لا شك أن الجولة الأخيرة التي شهدتها مفاوضات سد النهضة التي أُجريت في واشنطن، واجتماع وزراء الخارجية والري في كل من مصر وإثيوبيا والسودان، بمشاركة وزير الخزانة الأمريكية ورئيس البنك الدولي خلال الفترة 13- 15 يناير الجاري، قد شهدت انفراجة وتوافقًا عامًّا على بعض المحددات المهمة التي سيتم التباحث بشأنها خلال الأيام القادمة من أجل بلورة اتفاق نهائي وشامل يتم إعلانه رسميًّا في واشنطن نهاية شهر يناير الجاري.
وقبل التعرض لتفصيلات هذه التطورات وتقييمها، من الضروري التأكيد على ثلاث نقاط رئيسية.
النقطة الأولى: أن المفاوضات التي استمرت خلال فترة السنوات السبع الماضية من المفترض أنها أوشكت بالفعل على الانتهاء في ضوء التفاهمات التي تمت في واشنطن مؤخرًا.
النقطة الثانية: أن المفاوضات هي عملية طويلة ومعقدة من الطبيعي أن تشهد تشددًا وتمسكًا من كل طرف بمواقفه. كما لا بد أن تشهد قدرًا من المرونة في وقت محدد من أجل أن يتم حل المشكلة والقفز على الخلافات القائمة.
النقطة الثالثة: أن دخول كل من الولايات المتحدة بشكل خاص، وكذا البنك الدولي، على مسار التفاوض، أضفى زخمًا وجدية على العملية التفاوضية بغض النظر عن طبيعة مشاركة الطرفين، سواء كانت مراقبة أو وساطة، ولكن من المؤكد أن الطرفين قاما بدور مهم في الوصول إلى المحددات الجديدة.
وحتى يكون الأمر أكثر وضوحًا، من الضروري أن نشير إلى أهم المواقف الرئيسية التي حكمت السياسة التفاوضية لكل طرف من أجل أن نقيّم مدى التطور والتقدم الذي حدث في المفاوضات الأخيرة.
بالنسبة لمصر؛ فقد أكدت منذ اليوم الأول من عملية التفاوض أنها لا تمانع في أن تقوم إثيوبيا ببناء السد من أجل التنمية الاقتصادية وتوليد الطاقة بشرط ألا يؤثر ذلك على حقوق مصر المائية التاريخية، بالإضافة إلى طرح بعض القضايا الأخرى الفنية الرئيسية من بينها ضرورة الحفاظ على مستوى المياه أمام السد العالي عند 165 مترًا كحد أدنى خلال فترة ملء سد النهضة.
بالنسبة لإثيوبيا؛ فقد كانت قد اتخذت قرارًا بالاستمرار في بناء السد طبقًا لوجهة نظرها فيما يتعلق بعمليات الملء والتشغيل دون الاكتراث بالمطالب المصرية. كما أكدت أنه لا علاقة لها بسنوات الجفاف التي يجب أن تتحمل مصر أو دول المصب آثارها.
وأخيرًا، وبالنسبة للسودان؛ فقد تراوحت مواقفها خلال المراحل السابقة بين السلبية فترة والانحياز للموقف الإثيوبي فترة أخرى، ثم أعلنت مؤخرًا توافقها مع الموقف المصري إلى حد كبير، خاصة فيما يتعلق بضرورة ألا يؤثر بناء السد على حصة دول المصب.
وإذا انتقلنا إلى البيان الخماسي المشترك الصادر في الخامس عشر من يناير في واشنطن، والنقاط التي تضمنها، ثم التصريحات المصرية التي تلت صدور هذا البيان، يمكن إيضاح الملاحظات أو النتائج التالية:
1- هناك جدية واضحة في التعامل بشكل أكثر تركيزًا وتفصيلًا وللمرة الأولى مع المحددات الرئيسية بشأن ملء وتشغيل السد وكافة الجوانب الفنية المتعلقة بهذا الأمر حاليًا ومستقبلًا.
2- الحصول من الجانب الإثيوبي على التزام واضح لأول مرة بالتعامل الإيجابي مع سنوات الجفاف والجفاف الممتد، وألا تتأثر دول المصب من جراء هذا الجفاف، وهو ما يعني -في مجمله- النجاح في تثبيت المبدأ الخاص بالربط بين سنوات الملء والجفاف.
3- أن عملية ملء السد ستتم على عدة مراحل على أن تأخذ في اعتبارها الظروف الهيدرولوجية للنيل الأزرق (أي تتوقف على كميات الفيضان المتغيرة من سنة لأخرى، وذلك دون ضرورة لتحديد سنوات الملء).
4- منح إثيوبيا خلال المرحلة الأولى من عملية الملء القدرة على أن تقوم بتوليد الكهرباء بحيث يكون الملء في هذه المرحلة على ارتفاع 595 مترًا فوق سطح البحر، وبشرط ألا يكون هناك تأثير كبير من جراء ذلك على دول المصب، وبالتالي لن يتأثر المنسوب المحدد لمياه السد العالي.
5- تحديد واضح للشهور التي ستتم فيها عملية ملء السد خلال موسم الأمطار (يوليو وأغسطس وحتى سبتمبر) وفقًا لشروط محددة.
6- تحديد آلية متفق عليها بالنسبة للمراحل التالية لعملية ملء السد، على أن تأخذ في اعتبارها أيضًا التدابير اللازمة لتخفيف آثار الجفاف على دول المصب.
7- بالنسبة لعملية تشغيل السد على المدى الطويل، سوف يتم بلورة آلية عمل محددة تراعي أيضًا مسألة الجفاف وتأثيراتها، وبالتالي ستكون هناك مسئولية مشتركة للدول الثلاث في هذا الشأن.
8- تأسيس آلية تنسيق فعالة لتسوية أية نزاعات قد تنشأ مستقبلًا بشأن الاتفاق الذي سيتم الوصول إليه.
9- التأكيد على أهمية التعاون عبر الحدود والتنمية الإقليمية والتكامل الاقتصادي وبما يعود بالفائدة على الدول الثلاث.
وبالتالي، يمكن القول إن نتائج اجتماعات واشنطن الأخيرة قد نجحت -إلى حد كبير- في الوصول إلى ما يمكن أن نسميه الإطار العام للاتفاق النهائي، على أن تُجرَى خلال الفترة القريبة القادمة وحتى الاجتماع المزمع عقده في نهاية يناير الجاري مفاوضات خماسية مكثفة بمشاركة ممثلي كل من مصر وإثيوبيا والسودان والولايات المتحدة والبنك الدولي، تركز على الجانبين الفني والقانوني من أجل وضع هذا الإطار في شكل الاتفاق المفترض توقيعه كاتفاق نهائي.
ومن المهم أن نشير إلى أن هناك دورًا أمريكيًا واضحًا ومتواصلًا لحل قضية السد، حيث اجتمع الرئيس “دونالد ترامب” مع رؤساء الوفود الثلاثة أكثر من مرة، وطالبهم بضرورة التوصل إلى حلٍّ مُرضٍ للجميع. ومن الواضح من خلال قراءة تصريحات الجانب الأمريكي منذ بداية تدخله في هذه الأزمة أنه تواءم -إلى حد كبير- مع الرؤية المصرية التي تركز على الحل العادل والدائم والمتوازن للمشكلة، وحق إثيوبيا في التنمية الاقتصادية دون الإضرار بدول المصب، وهذا هو جوهر حل هذه المشكلة.
وفي ضوء ما سبق، لا شك أن الفترة القليلة القادمة تُعد في قمة الأهمية لأنها سوف تترجم بصورة تفصيلية ومحددة وحاسمة طبيعة الأسس التي تم التوصل إليها في واشنطن، والتي سيلتزم بها الجميع مستقبلًا بالنسبة لعملية ملء السد وتشغيله، ولا سيما العلاقة العضوية بين الملء وسنوات الجفاف والحد من تأثيراتها وطبيعة التدابير المتخذة في هذا الشأن، وكذا آليات عملية التشغيل التي ستشارك فيها الدول الثلاث وكيفية تسوية أية خلافات قد تحدث فيما بعد، بالإضافة إلى تعظيم الفوائد الاقتصادية التي ستعود على الجميع في إطار التعاون المشترك.
وبالتالي، فإننا قد وصلنا الآن إلى مرحلة شديدة الأهمية يمكن أن نسميها (مرحلة الأمتار الأخيرة)، وهو ما يتطلب استمرار دعمنا وتأكيد ثقتنا في المفاوض المصري، وقدرته على التحرك الإيجابي في إطار مبادئه ومواقفه المعلنة التي تؤكد أهمية تحقيق المصالح المشتركة لكافة الأطراف، مع الأخذ في الاعتبار أن إعلان المبادئ الموقع من جانب الأطراف الثلاثة في الثالث والعشرين من مارس 2015 والملزم لهم لا يزال ساريًا ويمكن اللجوء إليه إذا اقتضت الضرورة ذلك، خاصة فيما يتعلق بالبند العاشر المتعلق بالتسوية السياسية للمنازعات.