ثمة إجماع من جانب المراقبين والمحللين على أن الرد الإيراني على قتل الولايات المتحدة لـ”قاسم سليماني” (قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني) كان منخفضًا أو حتى رمزيًّا. فالضربات الصاروخية التي وجهتها إيران لقاعدتين عسكريتين أمريكيتين في العراق لم تؤدِّ إلى سقوط أي ضحايا، سواء من الجنود الأمريكيين أو العراقيين العاملين في القاعدتين. كما أشارت التقارير إلى أن الخسائر المادية كانت بدورها قليلة، الأمر الذي طرح سؤالًا ذا ثلاثة أبعاد:
١- بافتراض أن القوة الصاروخية الإيرانية بالفعل كبيرة ومؤثرة، كما تروج الدعاية الغربية والإسرائيلية منذ سنوات؛ فإن الردّ الإيراني الذي وقع يؤكد أنه جاء رمزيًّا تم اختياره بعناية لدوافع سياسية، ولا يعبر عن القدرات العسكرية الحقيقية لإيران.
٢- إذا كان ما تملكه إيران في ترسانتها من صواريخ هو بهذا المستوى الضعيف بالفعل؛ فإن عواقب هذا الاستنتاج ستكون كبيرة، سواء على صعيد الداخل الإيراني، أو على صعيد صورة إيران الخارجية ومصداقية ردعها العسكري الذي أوهم أغلب دول المنطقة بقوته، ومنحها الفرصة للتوسع الإقليمي وتهديد جيرانها.
٣- إذا لم يكن الاحتمال الثاني صحيحًا، وأنه كان بوسع طهران توجيه ضربة قاسية للولايات المتحدة باستخدام صواريخ أكثر دقة وأشد تدميرًا؛ فإننا نفترض أنها تلقت تهديدًا سريًّا عبر وسطاء أظهرت فيه واشنطن بعضًا من الأهداف التي وضعتها داخل إيران لتدميرها إذا ما وقعت الضربة الإيرانية القوية التي كانت تُهدد بها. ويبقى السؤال الأهم: ما هو نوع هذا التهديد الرادع الذي تلقّته إيران؟ وقبل أن نجيب على هذا السؤال الأخير سنناقش أولًا الاحتمالين الأولين.
حقيقة القوة الصاروخية لإيران
حسب موقع Missile threat في تقرير نُشر في ديسمبر الماضي، تمتلك إيران 7 أنواع من الصواريخ الباليستية، منها “شهاب-1″، وصاروخ “فاتح”، ويصل مدى كل منهما إلى 300 كم، بينما يحتل صاروخ “شهاب-2” المرتبة رقم 3 ويصل مداه إلى 500 كم، إضافة إلى صاروخ “ذو الفقار” الذي يصل مداه إلى 700 كم.
وقد اعترفت إيران بإطلاق الصواريخ التي استهدفت القاعدتين من أراضيها دون أيضًاح أي طراز منها قد تم استخدامه. وفي البيانات الأولى الصادرة من الجانب الإيراني ظهرت معلومات تُفيد بسقوط ما يزيد على ثمانين جنديًّا أمريكيًّا وتدمير القاعدتين بالكامل. لكن الرئيس “ترامب” نفى ذلك فور صدور البيان الإيراني، قبل أن تعود طهران للاعتراف بأن الضربة لم تُسقط ضحايا أمريكيين أو عراقيين، لأن هدفها كان تدمير المعدات العسكرية الموجودة بالقاعدتين، وخاصة طائرات الدرون التي استُخدمت في تنفيذ عملية قتل “سليماني”.
التراجع الإيراني عن الادعاء بسقوط ضحايا وتدمير القاعدتين بالكامل أثار تساؤلات مهمة:
ما هي أنواع الصواريخ الباليستية المستخدمة؟ ولماذا كانت فاعليتها محدودة إلى الحد الذي اعترف فيه الإيرانيون بسقوط أربعة صواريخ من الاثني عشر الأولى التي تم إطلاقها بعيدًا عن أهدافها، وعدم انفجار صاروخين آخرين من الدفعة الثانية التي بلغت عشرة صواريخ؟ كما تثير هذه الحصيلة الضئيلة للضربة الانتقامية الإيرانية الشك، إما في مدى تقدم صناعة الأسلحة الصاروخية في إيران، أو تعضد فقط من احتمال تعمد إيران استخدام أنواع بدائية من الصواريخ الباليستية، لأنها كانت تخشى ردًّا أمريكيًّا شاملًا لم تكن مستعدة له، خاصةً مع تهديد الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” بقصف 52 موقعًا داخل إيران إذا ما سقط ضحايا أمريكيون في الضربات الإيرانية المضادة التي كانت متوقعة منذ لحظة الإعلان عن مقتل “سليماني”.
الأمر المؤكد أن فحص الصواريخ التي سقطت على القاعدتين الأمريكيتين سيحسم هذا الأمر، أي إن إيران قد استخدمت بعض الأنواع التي تمتلكها التي ذكرناها آنفًا. وفي هذه الحالة يمكن القول إن منظومة التسليح الإيراني لم تكن على مثل هذا المستوى المتطور والقوي الذي تروج له الدعايتان الغربية والإيرانية معًا، وهو ما سيترتب عليه انكشاف خطير لقدرات الردع الإيرانية، سيؤثر حتمًا على قدرتها على ردع خصومها، أو الاستمرار في سياسة التوسع الإقليمي التي تنتهجها حاليًّا. بل يمكن أن يجبرها أيضًا على العودة إلى المفاوضات مع الغرب حول مشروعها النووي وتجاربها الصاروخية من موقع ضعف. أما إذا أظهرت التحقيقات أن إيران قد عمدت إلى استخدام أنواع بدائية من الصواريخ الباليستية التي تمتلكها، فسيعني ذلك أنها قد أخذت تهديدات “ترامب” على محمل الجد، وفضلت توجيه ضربة محدودة لا تستفز الأمريكيين، وتعمل -في الوقت نفسه- على تهدئة الرأي العام الإيراني الذي طالب برد قوي على قتل “سليماني”. وربما أيضًا إيصال معلومات مضللة عن قدراتها الصاروخية. لكنّ هذا الاحتمال نفسه هو ما سيدعو للتساؤل عن فحوى التهديد الذي تلقته إيران وأجبرها على تبني سيناريو الرد المحدود والضعيف الذي شهدناه.
بنك الأهداف الإيرانية المحتملة
من الملاحظ أن بنك الأهداف الذي توعد “ترامب” طهران بضربها، حال سقوط أي ضحايا أمريكيين في الضربات الانتقامية الإيرانية، رغم عدم حديثه عن تفاصيله أو نماذج منه؛ إلا أنه كان سيشتمل بالضرورة على توجيه ضربات لمصافي النفط، ومجمعات الصناعات العسكرية، وربما بعض مواقع المشروع النووي. لكن تبقى كل هذه الأهداف متوقعة من جانب الإيرانيين، وربما لا تخيفهم تهديدات ضربها. أما الهدف الذي ربما أفصح عنه “ترامب” في رسائله السرية لطهران، والذي أخاف الإيرانيين وعمل على ردعهم، ربما يكون تهديده بضرب مدينة “قم” المقدسة. ويؤكد هذا الاحتمال أن الرئيس “ترامب” قد استعمل تعبير “استهداف مواقع ثقافية” ضمن الأهداف الـ52 التي وعد بضربها في إيران! ورغم أن إيران -على لسان وزير خارجيتها “جواد ظريف”- حاولت الإيحاء بأن ما يقصده “ترامب” بالمواقع الثقافية هي المواقع الأثرية المصنفة دوليًّا على أنها جزء من التراث الإنساني الذي يتمتع بالحماية في القانون الدولي؛ إلا أن الأمر المؤكد أن “ترامب” لم يقصد هذا المعنى، بل قصد بذلك رمزًا له مغزى سياسي وروحي لدى الإيرانيين، بحيث يمكن أن يؤدي ضربه إلى هزة روحية ونفسية عميقة داخل الشارع الإيراني ودوائر الحكم في إيران على حدٍّ سواء، وهو ما يمكن أن يكون قريبًا من الحرب النفسية شديدة التأثير، كونها ارتبطت باستهداف رموز لها قدسيتها لدى إيران والإيرانيين.
ولأسباب عديدة تُعتبر مدينة قم هدفًا مثاليًّا لتحقيق ضربة نفسية وروحية بل واستراتيجية هائلة للدولة الإيرانية، وعلى رأسها:
١- تضم المدينة أكبر وأهم الجامعات والمعاهد الدينية الشيعية في إيران، ويدرس بها عشرات الآلاف من الطلاب، ويسكنها أغلب القيادات الدينية بمن في ذلك مرشد الجمهورية “علي أكبر خامنئي”.
٢- من الناحية الجغرافية تقع “قم” بالقرب من مدينتين حيويتين، هما أصفهان التي تضم أكبر مصافي النفط في إيران، وأراك التي يوجد بها أحد أكثر مواقع المشروع النووي الإيراني سرية وأهمية.
٣- تضم المدينة جامعة المصطفى التابعة للمؤسسة الخيرية المعروفة بنفس الاسم، التي تتولى تخريج الكوادر التي تنشط في عشرات الدول التي تستهدف إيران تصدير الثورة إليها. كما أنها الذراع الأهم للتدريب على أنشطة التجسس في الخارج، وكذلك العناصر التي سيتم انتقاؤها للعمل ضمن أجهزة الاستخبارات الداخلية، وخاصة تلك التي تتبع الحرس الثوري الإيراني.
٤- تضم المدينة عشرات المزارات والمراقد الشيعية المقدسـة لدى الشعب الإيراني، وأهمها مرقد فاطمة المعصومة بنت موسى الكاظم (الإمام السابع عند الشيعة الاثني عشرية التي تعتبر المذهب الرسمي للجمهورية الإيرانية).
من المرجح أن قادة إيران قد تلقوا رسالة سرية أمريكية حوت تهديدًا مباشرًا بتدمير مدينة قم، وأن القادة الإيرانيين قد أخذوا هذا التهديد بجدية، واختاروا أن يكون ردهم على قتل “سليماني” رمزيًّا، ولا يؤدي لحفز الولايات المتحدة على رد انتقامي لن يقف عند تهديد أهم المواقع الصناعية والعسكرية؛ بل سيتجاوزه إلى ضرب المقدسات الإيرانية، الأمر الذي يعني تهديدًا مباشرًا لحياة آيات الله المتحكمين في مفاصل النظام، وللقناعات الدينية والروحية لدى الشعب الإيراني، إذ إن نظام آيات الله كان قد استثمر كثيرًا في خلق وإشاعة أسطورة أن وجود آيات الله والهالة المقدسـة لمدينة قم التي يسكنونها، هي من حمت إيران من العدوان الأمريكي على مدى سنوات، وأن فشل الولايات المتحدة في تحرير رهائنها المحتجزين بسفارتها في طهران عام 1979، وسقوط الطائرات الحربية الأمريكية بعد اصطدامها ببعضها أثناء هذه المحاولة؛ كان إشارة إلهية عما يتحلى به آيات الله من “كرامات” ومعجزات.
ولو صدق هذا الاحتمال بأن إيران تلقت تهديدًا بمحو مدينة قم؛ فسنكون أمام نموذج مهم من نماذج الحرب النفسية التي يمكن أن تكون عنصرًا مهمًّا وأكثر فاعلية من الحروب التقليدية والحروب السيبرانية في حسم الصراعات، كما أنها ستكون تدشينًا للحروب الثقافية بجوانبها الدينية وغير الدينية.