تُعتبر صناعة الحديد والصُلب من بين أقدم الصناعات المصرية، حيث اتخذت في أربعينيات القرن الماضي شكل إعادة تدوير مُخلفات الحرب العالمية الثانية عبر صهرها وتحويلها إلى حديد تسليح، وبحلول نهاية الخمسينيات أنشأت الحكومة أول مصنع مُتكامل لمُعالجة خام الحديد وتحويله إلى صُلب في حلوان والذي تحول لاحقًا إلى مُجمع الصُّلب في عام 1972 بطاقة إنتاجية بلغت مليون طن سنويًّا. وظلت الحكومة تُسيطر على القطاع طوال عقد الثمانينيات، إذ اتجهت إلى رفع طاقتها الإنتاجية فأنشأت شركة الدخيلة للصلب في عام 1986 بطاقة إنتاجية تبلغ 800 ألف طن من حديد التسليح، ليبلغ إجمالي الإنتاج المصري من الصُلب 2.2 مليون طن في عام 1990 جاء مُعظمه من القطاع الحكومي. لكن خلال التسعينيات بدأ القطاع الخاص يُسيطر على الصناعة، وتحولت مُعظم مصانع القطاع العام من الربح إلى الخسارة. وقد حلت مصر في عام 2018 في الترتيب 21 عالميًّا من حيث حجم الإنتاج بإجمالي 7.8 ملايين طن، وهو الأعلى في تاريخها، جاء مُعظمه من القطاع الخاص. وفي هذا الإطار، يُحاول هذا المقال استعراض تطور صناعة الحديد والصلب في مصر.
أولًا- عدد منشآت الحديد والصُّلب
كان تأثير برنامج الخصخصة المصري محدودًا للغاية على مصانع الحديد والصُلب في القطاع العام، مُقارنة بتأثيره على قطاع الغزل والنسيج، والذي تعرضنا له في مقال سابق. فبينما أسفر ذلك البرنامج عن خفض عدد مصانع الغزل والنسيج من 81 في عام 2003 إلى 29 في عام 2008 عند وقف البرنامج، إلا أن الوضع في صناعة الحديد والصلب يُعد مختلفًا، إذ يبلغ عدد المنشآت العامة 6 منشآت، مُتراجعًا بمقدار مُنشأة واحدة فقط عن أقصى عدد له خلال الفترة (2005-2007)، رغم تحقيق بعض منها خسائر متوالية تجعلها تُحقق شروط البيع بالبرنامج وقانونه رقم 203 لسنة 1991، الأمر الذي يُظهر غياب معايير موحدة للتعامل مع القطاع العام وقت تطبيق البرنامج. ويوضح الشكل التالي تطور عدد منشآت الحديد والصلب في مصر في القطاعين العام والخاص خلال الفترة (2002 – منتصف عام 2018).

وكما يتضح من الشكل السابق، شهدت فترة برنامج الخصخصة انخفاض عدد المُنشآت المملوكة للقطاع الخاص من 54 مُنشأة في عام 2002 إلى 51 في عام 2008، وذلك رغم ما شهدته هذه الفترة من تضاعف مُعدلات الإنتاج، وهو ما يُشير إلى الاندماجات التي شهدها القطاع وما صاحبها من إدخال وسائل إنتاج أفضل. أعقب ذلك اتجاه عام نحو ارتفاع عدد المُنشآت حتى بلغت 56 مُنشأة في عام 2011، لكن ما لبث أن تغير الاتجاه بسبب ثورة الخامس والعشرين من يناير وما صاحبها من اضطرابات سياسية واقتصادية حادة، لتضرب القطاع موجة حادة من الخسائر بسبب انخفاض الطلب، أسفر عن انخفاض العدد بحلول عام 2016 إلى 35 مُنشأة. لكن مع بدء الدولة في تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي وما صاحبه من تبني برامج للإسكان الاجتماعي ومد الطُرق وإنشاء مُدن جديدة ارتفع الطلب من جديد، ليشهد عام 2017 ارتفاعًا جديدًا في عدد المُنشآت ليبلغ 41 مُنشأة، ما شكّل أول زيادة في فترة ستة أعوام كاملة.
ثانيًا- عدد العاملين وأجورهم
يتجه عدد عمال مُنشآت القطاع الحكومي إلى التناقص المُستمر، نتيجة تبني الدولة سياسة وقف التعيينات من ناحية، وتطبيقها سياسة المعاش المُبكر من ناحية أخرى. ففي عام 2007 بلغ إجمالي عدد العُمال في مُنشآت القطاع 22.2 ألف عامل، وانخفض هذا العدد إلى 11.5 ألف عامل بانتهاء النصف الأول من عام 2018، ما يعني فقدان نصف قوة العمل تقريبًا خلال أحد عشر عامًا. وينعكس ذلك بالطبع على مُعدلات الإنتاج، حيث إن مُنشآت القطاع العام كثيفة العمالة، إذ لم يطالها تطوير حقيقي مُنذ تأسيسها في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وهو ما سنعرض له لاحقًا بشيء من التفصيل. ويوضح الشكل التالي تطور أعداد العاملين ومتوسطهم بمُنشآت القطاعين.

ويوضح الشكل اتجاه عدد العُمال في مُنشآت القطاع الخاص للانخفاض، لكنه على العكس من مُنشآت القطاع العام يتذبذب مُتناسبًا طرديًّا مع عدد المُنشآت، حيث شهد انخفاضًا في الفترة ما قبل عام 2017 من 22.4 ألف عامل في 2007 إلى 17 ألفًا في 2016، ليتخذ اتجاه الارتفاع خلال 2017 ليبلغ العدد 19.5 ألف عامل. كذلك يُمكن مُلاحظة ارتفاع مُتوسط عدد العُمال في مُنشآت القطاع الحكومي مُقارنة بالخاص، فبينما يدور المتوسط حول 2600 عامل في مُنشأة القطاع الحكومي، يظل هذه المتوسط حول مستوى 396 عاملًا في مُنشأة القطاع الخاص، ويُرد ذلك أساسًا إلى اختلاف طُرق الإنتاج وفي جُزء منه إلى حجم المُنشأة، حيث تنخفض الطاقة الإنتاجية في مُعظم شركات القطاع الخاص مُقارنة بالمُنشآت العامة كما يوضح الجدول التالي.

يتضح إذن أنه باستثناء شركات حديد عز، وحديد بشاي، وحديد المصريين؛ فإن الطاقة الإنتاجية لمُنشآت القطاع الخاص أقل من القطاع العام، وانعكس ذلك على متوسط أجر العامل في المُنشأة وتطوره. ففي بداية فترة الدراسة عند عام 2007 كان متوسط أجر العامل في المُنشآت العامة 22.1 ألف جنيه، أعلى من نظيره في المُنشآت الخاصة والذي بلغ 18.3 ألفًا ليستمر هذا الوضع قائمًا حتى عام 2014، ليتخذ الوضع بداية من 2015 اتجاهًا معكوسًا فيرتفع متوسط الأجر في القطاع الخاص ليبلغ 65.3 ألف جنيه، أعلى من نظيره في القطاع العام والذي وصل إلى 58.2 ألف في ذات العام، نظرًا للانخفاض الشديد في عدد العُمال كما أشرنا سابقًا، واستمر هذا الوضع حتى النصف الأول من عام 2018، مدفوعًا في ذلك بمُعدلات التضخم المُرتفعة التي شهدتها البلاد واستجابة القطاع الخاص لها، بسبب مرونة هياكل أجوره من ناحية، وربط الأجر بالإنتاج من ناحية أخرى، على عكس القطاع العام.
كذلك تجب الإشارة إلى أن متوسط الأجور في صناعة الحديد والصُلب بوجه عام أعلى من نظيرتها في صناعتي الغزل والنسيج والملابس الجاهزة. ففي عام 2017، بلغ متوسط الأجور في القطاع العام للغزل 59.4 ألفًا، بينما وصل متوسط القطاع العام للحديد والصُلب إلى 65.4 ألفًا. ومن الجدير بالذكر أيضًا أن مُعدلات نمو أجور القطاع الخاص في صناعة الغزل والنسيج والملابس الجاهزة لم تُظهر ذات الاستجابة لمُعدلات التضخم والتحسن في مستوى الإنتاج، وذلك لأن صناعة الحديد والصُلب تمر بأعلى مُعدلات إنتاجية في تاريخها على عكس المشكلات التي تُعاني منها صناعتا الغزل والنسيج والملابس الجاهزة. ويوضح الشكل التالي متوسط الأجور في القطاعين العام والخاص لصناعة الحديد والصُلب ومُعدلات نموها.

يوضح الشكل كذلك اختلاف تأثر مُعدلات نمو أجور القطاعين بالتطورات السياسية؛ إذ إن القطاع الحكومي شهد أعلى مُعدلات نموه على الإطلاق خلال فترة عدم الاستقرار السياسي فيما بين 2011 و2014، حيث شهدت سنة 2011 نموًّا قدره 26%، ثم شهد عاما 2013 و2014 مُعدلات نمو بنسب 16% و19%. الوضع كان خلاف ذلك في مُنشآت القطاع الخاص التي شهدت أدنى مُعدلات نمو للأجور خلال هذه الفترة، فبينما بلغ متوسط معدل النمو خلال كامل الفترة 24%، شهدت الفترة مُعدلات نمو 6%، 22%، 6%. وبداية من عام 2015 الذي شهد بداية الاستقرار السياسي والاقتصادي، انعكس الوضع فحققت أجور القطاع الحكومي مُعدلات نمو مُتدنية بلغت 8% و7% و5% على التوالي حتى 2017، بينما بلغت هذه المُعدلات في القطاع الخاص 26% و27% و55% على التوالي في الفترة ذاتها. يُشير ذلك إلى حقيقة ما مارسه عُمال القطاع الحكومي من ضغوط فئوية واجتماعية على الحكومة خلال فترات عدم الاستقرار السياسي، بعكس عُمال القطاع الخاص الذين تقبلوا مُعدلات النمو البطيئة للحفاظ على فرص عملهم في ظل ما شهدته الصناعة والاقتصاد المصري على وجه العموم من تدهور.
ثالثًا- مُستلزمات الإنتاج
شكّل عام 2017 طفرة في تكلفة مُستلزمات الإنتاج في القطاعين العام والخاص، حيث بلغت في القطاع الخاص 55 مليار جنيه تقريبًا، فيما بلغت في القطاع العام 3.55 مليارات وهي أعلى تكلفة خلال فترة الدراسة وربما خلال تاريخ الصناعة بالكامل، في ظل متوسط للتكلفة خلال كامل فترة الدراسة بلغ 27 مليارًا للقطاع الخاص و2.4 مليار للقطاع العام، وذلك بنسبة نمو 108% للقطاع الخاص و43% للقطاع العام عن تكلفتهما في عام 2016. ويرجع ذلك إلى ثلاثة أسباب هي: ارتفاع نسب التضخم خلال العام، وخفض الدعم الجُزئي عن أسعار الكهرباء مما سبب ارتفاعها، وحيث إن صناعة الحديد والصُلب من الصناعات كثيفة استخدام الطاقة فقد ارتفعت التكلفة الإجمالية للمُستلزمات، وأخيرًا ارتفاع الطلب الفعلي على الإنتاج وخاصة الحكومي منه بسبب عدد المشروعات الكبير الذي تنفذه الدولة في مجالات الإسكان والبنية التحتية والطُرق. ويوضح الشكل التالي تكلفة مُستلزمات الإنتاج في القطاعين ومُعدلات نموها.

وهنا لا بد من عقد مُقارنتين بين صناعة الحديد والصُلب والغزل والنسيج؛ أُولاهما بين مُستلزمات إنتاج الصناعتين في عام 2017، والتي تُسفر عن أن تكلفة مُستلزمات الأخيرة بلغت 11.09 مليار جنيه كأعلى قيمة في فترة الدراسة في العام ذاته، أي أقل من خُمس قيمة المُستلزمات في العام ذاته لصناعة الحديد والصُلب، وهو ما يُشير إلى التكلفة الكبيرة التي يحتاجها إنتاج الحديد والصُلب، سواء من حيث أسعار المواد الخام والطاقة أو حتى ثمن الإنشاءات وتكلفة الآلات. المقارنة الثانية بين تكلفة المُستلزمات إلى الأجور في كلا الصناعتين، ففي حين تُشكل الأجور 22% من مُستلزمات إنتاج القطاع العام في صناعة الحديد والصُلب في عام 2017، فقد شكل ذات الرقم 4% فقط من تكلفة المُستلزمات في القطاع الخاص لذات الصناعة. وتُشير هذه المُقارنة إلى حقيقتين؛ الأولى ما يتكبده القطاع الحكومي من أعباء أجور زائدة للغاية تؤثر على ربحية النشاط بسبب تقادم أدوات الإنتاج ومُعداته وميلها إلى الاعتماد على الأيدي العاملة بدلًا من الآلة. الثانية أن مصانع القطاع العام بشكل قوائمها المالية الحالية هي أشبه بالمُنظمات غير الهادفة للربح، حيث لا يُمكن القبول بأن تُشكل الأجور في مُنشآتها خمسة أضعاف نسبة الأجور في القطاع الخاص.
رابعًا- قيمة الإنتاج وربحية النشاط
لم يُشكل إنتاج صناعة الحديد والصُلب استثناءً من حقيقة تأثر القطاع الصناعي بفترات عدم الاستقرار السياسي، حيث سجلت مُعدلات نمو الإنتاج في القطاع العام في الفترة ما بين 2011 وحتى 2016 قيمًا سالبة (انكماش) لثلاث سنوات بنسب: -19%، -29%، -15% في السنوات 2012 و2013 و2015 على الترتيب، في حين بلغ متوسط مُعدلات النمو للقطاع 1% خلال كامل فترة الدراسة. على نفس المنوال، ولكن بشكل أقل، سار القطاع الخاص بتسجيله ثلاثة انكماشات بمقدار: -17% و-3 و-7% خلال السنوات 2011 و2015 و2016 على الترتيب، وذلك رغم متوسط نمو يبلغ 21% خلال كامل الفترة. ويوضح الشكل التالي قيمة الإنتاج ومُعدلات نموه في مُنشآت القطاعين العام والخاص.

تأتي هذه المُعدلات السالبة في ظل مُعدلات نمو موجبة لمُستلزمات الإنتاج في مُعظم السنوات مما سينعكس بالسلب على مُستويات الربحية، ويُمكن رصد ذلك بالرجوع للقوائم المالية لأكبر شركات القطاعين في السنوات العشر الأخيرة، حيث يرصد الجدول التالي ربحية النشاط في شركة الحديد والصُلب المصرية، وشركة العز الدخيلة للصلب كأكبر شركتين في كُل قطاع.

ويوضح الجدول مقدار الخسائر التي تتكبدها شركة الحديد والصُلب المصرية أكبر شركات القطاع العام، حيث حققت خسائر في تسع سنوات من بين السنوات العشر الواردة في الجدول بإجمالي مبالغ قدرها 5.84 مليارات جنيه، في حين حققت شركة العز الدخيلة كأكبر شركة قطاع خاص أرباحًا في تسع سنوات بإجمالي مبالغ قدرها 5.3 مليارات جنيه، لذلك بدأت الدولة في عام 2018 خطة لإعادة هيكلة الشركة من جديد وذلك بتحويل هياكل الإنتاج لإعادتها إلى الربحية.
خلاصة القول إذن، إن صناعة الحديد والصُلب المصرية ما زالت في حالة جيدة، حتى بعد ما عاصرته من خسائر بسبب الأحوال السياسية والاقتصادية المُتردية عقب ثورة 25 يناير، بل واتجهت الأمور إلى التحسن بعد عام 2017 حيث بلغت مُعدلات الإنتاج في 2018 أقصاها تاريخيًّا، لكن أسعار الطاقة التي ارتفعت أصبحت تُشكل ضغطًا على أسعار مُستلزمات الإنتاج في القطاعين العام والخاص، مما يُقلل من ربحية النشاط بشكل عام. ويواجه القطاع العام العديد من المشاكل، مما دفع بالقطاع إلى تسجيل معدلات خسائر مرتفعة، لذلك بدأت الدولة خطة تطوير لنقل القطاع مرة أخرى إلى المُنافسة والربحية.