بدا من الضربات الإيرانية المحدودة نسبيًّا التي استهدفت قاعدتين عسكريتين بالعراق، ردًّا على مقتل قائد فيلق القدس بالحرس الثوري “قاسم سليماني” على يد الولايات المتحدة، وما تلاها من تصريحات على لسان الرئيس “ترامب”؛ أن الأمور أخذت منحى عدم التصعيد العسكري.
التراجع –وقد يكون مؤقتًا- لهذا الخطر دفع الرئيس الأمريكي إلى العودة إلى منهجه المفضل الجامع بين عرض التفاوض وممارسة الضغوط وإطلاق التهديدات، فكرر قبوله التفاوض مع إيران، وطلب من بريطانيا وألمانيا وفرنسا وروسيا والصين الانسحاب مما تبقّى من الاتفاق النووي الإيراني، وإبرام اتفاق جديد مع إيران، يجعل العالم أكثر أمنًا، وفقًا له.
ما زالت الدول الأوروبية متمسكة بهذا الاتفاق؛ إلا أنها تدرك أن فرص إنقاذه تتضاءل، وتعاملها مع هذا الملف ينبع أساسًا من تمسكها بقواعد النظام الدولي، وبدورها في صياغة مبادئه وبضرورات منع انتشار السلاح النووي، ومن الخوف من تبعات حصول إيران على القنبلة النووية. وينبع أيضًا من الحرص على مصالحها الرئيسية في الشرق الأوسط، وبتعاملها مع التهديدات الناتجة عن صراعاته المؤثرة بشدة على الاستقرار في أوروبا. وهذه التهديدات واضحة فيما يتعلق بالطاقة والهجرة والإرهاب. بعض هذه المصالح يدعو إلى مهادنة إيران، والبعض الآخر يحث على مواجهتها.
أبرز ردود الأفعال الأوروبية بخصوص الاتفاق النووي
الجانب الأوروبي اختار سياسة تحاول إنقاذ الاتفاق وتعمل على خفض التوتر، أو على الأقل على عدم التصعيد بالمنطقة. وخاطبت إيران سواء مباشرة أو من خلال الاتصال مع الحكومة العراقية. وتعددت التصريحات والمبادرات الرسمية للقادة الأوروبيين وقادة الاتحاد الأوروبي، منهم المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل”، ورئيس الوزراء البريطاني “بوريس جونسون”، ووزير الخارجية الفرنسية “جان إيف لودريان”، حيث كرروا ضرورة العودة للاتفاق النووي، وفتح المفاوضات بين واشنطن وطهران.
فقد أفادت وكالة الصحافة الفرنسية عن “لودريان” قوله في بيان صدر بعد مقتل “سليماني”، إن فرنسا تشاطر ألمانيا بشكل تام الهدف الرئيسي بنزع التصعيد والحفاظ على الاتفاق النووي. وأشار إلى اتفاق مع الصين لحض إيران على تجنب أي انتهاك جديد للاتفاق النووي.
كما صرح “جوزيف بوريل” (ممثل الاتحاد الأوروبي للشئون الخارجية سابقًا) بأنه يأسف لإعلان إيران تخليها عن التزاماتها النووية بموجب الاتفاق النووي الموقَّع عام 2015. إلا أنه أكد أن الاتحاد الأوروبي سيعتمد على تقييم الوكالة الدولية للطاقة الذرية فيما يخص التأكد من التزام إيران بالاتفاق أو مخالفتها له.
وكانت إيران قد جمعت بين الإعلان عن تخليها عن الوفاء بالتزاماتها الناتجة عن الاتفاق النووي، والتأكيد على الاستمرار في السماح للوكالة باستمرار أعمال مراقبتها، واستعدادها للتراجع عن هذا التصعيد وما سبقه إذا وفرت الأطراف في الاتفاقية الإغاثة الاقتصادية.
وقد صرح متحدث باسم وزارة الخارجية الألمانية بأن ألمانيا ما زالت ترغب في إنقاذ اتفاق إيران النووي الموقَّع مع القوى العالمية الست في عام 2015، وذلك برغم إعلان طهران أنها ستتخلى عن القيود على تخصيب اليورانيوم.
وفي تعقيب لرئيس الوزراء البريطاني في أولى جلسات مجلس العموم بعد مقتل “سليماني” بخصوص الاتفاق النووي؛ صرح بأن خطة العمل المشتركة الشاملة (الاتفاق النووي) هي أفضل سبيل لمنع الانتشار النووي بإيران. وأنه بعد انحسار الأزمة، سيكون الرجوع للاتفاق هو السبيل المتاح للمضيّ قدمًا بشأن هذا المنع.
وفي السياق ذاته، أكد وزير الدفاع البريطانى “ديفيد والاس” أن بلاده تعمل مع ألمانيا وفرنسا لإنعاش الاتفاق النووي الموقَّع مع إيران في 2015، والذي انسحبت منه الولايات المتحدة في 2018. وأضاف أن بريطانيا تعتقد أنه لا يزال من الممكن الحفاظ على الاتفاق النووي. ويجب أن يُفهم هذا التصريح على أنه يعكس رفض المملكة لجرها إلى نزاع مسلح لا تريده.
قراءة أوروبا لتطور موقف إيران
جاء توقيت الاغتيال قبل أيام من الإعلان الإيراني الخامس المتوقع بتخفيض الالتزامات بموجب الاتفاق النووي، بعد تصاعد حملة الضغط القصوى التي انتهجها الرئيس “ترامب” منذ إعلان خروجه من الاتفاق عام 2018، ووضوح العجز الأوروبي؛ إذ فشلت الدول الأوروبية في تفعيل آلية INSTEX – وهو نظام مقايضة موازية يسمح بالتجارة في السلع الأساسية بين أوروبا وإيران، ولم تنجح في الضغط على الجانب الأمريكي ليراجع موقفه أو ليقبل مثلًا بالسماح لإيران بتصدير كميات كافية من البترول.
وتحاول دوائر اتخاذ القرار ومراكز الفكر والتنبؤ تقييم دور وتأثير العوامل والتفاعلات الداخلية في إيران على السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية، وتأثير التطورات الإقليمية والدولية على الداخل الإيراني، علمًا بأن الساحة الإيرانية مقبلة على انتخابات برلمانية في فبراير، وهناك تكهنات حول صراع مكتوم حول خلافة المرشد الأعلى، وكان البعض يعتقد أن “سليماني” قد يكون “صانعًا للملوك”، أي إن موقفه سيكون محوريًّا في تحديد نتيجة الصراع.
الأسئلة المطروحة تتعلق بحقيقة الانقسامات بين الصقور والحمائم، وبجدوى الرهان على الحمائم، وفي موقف الشعب من النظام، وهل تغير شيء بعد مقتل “سليماني”؟ والفرضية الأساسية هي أن مقتل “سليماني” قوَّى من مركز المحافظين والصقور، ولكنّ هناك اختلافًا حول تقدير استمرارية ذلك، لأن الشعب مستاء من ارتفاع تكلفة السياسة الإقليمية الإيرانية، وهذا لا يتعارض مع شعبية “سليماني” والإشادة بدوره في إعلاء شأن إيران. بمعنى آخر، فإن السؤال هنا: هل يستطيع النظام تقديم تنازلات؟ وهل هذه التنازلات -على فرض تقديمها- ستقوي النظام أم ستضعفه؟ وهل طوى النظام صفحة التصعيد؟
يمكن القول إن أوروبا تتمنى أن يُقْدِمَ النظام على خطوات تحث الولايات المتحدة على التفاوض، وتقلل من الاحتقان الداخلي، مع شكوك كبيرة في نوايا الطرفين.
حدود الدور الأوروبي في ظل الأزمة
إن الدور الأوروبي حتى الآن يُعد محدودًا، نظرًا إلى عسكرة المواجهة، ولبروز حدود القوة الاقتصادية الأوروبية، فهي على أهميتها عاجزة عن مواجهة الولايات المتحدة في بعض الملفات. إلا أنه يمكن لهذا الدور أن يتعاظم إن اختار أطراف المواجهة التهدئة أو البدء في المفاوضات. ففي الوقت الحالي، تعاني إيران تحت وطأة المصاعب الداخلية -وبخاصة الاقتصادية- التي تسببت في موجات الاحتجاج ضد النظام وخياراته الخارجية. بالإضافة لهذا تواجه إيران رفضًا متصاعدًا لدورها في الدول التي تهيمن عليها بعد أن استثمرت الكثير في تكوين أذرع بها كالعراق ولبنان. وأخيرًا وليس آخرًا، ستظهر في وقت ما مشكلة تكلفة إعادة إعمار سوريا. وللدول الأوروبية قدرة كبيرة على تقديم الدعم الاقتصادي والفني بتلك الدول.
ويلاحظ أن إيران مدركة لحدود قدرات أوروبا، ولكنها متوجسة من البدائل، أو على الأقل هذا ما يقوله خبراؤها لنظرائهم الأوروبيين، فهي لم تقاوم الهيمنة الأمريكية لينتهي بها المطاف في الفلكين الصيني أو الروسي. ولم يتعرض الأوروبيون في تصريحاتهم التي تلت مقتل “سليماني” لآلية INSTEX. وهذا السكوت يرجع إلى دقة الوضع، وإلى استياء بعضهم من سلوك إيران التي قبضت مثلًا على جامعيين فرنسيين، ولكنه قد يكون من المفيد السعي إلى تفعيلها بسرعة رغم الصعوبات. ويلاحظ أن ست دول أوروبية إضافية (إلى جانب فرنسا، والمملكة المتحدة، وألمانيا) انضمّت إلى الشراكة في الآلية في نوفمبر الماضي، وهي: فنلندا، والنرويج، والسويد، والدنمارك، وبلجيكا، وهولندا. لقد لعبت الأزمة الأمريكية الإيرانية دورًا في الإسراع من المراجعات الأوروبية الجارية، فالجانب الأوروبي يعي أن التعويل على المظلة الأمريكية لحماية المصالح الأوروبية لم يعد ممكنًا في الوقت الحالي، وأن أهمية دور الأوروبيين في صياغة القواعد الحاكمة للنظام الدولي في تراجع، نظرًا لصعود قوى جديدة ولاتجاه الكثير من الفاعلين إلى انتهاج سياسة خشنة أو على الأقل لا تتقيد كثيرًا بقواعد القانون الدولي. والسؤال الرئيسي يتعلق بقدرة الأوروبيين على توحيد مواقفهم بصفة عامة، ومن الولايات المتحدة وروسيا والصين بصفة خاصة، وعلى بناء قوة عسكرية يُعتد بها. ولا شك أن التشاؤم مشروع؛ فالدول الأوروبية الكبرى تُعاني من أزمات داخلية هيكلية، والاتحاد الأوروبي يحاول التعامل مع تبعات البريكزيت.