مسألة وجود علاقات قوية للاتحاد الروسي مع كلٍّ من: مصر، والسعودية، والإمارات العربية، وتركيا، وقطر، بالإضافة إلى وجود اتصالات دائمة بين القيادة الروسية ودول الاتحاد الأوروبي الفاعلة في الملف الليبي (ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا)؛ يجعل من روسيا طرفًا مهمًّا جدًا في الملف الليبي.
وسوف نحاول من خلال هذا المقال الوقوف على حدود الدور الروسي في ليبيا، وحجم تداخلاته مع مواقف الدول الإقليمية والدولية الفاعلة على المسرح الليبي من خلال النقاط التالية:
1- لا تنظر روسيا إلى الأزمة الليبية على أنها صراع بين طرفين متناحرين (حكومة الوفاق الوطني في طرابلس بقيادة “فايز السراج”، والجيش الوطني الليبي بقيادة المشير “حفتر”)؛ حيث تدرك جيًدا أن هناك تداخلات عديدة في هذا الصراع. على المستوى الأعلى، هناك حكومة الوفاق الوطني، التي يعترف بها المجتمع الدولي وروسيا أيضًا. من ناحية أخرى، يوجد مجلس النواب الشرعي في شرق البلاد. وتحت مجلس النواب هناك حكومة مؤقتة تقع في مدينة البيضاء (رابع أكبر مدن ليبيا)، والجيش الوطني الليبي، الذي يشكل قوتها العسكرية والسياسية الرئيسية. وهناك أيضًا المستوى الأدنى الذي يتمثل في الميليشيات المسلحة، وهي ميليشيات شبه مستقلة عن القرار السياسي، حيث يوجد حوالي 4-6 ميليشيات داخل طرابلس وحدها. وفي الواقع، فإن هذه الميليشيات تقرر الكثير داخل ليبيا.
2- بتوقيع تركيا مع حكومة “السراج” الاتفاق الأمني العسكري، أصبحت روسيا في موقف لا تُحسد عليه، خاصة مع الرئيس “عبدالفتاح السيسي” الذي بادر إلى الاتصال بـ”بوتين” في 27 ديسمبر من أجل وضعه في الصورة بشكل كامل. هذا ما عملت عليه القيادة الروسية، فتم تقديم المبادرة الروسية-التركية في 8 يناير من أجل وقف إطلاق النار. لكن هذه المبادرة في البداية لم يوافق عليها المشير “حفتر”.
3- منذ حوالي أسبوع، تتحرك موسكو في جميع الاتجاهات من أجل عدم الوصول إلى موقف تكون فيه روسيا في موضع الاختيار بين الجانب التركي-القطري من ناحية، ومصر والسعودية والإمارات من ناحية أخرى، فكان أمام موسكو فقط العمل بشكل جاد على محاولة وقف إطلاق النار بين الجيش الليبي والقوات التابعة لحكومة الوفاق الوطني الليبية. بمعنى آخر، فإن دور الوسيط هو الدور الوحيد الملائم لروسيا نظرًا لتعدد مصالحها مع القوى الإقليمية الفاعلة في ليبيا.
4- بعد سلسلة من الاتصالات التليفونية شملت الرئيس المصري “عبدالفتاح السيسي”، يوم الجمعة الموافق 10 يناير الجاري، ثم ولي عهد أبوظبي، واتصال آخر مع الرئيس التركي، والأمير القطري، ورئيس وزراء إيطاليا، والرئيس الفرنسي، بالإضافة للمفاوضات المباشرة مع المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل”؛ تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وتم الاتفاق أيضًا على دعوة طرفي النزاع في ليبيا إلى مائدة المفاوضات في موسكو.
5- في 13 يناير، زار موسكو ثلاثة وفود مهمة شملت وزيري الدفاع والخارجية التركيين، والمشير “حفتر”، بالإضافة إلى “فائز السراج”. ولم يتم التوقيع على أي اتفاقيات سلام، بسبب وجود الوفد التركي وإملائه شروطًا مجحفة من وجهة نظر المشير “حفتر”. ومسألة رفض المشير “حفتر” للمبادرة الروسية-التركية في البداية، وبعد ذلك مغادرته موسكو دون توقيع أي اتفاقيات؛ مسألة قد لا تنساها له روسيا، خاصةً بعد أن كان قد وافق في البداية على الاتفاق. وفي المقابل، فإن موافقة “السراج” وترحيبه بالمبادرة بشكل سريع سيكون له أثر إيجابي على العلاقات المستقبلية بين الكرملين وطرابلس.
6- الموقف الروسيّ الذي اندفع إلى إقامة حالة وقف إطلاق النار جاء بناء على عدم جاهزية موسكو للوقوف بين المصالح المتضاربة لكل من مصر والسعودية والإمارات من جانب، وتركيا والجزائر وقطر من جانب آخر، بالطبع دون عدم الأخذ في الاعتبار حالة التشتت الأوروبية الخاصة بالموقف الليبي، فكان على روسيا أن تمسك العصاة من المنتصف وتطالب بوقف إطلاق النار من أجل كسب ثقة الطرف المصري ومن أجل عدم خسارة الطرف التركي.
7- لقد أتاح حفل الافتتاح لخط أنابيب الغاز (السيل التركي) فرصة ملائمة لقادة روسيا وتركيا لمناقشة آخر التطورات في الشرق الأوسط. علاوة على ذلك، فإن الموضوع الرئيسي للمحادثات بين “بوتين” و”أردوغان”، على ما يبدو، لم يكن إيران وليس سوريا، بل ليبيا. فقد تم تكريس نصف البيان الختامي للقمة عن ليبيا. فكان من المهم أن يتفوق الرئيسان على منافسيهما، وأن يكون لديهما الوقت لإيجاد حل وسط حول الموضوع الليبي قبل أن تأخذ القوى المعنية الأخرى، وخاصة أوروبا، خطها الخاص. فكان من المهم بالنسبة لروسيا وتركيا أخذ زمام المبادرة، لأن المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” كانت ستصل إلى موسكو يوم 11 يناير. وكانت ستناقش ليس فقط الملف السوري والإيراني، بل كانت ستناقش أيضًا بالتفصيل ليبيا. حيث تحتاج برلين إلى عقد مؤتمر حول التسوية الليبية (مؤتمر برلين سيعقد يوم 19 يناير القادم)، لأن هذا البلد الواقع في شمال إفريقيا له تأثير خطير على الوضع الاقتصادي الأوروبي، وعلى تدفقات الهجرة غير الشرعية في العديد من دول الاتحاد الأوروبي.
8- كل من فرنسا وإيطاليا وروسيا يتخذون نفس الموقف تقريبًا من الملف الليبي، لكن هناك تنافسًا دون أدنى شك بين العواصم الثلاث على الموارد الليبية.
9- تهتم روسيا بالموارد الليبية والفوائد السياسية التي ستوفر فرصة لكسب موطئ قدم في هذا البلد. وحتى مع التطور المواتي للأحداث، يمكن لروسيا محاولة استعادة بعض العقود بمليارات الدولارات التي أبرمتها مع “القذافي”. بالإضافة إلى ذلك، فإن ليبيا بموانئها وسواحلها الطويلة في البحر المتوسط تفتح فرصًا لوجستية واسعة، وتتوافق أيضًا مع رغبة روسيا في توسيع وجودها في إفريقيا، وهذه رغبة ملحة روسية حالية، والدليل على ذلك نراه في القمة الروسية-الإفريقية الأخيرة في سوتشي.
10- إن ليبيا، التي يدور بها نزاع داخلي طويل الأمد، مناسبة لتحقيق كل هذه الأهداف، خاصة الآن، وخصوصًا في ظل انشغال الولايات المتحدة عن الأحداث الليبية بسبب إيران. ولا تستطيع أوروبا تحديد موقف مشترك. صحيح أن تركيا نشطة للغاية في البلاد، لكن في سوريا تعلمت روسيا التفاوض معها.
11- نستبعد مسألة احتمال حدوث صدام بين تركيا وروسيا في ليبيا. هذا ليس في صالح الأطراف التي أعلنت نفسها وسطاء. التعاون السابق بينهم في سوريا سيتم نقله إلى ليبيا. هذا من خلال تحديد مجالات النفوذ واتفاق أساسي للعمل من أجل تسوية سلمية، مع الأخذ في الاعتبار -بطبيعة الحال- مصالح ورغبات الشريك.
12- بالنسبة لروسيا، فإن مثل هذا التفاعل الوثيق مع تركيا سيوفر، من بين أشياء أخرى، بعض التأمين ضد زيادة نفوذ الولايات المتحدة في الصراع. ومن شأن التبادل التجاري في السوق الليبية أن يبسط تبادلات الكرملين مع “أردوغان” في سوريا، حيث لا يزال ملف إدلب يمثل مشكلة لم تُحل.
13- عندما يتم إضافة التعاون المزمع بينهما في ليبيا، والاعتماد القوي على بعضهما في مجال الأمن والطموحات الدولية إلى الترابط الاقتصادي العالي بين روسيا وتركيا؛ فإن هذا سيمنح كلا البلدين حوافز جادة للتمسك ببعضهما بعضًا، وهذا ما تريده العاصمتان. بطبيعة الحال، أثبتت كلٌّ من تركيا وروسيا بالفعل أنهما قادرتان على التفاوض بنجاح حتى عندما تدعمان أطرافًا مختلفة من الصراع.
14- لا تملك روسيا القدرة على التفاوض مع تركيا من أجل مبادلة المصالح (صفقة طرابلس مقابل إدلب مثلًا)، وذلك لسببين؛ الأول: أن التواجد التركي-الروسي في ليبيا ليس مثل التواجد الخاص بهما في سوريا. السبب الثاني: هو وجود القوة الإقليمية الأولى في شمال إفريقيا، وهي مصر، التي تقف ضد أي إرسال لقوات تركية للأراضي الليبية، ما يمنع روسيا من اتخاذ موقف ضدها، وهذا ما رأيناه بالفعل، حيث اختارت روسيا أن تكون وسيطًا وليست طرفًا.
وهكذا، وجدت روسيا نفسها في قلب عاصفة الملف الليبي، بسبب القرار التركي إرسال قوات عسكرية لدعم حكومة “السراج”. فاتصال الرئيس “عبدالفتاح السيسي” بـ”بوتين” يوم 27 ديسمبر هو الذي جعل اللقاء الذي تم في أنقرة يوم 8 يناير يدور بشكل كامل عن ليبيا بالرغم من وجود قضايا خطيرة جدًّا، أهمها قضية مقتل قائد فيلق القدس “قاسم سليماني”.
البيان الذي دعا فيه الرئيسان لوقف إطلاق النار، كان لديه ثلاثة أهداف. لقد أظهر “بوتين” و”أردوغان” أنه لا توجد بينهما مواجهة في ليبيا. النقطة الثانية تتعلق بالرغبة في إظهار اهتمام كلا البلدين بوقف تصعيد النزاع الليبي. وهذا لا يعني أن “بوتين” على استعداد لوضع حياته من أجل حل النزاع الليبي، لكنه يدل على أن روسيا لديها موقف، وهو يتألف من الحاجة إلى تسوية دبلوماسية وسياسية، يكون فيها الاتحاد الروسي مستعدًّا للاستثمار. والثالث، أن هذا البيان لا يمكن اعتباره حلًّا سحريًّا، فلقد تحدثوا عن وقف تصعيد الصراع فقط.
هذه البيانات يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي، لكن بالطبع هذا ليس حلًّا للمشكلة، فهو مجرد بيان. ومع ذلك، وبعد إقناع الطرفين بزيارة موسكو يوم 13 يناير الجاري، لم يوقعا على أي اتفاقيات.
التوصل لحل في ليبيا لن يكون بشكل سريع نظرًا لتعدد اللاعبين الأوروبيين والإقليميين، ونظرًا لصعوبة خريطة القوى السياسية داخل ليبيا، لكن مبادرة “بوتين” في أنقرة وضغطه الدبلوماسي ليُحضر طرفي النزاع إلى موسكو يمكن أن يكون نقطة انطلاق لبدء تفاعل روسي تركي جديد بالفعل في ليبيا، حيث سيتم استخدام الخبرة السياسية المكتسبة في سوريا، فسيكون ذلك مثيرًا للاهتمام من الناحية السياسية.ومن المهم التذكير هنا بأن روسيا غير مستعدة نهائيًا للدخول في أي مواجهة مع أي طرف، سواء كان إقليميًّا أو دوليًّا، في الملف الليبي، فقط أرادت لعب دور الوسيط في هذه الأزمة من أجل عدم خسارة حلفائها في المنطقة وعلى رأسهم مصر، وأيضًا من أجل عدم خسارة الحليف الجزائري المهم بالنسبة لروسيا. والأهم بالنسبة لروسيا عدم خسارة الحليف التركي.