تمويل الإرهاب هي كل من: بوتسوانا، وإثيوبيا، وغانا، وليبيا، ونيجيريا، وتونس، وهو ما دفع العديد من هذه الدول لتكثيف الجهود في مجال التضييق على تمويل الإرهاب في الأشهر الأخيرة.
وختامًا، تبقى أنشطة تمويل الإرهاب تشكل خطرًا على الأمن الدولي، بل وتتعداه لتؤثر في المجالات الأخرى السياسية والثقافية والاقتصادية، وهو ما لن تتمكن أي دولة بمفردها من السيطرة عليه، حيث يتطلب التصدي الفعال لتمويل الإرهاب “استجابة عالمية”، وأن تتعاون دول العالم فيما بينها لاتخاذ التدابير الحاسمة للقضاء علي تلك الجرائم، وذلك من خلال معالجة مشاكل التشريعات القائمة، وتعزيز قدرات جهات إنفاذ القانون، ومشاركة فعالة في مجال الكشف عن هذه الأنشطة والملاحقة القضائية لمرتكبيها، والتعاون الكامل في تبادل المعلومات المتعلقة بالمعاملات المالية.
وعلى الرغم من الجهود الدولية المبذولة لفرض أكبر قدر من التدابير الوقائية، والتهديد بفرض عقوبات على كل من يُساهم في تمويل العمليات الإرهابية بأي شكل، لا تزال التنظيمات الإرهابية في إفريقيا تتمتع بقدر من حرية الحركة عبر ضخ تدفقات مالية محدودة الحجم تتستر وراء معاملات مشروعة كالأعمال التجارية والإغاثية ما يفرض تحديات خاصة على الدول الإفريقية في مجال مكافحة تمويل الإرهاب؛ إلا أن الالتزام السياسي الكبير من جانب دول القارة من شأنه أن يضمن نجاح هذه الجهود في المستقبل.