شهدت إسرائيل انتخابات الكنيست رقم 21 في أبريل 2019، وهي انتخابات تشريعية مبكرة. وفشلت محاولات تشكيل الحكومة. كما شهدت انتخابات ثانية عقب أقل من خمسة أشهر في سبتمبر 2019، وفشلت أيضًا محاولة تشكيل الحكومة بعد انقضاء الفترة الزمنية المحددة للتشكيل الوزاري دون النجاح في ذلك، لينتهي الأمر بالاتجاه إلى إجراء انتخابات جديدة في مارس 2020 هي الثالثة خلال أقل من عام. ويعكس ذلك ارتفاع مؤشر عدم الاستقرار المؤسسي في إسرائيل، سواء على مستوى الحكومة أو البرلمان، كما يعكس أيضًا حدة الأزمة السياسية الداخلية التي تشهدها إسرائيل، إذ لا تكاد توجد سابقة لإجراء ثلاثة انتخابات تشريعية خلال عام منذ نشأة إسرائيل.
فقد أسفرت نتائج الانتخابات الإسرائيلية في أبريل 2019 عن حصول حزب الليكود الذي يتزعمه رئيس الوزراء الإسرائيلي “نتنياهو” على 36 مقعدًا، متقدمًا بفارق مقعد واحد على حزب “أزرق أبيض” المنافس، وحزب شاس (8 مقاعد)، وحزب يهدوت هتوراه (7 مقاعد)، وحزب العمل (6 مقاعد)، وحزب ليبرمان (5) مقاعد. وتوزعت باقي مقاعد الكنيست على أحزاب أخرى صغيرة، ولم يتمكن أي من الطرفين الكبيرين من الوصول إلى النسبة المطلوبة لتشكيل ائتلاف حاكم، أي 61 مقعدًا على الأقل من مقاعد الكنيست. كما فشلت فكرة تكوين حكومة وحدة وطنية من الحزبين الكبيرين.
وتكرر ذلك أيضًا في انتخابات سبتمبر 2019، وهي الانتخابات المبكرة الثانية في 2019، حيث حصل حزب “أزرق أبيض” على 33 مقعدًا، بينما حصل الليكود على 32 مقعدًا، وفازت القائمة العربية المشتركة بعدد 13 مقعدًا، وحصل حزب شاس على 9 مقاعد، وحصل حزب “إسرائيل بيتنا” بقيادة “ليبرمان” على 8 مقاعد، وحصلت أحزاب أخرى صغيرة على عدد محدود من المقاعد، وفشل في هذه المرة أيضًا الحزبان الكبيران في تكوين ائتلاف حزبي يحصل على الأغلبية أو تشكيل حكومة وحدة وطنية. كذلك لم يتمكن الطرفان الكبيران (الليكود اليميني بزعامة “نتنياهو”، وأزرق أبيض الممثل لاتجاه الوسط) من خلال المشاورات والمفاوضات مع الأحزاب الأخرى من الوصول إلى الأغلبية المطلوبة وهي 61 مقعدًا في خلال المدة المطلوبة.
وفي انتخابات أبريل 2019، استطاع الليكود أن يحصل على تأييد 56 من أعضاء الكنيست، بينما استطاع “أزرق أبيض” أن يحصل على تأييد 54 فقط من أعضاء الكنيست، بينما في انتخابات سبتمبر 2019 فإن أقصى ما أمكن لتكتل الليكود الحصول عليه هو تأييد 55 من أعضاء الكنيست، بينما حصل “أزرق أبيض” على تأييد 54 عضوًا، أي بفارق صوت واحد عن الليكود. وفي جميع الأحوال لم يتمكن أي فريق من الوصول إلى تشكيل الائتلاف الحكومي لعدم الوصول إلى الأغلبية المطلوبة، وهو ما يعني استمرار الأزمة السياسية في إسرائيل، ما دفع إلى التحضير لإجراء انتخابات للمرة الثالثة في عام واحد حُدد لها مارس 2020.
ويمكن تفسير هذه الأزمة بعدة عوامل، أهمها:
1- الضعف النسبي في موقف رئيس الوزراء الإسرائيلي “نتنياهو”، فعلى الرغم من كونه من أكثر الشخصيات الإسرائيلية التي تولت منصب رئيس الوزراء قوة، وأطولهم بقاء في منصب رئيس الوزراء الذي استمر في منصبه كرئيس للحكومة قرابة عشر سنوات منذ عام 2009؛ إلا أنه تعرض لملاحقات قضائية نتيجة تورطه في أعمال فساد، ووُجهت إليه اتهامات ربما أضعفت من قوته من ناحية، وأعطت فرصة لخصومه السياسيين لمنافسته من ناحية أخرى، مما أدى إلى إضعافه من جانب، وعدم قدرة الخصوم على تحقيق الأغلبية المطلوبة من جانب آخر.
2- الضعف النسبي في موقف أحزاب اليمين العلماني، فقد كان من الطبيعي مع ضعف “نتنياهو” نتيجة للاتهامات الموجهة إليه أن يؤثر ذلك سلبًا على قدرة اليمين العلماني في الحصول على ائتلاف يملك أغلبية المقاعد في الكنيست، بالإضافة إلى الانقسامات والتشققات داخل المعسكر اليميني، وتمثل ذلك في ظهور حزب اليمين الجديد الذي نشأ نتيجة خروج “نفتالي بينت” و”إيليت شاكيد” من حزب البيت اليهودي. كما ظهر حزب “جيشر” المنشق عن حزب “إسرائيل بيتنا” بقيادة “أفيجدور ليبرلمان”، إضافة إلى حدوث صراعات متزايدة داخل الأحزاب المكونة لائتلاف البيت اليهودي. وقد كان من شأن هذه الصراعات إضعاف موقف الأحزاب المعبرة عن اليمين في إسرائيل. وأدى ذلك إلى الحيلولة دون إمكانية حصول المعسكر اليميني على الأغلبية المطلوبة. وكان ذلك الانقسام والضعف النسبي في أحزاب اليمين يصب في مصلحة معسكر الوسط المنافس؛ إلا أنه لم يتمكن أيضًا من الحصول على النسبة المطلوبة لتشكيل الحكومة.
3- اختراق سياسي للعسكريين والجنرالات وسعيهم للوصول إلى رئاسة الحكومة، مما ساعد على مزيدٍ من الإضعاف لنتنياهو ولمعسكر اليمين، وذلك من خلال حزب أزرق أبيض، الذي تزعمه “بيني جانتس” رئيس الأركان الإسرائيلي السابق، وسانده بعض الجنرالات الذين شنوا معركتهم السياسية لمواجهة “نتنياهو” من خلال معسكر الوسط، وذلك توافقًا مع توجهات الناخب الإسرائيلي الذي أصبح أكثر توجهًا نحو اليمين. ومعنى ذلك أنه كانت هناك محاولة لطرح بديل لـ”نتنياهو” واليمين الحاكم، وساعد ذلك أيضًا على إضعاف “نتنياهو” ومعسكره اليميني.
وقد ساعدت هذه المتغيرات السابقة على عدم قدرة أي طرف على حسم نتيجة الانتخابات أو الحصول على الأغلبية اللازمة من خلال التحالفات والائتلافات مع أحزاب أو اتجاهات أخرى خلال المدة التي يحددها القانون لتشكيل الحكومة والتي لا تتجاوز في حدها الأقصى 42 يومًا. وربما من عوامل الوصول إلى هذه النتيجة أيضًا التقارب الكبير بين “نتنياهو” وخصمه القوي المنافس له “بيني جانتس” في عدد المقاعد.
سيناريوهات مستقبلية
يمكن الإشارة إلى عدة متغيرات يمكن أن يكون لها تأثيرها على نتائج انتخابات الكنيست الإسرائيلي التي ستجري في مارس 2020، ومنها ما يتعلق بالأوضاع الداخلية في إسرائيل والتحالفات الحزبية، ومنها ما يتعلق بالمتغيرات الإقليمية والدولية. ونوجز أهم هذه المتغيرات فيما يلي:
1- الاتفاق على تكوين حكومة وحدة وطنية للخروج من المأزق الراهن في إسرائيل، ويقصد بذلك حدوث تحالف أو ائتلاف بين أكبر طرفين، وهما تكتل الليكود اليميني الذي يتزعمه “نتنياهو”، وحزب “أزرق أبيض”، حيث إن حدوث مثل هذا التحالف سيكفل لهما الحصول على أغلبية مريحة وكافية للخروج من المأزق السياسي الراهن الذي تعاني منه إسرائيل، على أن يتم تقاسم السلطة وتقاسم مدة رئاسة الوزراء بين الطرفين. لكن يظل احتمال تحقق هذا السيناريو ضعيفًا نسبيًّا، لأن “نتنياهو” بعد فترة عشر سنوات في رئاسة الوزارة الإسرائيلية لن يقبل ذلك بسهولة. كذلك قد لا يكون الأمر مقبولًا من جانب حزب “أبيض أزرق” وقادته الذين يطرحون أنفسهم كبديل لـ”نتنياهو” وتكتله.
2- تكوين حكومة يمين تسيطر عليها الأحزاب اليمينية والدينية المتشددة، خصوصًا مع حدوث توافق بين اليمين العلماني واليمين الديني المتشدد بشأن بعض القواعد والأمور التي كانت موضوعًا للخلاف، مثل: موضوع الخدمة العسكرية، وموضوع الإشراف على القضايا ذات الطابع الديني، وأيضًا نتيجة لفوز “نتنياهو” في انتخابات زعامة الليكود بأغلبية ساحقة هي 72.5% على منافسه “جدعون ساعر” الذي أعلن تأييده لنتنياهو في الانتخابات العامة في مارس 2020.
3- من المرجّح أن تقوم الحكومة الإسرائيلية في الفترة القريبة المقبلة ببعض الأعمال التي تهدف إلى إعطاء صورة إيجابية من وجهة نظرها للناخب الإسرائيلي، خصوصًا ذوي التوجهات اليمينية. من بين ذلك إطلاق تصريحات متشددة تجاه الفلسطينيين وإقامة الدولة الفلسطينية، أو القيام بعملية عسكرية ضد غزة، وهذا أمر مألوف في السياسة الإسرائيلية، فعندما تواجه أزمة في الداخل تعمل على القيام بعمل خارجي لتوحيد الصف الإسرائيلي في الداخل.
4- لا يمكن أيضًا إغفال الموقف الأمريكي، خصوصًا مع الاقتراب من الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وإطلاق تفاصيل “صفقة القرن” التي يحاول الرئيس الأمريكي إنجاحها للحصول على ميزة بالنسبة له ولحزبه في الانتخابات الأمريكية. هنا يصبح التساؤل المطروح: هل من مصلحة “ترامب” دعم “نتنياهو” وتكتله اليميني الذي يتسم بالتشدد، وعدم تقديم أي تنازلات للفلسطينيين، سواء في موضوع الدولة الفلسطينية، أو اللاجئين، أو المستوطنات وغيرها من القضايا، أم يكون من الأفضل دعم الطرف الآخر (الوسط) الذي قد يكون أكثر مرونة في هذا الصدد.
5- موقف حزب “إسرائيل بيتنا” الذي تمكن من إحراز تقدم في عدد المقاعد التي يحصل عليها، واستطاع الوصول إلى ثمانية مقاعد في انتخابات سبتمبر 2019 تجعله -في حالة التقارب الشديد بين الطرفين المتنافسين، خصوصًا إذا ما تكرر ذلك في انتخابات مارس 2020- أشبه برمانة الميزان، بمعنى أن انحيازه إلى أحد الطرفين الكبيرين يكفي لحصوله على الأغلبية.
ويبقى سؤال في النهاية قد تصعب الإجابة عليه الآن وهو: ماذا لو استمرت الأزمة عقب الانتخابات الإسرائيلية القادمة وفشلت محاولات تشكيل الحكومة، وهل سيتم التوجه نحو انتخابات رابعة أم يتم اتخاذ إجراءات أخرى للخروج من هذه الأزمة المستحكمة؟