أعادت عمليات الاغتيال التي نفذتها الولايات المتحدة الأمريكية في السنوات العشر الأخيرة ضد عدد من قادة التنظيمات الإرهابية (بداية من “أبو مصعب الزرقاوي” زعيم تنظيم “القاعدة في العراق”، وحتى “قاسم سليماني” قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني) الحديثَ مجددًا عن الدور الذي لعبته عمليات الاغتيال في العقيدة الأمنية الأمريكية. وكانت هذه العمليات التي بدأت مبكرًا في حقبة الخمسينيات من القرن الماضي قد توقفت منذ منتصف السبعينيات وحتى بداية الألفية الثانية عندما استؤنفت بشكل علني تحت عناوين ومبررات قانونية وإنسانية.
كشفت التحقيقات التي أجرتها لجنة Church Committee، وهي اللجنة التي شكلها الرئيس الأمريكي “جيرالد فورد” عام 1975 للبحث في انحرافات وكالة الاستخبارات المركزية؛ عن الدور الواسع الذي لعبته العمليات السرية التي قامت بها الوكالة في تنفيذ أجندة السياسة الخارجية الأمريكية. لقد تم نشر التقرير المبدئي للجنة في نوفمبر من العام نفسه تحت عنوان “اتهامات بالتآمر لاغتيال قادة دول أجنبية”. وقد أوضح التقرير أن سياسة الاغتيال لرؤساء الدول أو قادة التنظيمات التي قادت حركات التحرر الوطني في العالم الثالث في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كانت تحتل مكانة مركزية في عقيدة الاستخبارات الأمريكية في إطار الدفاع عن المصالح الأمريكية. ولم تكن مشكلة ممارسة الاغتيالات في هذه الفترة تتعلق بجدواها بقدر ما تعلقت باحتجاجات ومخاوف من ممارسة هذه الوسيلة على نطاق واسع خارج القانون، ومخاوف أشد من أن تمتد هذه السياسة نحو معارضين في الداخل، خاصةً مع وجود شكوك حول الدور الذي لعبته الاستخبارات الأمريكية وجهاز FBI في اغتيال زعيم حركة الحقوق المدنية الأمريكية “مارتن لوثر كينج” في أبريل عام 1968.
كتاب “تيم وارنر” “إرث من الرماد” الذي استعرض تاريخ CIA منذ عام ١٩٤٥ وحتى عام ٢٠٠٧، وعدد مرات إخفاقاتها، وفشل محاولات إصلاحها وكيف أثّرت عمليات الاغتيال التي مورست حتى أوائل السبعينيات بحق رؤساء دول وقادة منظمات مسلحة، خاصة في أمريكا اللاتينية، على سمعة المؤسسة وعلى صورة الولايات المتحدة في الخارج، مما أدى إلى توقف هذه السياسة مع منتصف السبعينيات. وينسب “وارنر” تنشيط عمليات الاغتيال كوسيلة لتخريب الدول والمنظمات الوطنية في العالم الثالث إلى الرئيس الأمريكي “جون كيندي” ومستشاره للأمن القومي في مطلع الستينيات “جورج بوندي”. وكانت الإشارة الأخيرة إلى المسئولية المباشرة للرؤساء الأمريكيين عن إصدار أوامر الاغتيال التي نفذتها المخابرات الأمريكية هي السبب الأهم لوقف هذه العمليات، دون التعرض لسؤال حول جدواها وأهميتها لتحقيق الأهداف الأمريكية. لكن في كتاب مهم للجنرال “ف.ف بترسينكو” بعنوان “البيت الأبيض وأسرار المخابرات الأمريكية” معلومات تفصيلية عن الوحدة الخاصة التي تشكلت لإدارة “العمليات القذرة”، والتي كان من مهامها التخطيط لعمليات اغتيال لقادة دول اعتبرتهم خطرًا على المصالح الأمريكية. وينقل الكتاب عن “راي كلاين”، كبير مستشاري مركز الإدارات الدولية والاستراتيجية بجامعة جورج تاون في الثمانينيات، وأحد الذين عملوا كمستشارين غير رسميين للسي آي إيه، قوله: ربما تكون عمليات التخريب والاغتيال التي مارستها الوكالة في الخارج غير قانونية من وجهة نظر الشعوب التي تتوجه ضدها هذه العمليات، ولكن جدواها بالنسبة للسياسة الأمريكية كانت كبيرة، ومن حيث الكلفة لا يمكن مقارنتها بتكاليف الحروب التي تشن لتحقيق نفس الأهداف.
عودة سياسة الاغتيالات علانية
لا يمكن الجزم بأن الإعلان في منتصف السبعينيات عن توقف سياسة الاغتيالات كوسيلة لردع خصوم الولايات المتحدة قد عنى تخلي الولايات المتحدة عنها أو عن العمليات السرية الأخرى، مثل إثارة القلاقل والاضطرابات في الدول المناوئة للمصالح الأمريكية. وكان الكشف عن الفضيحة المعروفة بإيران-جيت في عام 1986 أوضح مثال على استمرار مثل هذه العمليات، رغم أن هذه العملية لم تشهد تنفيذ اغتيالات. والمعروف أن الرئيس الأمريكي الأسبق “رونالد ريجان” ونائبه “جورج بوش الأب” (شغل أيضًا في السابق منصب مدير المخابرات المركزية قبل توليه هذا المنصب) قاما بعقد اتفاق سري مع إيران لتزويدها بالأسلحة لحاجتها الماسة لأنواع متطورة منها أثناء حربها مع العراق في الثمانينيات، وذلك لقاء إطلاق سراح بعض الأمريكيين الذين كانوا محتجزين في لبنان، حيث كان الاتفاق يقضي ببيع إيران ما يقارب 3,000 صاروخ من طراز تاو المضادة للدروع وصواريخ هوك أرض جو مضادة للطائرات مقابل إخلاء سبيل خمسة من الأمريكيين المحتجزين في لبنان.
وأدى حادث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، إلى منح الولايات المتحدة الأمريكية فرصة هائلة للعودة إلى سياسة اغتيال الخصوم، ليس بعمليات تتم عبر الاستخبارات، بل عبر عمليات عسكرية للجيش، أو من خلال وحدات خاصة، أو بواسطة الطائرات بدون طيار. والأهم أن هذا الحادث نفسه قد مكّن إدارة الرئيس “جورج بوش الابن” من حشد الرأيين العام الأمريكي والعالمي لتقبل سياسة اغتيال زعماء التنظيمات الإرهابية وجعلها شرعية ومبررة أخلاقيًّا، وبذلك تخلصت الولايات المتحدة من أكثر قيدين ميّزا الحقبة الأولى من ممارسة سياسة الاغتيالات، وهما: السرية (غير المضمون بقاؤها في أي لحظة)، وانتهاك القوانين المحلية والدولية، لكون هذه العمليات موصومة بانتهاك المبادئ الأخلاقية.
منذ عام 2002 صدرت العديد من التشريعات التي أقرها الكونجرس لملاحقة الإرهابيين في أي مكان في العالم، وبات المسئولون المباشرون عن تنفيذ العمليات الاستخبارية المعاونة للقوات العسكرية في اصطياد المطلوبين أمنيًّا أكثر صراحة ووضوحًا في التعبير عن قناعتهم بجدوى عمليات اغتيال قادة التنظيمات الإرهابية. على سبيل المثال، ينقل “ستيفن جراي” في كتابه “أسياد الجاسوسية الجدد”، أن الرئيس “جورج بوش الابن” أصدر أوامره لـCIA بقتل “أسامة بن لادن” زعيم تنظيم “القاعدة” المتهم بتدبير الحوادث التي لحقت بالأمريكيين والمصالح الأمريكية منذ عام 1998، وأن “كوفر بلاك” رئيس قسم مكافحة الإرهاب في الوكالة، كتب في رسالته التوجيهية لرجاله المكلفين بتنفيذ المهمة: لا أريد القبض على بن لادن وجماعته، أريدهم أمواتًا.. أريد رؤية رؤوسهم معلقة على الحراب. أريد رأس بن لادن مشحونًا في صندوق، أريد أن يراه الرئيس، فقد وعدته أن أفعل ذلك.
ومما لا شك فيه أن دخول الطائرات القتالية بدون طيار للخدمة على نطاق واسع في نهاية عهد الرئيس “بوش الابن”، قد سهل من مهمة الولايات المتحدة في ممارسة سياسة الاغتيال بدون التعرض لخسائر تذكر. وحتى عندما كان يصاحب عمليات التصفية للإرهابيين بواسطة الطائرات بدون طيار سقوط ضحايا من المدنيين الأبرياء، كان بوسع واشنطن تبرير ذلك بالاعتذار عن ذلك بحجة أنهم لم يكونوا مستهدفين، وأن تصفية الهدف تدخل في إطار حماية الأمن الدولي والإنساني. وخلال الفترة الممتدة منذ عام 2006 وحتى اليوم، تمكنت الولايات المتحدة من قتل عشرات من قادة ونشطاء التنظيمات الإرهابية، أهمهم “أبو مصعب الزرقاوي” زعيم تنظيم القاعدة بالعراق وسوريا في عام 2006، و”أسامة بن لادن” زعيم القاعدة في عام 2011، و”أبو بكر البغدادي” زعيم تنظيم داعش في عام 2019، وأخيرًا “قاسم سليماني” قائد فيلق القدس الإيراني. وصنفت واشنطن هؤلاء الأربعة وغيرهم على أنهم إرهابيون مطلوبون أحياء أو أمواتًا، سواء لارتكابهم جرائم إرهابية يجب معاقبتهم عليها، أو لمنعهم من ارتكاب جرائم مماثلة مستقبلًا.
تقييم لجدوى عمليات الاغتيال الأخيرة
دافع كل الرؤساء الأمريكيين الذين أصدروا أوامرهم باغتيال قادة التنظيمات الإرهابية عن هذه العمليات، بل واتفقوا جميعًا على الاحتفاء بها بعد تنفيذها بنفس العبارات التي رددها الرئيس “دونالد ترامب” بعد قتل “قاسم سليماني”: لقد أصبح العالم أكثر أمنًا بعد موته. كما يرى آخرون أن سياسة المطاردة بهدف القتل التي انتهجتها واشنطن ضد قادة الإرهاب، هي التي أجبرت “أسامة بن لادن” على البقاء مختبئًا، والاكتفاء بإدارة عملياته من بعيد، ومن خلال مراسلات شخصية غير مباشرة غالبًا ما كانت تتأخر في الوصول إلى أصحابها. كما أن مقتل “بن لادن” جاء في ظل حرب لا هوادة فيها كانت طائرات «الدرون» الأمريكية تشنها فوق وزيرستان، وتحصد القائد تلو القائد في صفوف المخضرمين من زعماء “القاعدة”، إلى درجة أن لقب “الرجل الثالث” في التنظيم، بعد “بن لادن” ونائبه “أيمن الظواهري”، صار صاحبه لا يتوقع البقاء حيًّا سوى لشهور قليلة. ورغم أن الكاتب “ستيفن جراي” في الكتاب الذي أشرنا إليه سابقًا يُقر بالفوائد الجمة لأسلوب الاغتيالات في تفكيك التنظيمات الإرهابية وردع قادتها، إلا أنه ينبه إلى أحد الجوانب السلبية لهذه السياسة بقوله: كانت مكافحة الإرهاب ضحية نجاحها، فكلما اعتقلت الوكالات المزيد من الأشخاص، أو قتلت، أو عرقلت عمل أعضاء شبكة إرهابية، تسببت في انقسام الشبكة إلى مجموعات منعزلة، وأدى ذلك إلى تعقيد مهمة المخابرات، سواء في جمع المعلومات من داخل هذه التنظيمات أو في محاولة اختراقها وزرع عملاء داخلها. باختصار، ربما يقصد “جراي” أن قتل زعيم منظمة إرهابية كبيرة مثلما يحتوي على جانب إيجابي يتمثل في تعطيل عملها وإحداث انشقاقات بين المتنافسين على وراثة الزعيم المقتول، وتقليل قدرتها على التخطيط المحكم لعمليات جديدة؛ إلا أنها تتضمن أيضًا جانبًا سلبيًّا يتمثل في تشظي هذه التنظيمات وفقدان القدرة على متابعة التنظيمات الصغيرة الخارجة منها أو الأفراد الذين يمكن أن يتحولوا إلى ذئاب منفردة.
التعاون الأمريكي-الإسرائيلي
امتلكت كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية القدرة على ممارسة سياسة الاغتيالات ضد الخصوم منذ السنوات الأولى لتأسيس الدولة العبرية، وهو نفس توقيت تأسيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية. وعلى حين انصرفت الوكالة لممارسة سياسة الاغتيالات على نطاق واسع ضد رؤساء دول ومناضلين ضد الاستعمار في العالم الثالث حتى السبعينيات اتهموا بالشيوعية وتهديد المصالح الأمريكية، فإن إسرائيل ظلت حتى الستينيات منشغلة في مطاردة قادة النظام النازي المتهم بتدبير المحرقة لليهود في ألمانيا وأوروبا الشرقية في الثلاثينيات من القرن الماضي. ومما لا شك فيه أن كلا البلدين قد تبادلا الخبرات معًا، كما توجد شبهات حول تعاونهما في تصفية خصومهما المشتركين. وربما يكون المثال الأبرز، وإن جاء متأخرًا، هو التقارير التي أشارت إلى تصفية “عماد مغنية”، القائد العسكري لميليشيات حزب الله في دمشق عام 2008. والمعروف أن “مغنية” كان هدفًا مشتركًا للأمريكيين والإسرائيليين بسبب ضلوعه في عملية قتل مئات الجنود الأمريكيين في لبنان عام 1983.
وعلى حين أن الولايات المتحدة توقفت لفترة تقترب من ربع قرن عن ممارسة هذه العمليات تمامًا؛ فإن إسرائيل ظلت تمارسها ضد خصوم جدد هم قيادات التنظيمات الفلسطينية التي تقاتل من أجل تحرير الفلسطينيين من الاحتلال الإسرائيلي، وضد قيادات حزب الله، وفي مواجهة وعلماء المشروع النووي الإيراني.
أيضًا يمكن القول إن إسرائيل كانت الأسبق في استخدام محكمتها العليا لتشريع وتقنيين عمليات الاغتيال ضد خصومها منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي تحت مسمى “القتل المستهدف”، وجاءت الولايات المتحدة بعدها عقب وقوع حادث الحادي عشر من سبتمبر. ويذكر “رونين بيرجمان” في كتابه “اقتل أولًا” -الذي أشرنا إليه من قبل- أن وفدًا أمنيًا إسرائيليًا ذهب إلى واشنطن سرًّا عام 2002 لكي يشرح للرئيس “بوش الابن” التسويغ القانوني لمثل هذا النوع، وأن “بوش” منح موافقته لإسرائيل على الاستمرار في هذه السياسة.
في نهاية المطاف، يمكن القول إن استمرار إسرائيل والولايات المتحدة في انتهاج سياسة الاغتيال للخصوم يعني أنها سياسة ناجحة وتحقق أهدافها، وإن بقي أمر واحد وهو استغلال إسرائيل لعنوان مكافحة الإرهاب، وشرعية اغتيال الإرهابيين في تنظيمات مثل “القاعدة” و”داعش”، لكي تمرر دون حق عمليات قتلها لمن يكافحون ضد احتلالها أراضيهم وضد قمعها للشعب الفلسطيني.