أعلن الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، في الأول من يونيو 2017، أن الولايات المتحدة ستوقف مشاركتها في اتفاقية باريس لعام 2015 للتغير المناخي. وأرجع “ترامب” أسباب هذا القرار إلى أن “اتفاق باريس سيقوض الاقتصاد (الأمريكي)”، و”سيضع (الولايات المتحدة) في وضع غير مواتٍ دائم”. وكان “ترامب” قد تعهد خلال حملته الرئاسية بالانسحاب من الاتفاقية، قائلًا إن الانسحاب سيُساعد الشركات والعمال الأمريكيين. كما صرح بأن الانسحاب سيكون وفقًا لسياسته “أمريكا أولًا”.
ووصف “ترامب” اتفاق باريس وقتها بأنه غير عادل للغاية. وادعى أن الاتفاق، إذا تم تنفيذه، سيكلف الولايات المتحدة 3 تريليونات دولار، و6.5 ملايين وظيفة. كما أشار إلى تأثيره الفعلي على صناعة الفحم الأمريكية. وانتقد “ترامب” صندوق المناخ الأخضر، واصفًا إياه بأنه مخطط لإعادة توزيع الثروة من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة. ولكنه صرح -في الوقت نفسه- بانفتاحه لإعادة التفاوض على اتفاق جديد، وهو ما رفضه زعماء أوروبا والأمم المتحدة، موضحين أنه لا يمكن إعادة التفاوض بناء على طلب طرف واحد.
ووفقًا للمادة 28 من اتفاقية باريس، لا يمكن لدولة ما إخطار الانسحاب من الاتفاقية قبل ثلاث سنوات من تاريخ بدايتها في البلد المعني، وفي حالة الولايات المتحدة فهذا التاريخ هو 4 نوفمبر 2016. ولذا أصدرت الإدارة الأمريكية في 4 نوفمبر 2019 إشعارًا رسميًّا بنيتها الانسحاب من الاتفاق، والذي يحتاج إلى 12 شهرًا حتى يصبح نافذ المفعول. لذلك، لا يمكن أن يكون أقرب تاريخ انسحاب فعلي ممكن من قبل الولايات المتحدة قبل 4 نوفمبر 2020. وهو ما يأتي عقب يوم واحد من الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2020.
ردود أفعال الدول والمنظمات والشركات العالمية
في الوقت الذي احتفى فيه بعض أعضاء الحزب الجمهوري داخل الولايات المتحدة بالقرار، كانت ردود الفعل الدولية على الانسحاب سلبية للغاية من جميع الأطياف السياسية، حيث لقي القرار انتقادات كبيرة من جانب المنظمات الدينية، والشركات، والزعماء السياسيين لجميع الأحزاب، ودعاة حماية البيئة، والعلماء والمواطنين.
وبعد إعلان “ترامب” الانسحاب من الاتفاق، شكل حكام العديد من الولايات الأمريكية تحالف المناخ في الولايات المتحدة لمواصلة دفع أهداف اتفاقية باريس على مستوى الولاية على الرغم من الانسحاب الفيدرالي. واعتبارًا من الأول من يوليو 2019، انضمت 24 ولاية وبورتوريكو إلى التحالف، كما تم الإعراب عن التزامات مماثلة من قبل حكام الولايات ورؤساء البلديات والشركات الأخرى. وفي اليوم الذي أعلن فيه “ترامب” الانسحاب من الاتفاق وضعت 25 شركة خطابًا مفتوحًا على صفحة كاملة إلى الرئيس “ترامب” في “نيويورك تايمز” وصحيفة “وول ستريت جورنال”، يشجع الإدارة على بقاء الولايات المتحدة في الاتفاق. وأعقب القرار أيضًا تأكيد شركات “إكسون موبيل” و”شيفرون” و”شل” و”جنرال موتورز” دعمهم لاتفاق باريس، واتخاذ تدابير لمعالجة تغير المناخ. في حين تعهد رجل الأعمال الأمريكي “مايكل بلومبرج” بمبلغ 15 مليون دولار للأمانة التنفيذية لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، موضحًا: “سيحترم الأمريكيون اتفاقية باريس وسيلتزمون بها من خلال القيادة من الأسفل إلى الأعلى، وليس هناك ما يمكن لواشنطن فعله لمنعنا”. وبعد فترة وجيزة من إعلان “ترامب”، انضم ثلاثون من رؤساء البلديات وثلاثة من حكام الولايات وأكثر من ثمانين رئيس جامعة وقادة أكثر من مائة شركة إلى بلومبرج في فتح مفاوضات مع الأمم المتحدة لتقديم خطة للحد من انبعاثات تغير المناخ الأمريكية وفقًا لاتفاقية المبادئ التوجيهية لاتفاق باريس.
لكن على صعيد آخر، أشاد بالقرار التحالف الأمريكي للكهرباء النظيفة للفحم والكهرباء (بيبودي للطاقة)، أكبر منتج للفحم مدرج في الولايات المتحدة، مصرحًا بأن النتيجة ستكون انخفاض أسعار الطاقة وزيادة موثوقية الإمداد.
التأثير الاقتصادي المحتمل
تأتي أهمية قرار إدارة “ترامب” من كون الولايات المتحدة هي ثاني أكبر مصدّر لانبعاثات الغازات الدفيئة في العالم، بعد الصين، وهي إلى حدٍّ بعيد أكبر باعث متراكم للغازات الدفيئة في التاريخ. ومع وجود الولايات المتحدة خارج اتفاقية باريس، ستغطي الاتفاقية الآن حوالي 80 بالمائة فقط من الانبعاثات عوضًا عن 97%. ومع تنازل الولايات المتحدة عن أي مسئولية عن الحد من الانبعاثات، فسيكون من الصعب إقناع الصين والهند وغيرها من الدول الصناعية الكبرى بتقليل انبعاثاتها لتعويض الفارق، وذلك للحفاظ على أنشطتهم الاقتصادية المتعلقة بالصناعات المسببة للانبعاثات.
ومن هذا المنطلق، يمكن توقع حدوث تأثيرات اقتصادية وليست بيئية فقط، لقرار الانسحاب. إذ قد تكون الشركات الأمريكية في وضع غير تنافسي في المستقبل، إذا تخلى الاتحاد الأوروبي عن خططه الناشئة عن وضع ضريبة للحدود الكربونية، الأمر الذي سيؤدي إلى فرض تعريفات جمركية على جميع السلع القادمة من بلدان لا تلتزم بمعايير الاتفاقية. كما أن وجود الولايات المتحدة الأمريكية خارج اتفاقية باريس قد يؤدي إلى صعوبة التوصل إلى اتفاق تجاري جديد مع الاتحاد الأوروبي، لا سيما مع رفض فرنسا عقد صفقة تجارية مع أي بلد خارج الاتفاقية.
وكانت العديد من شركات السيارات والطيران الأمريكية الكبرى قد استثمرت بالفعل مليارات الدولارات في سبيل خفض الانبعاثات، ومن غير المرجح أن تغير مسارها. وهو ما أكدته شركات عدة مثل جنرال موتورز، أكبر شركة لتصنيع السيارات في الولايات المتحدة. وأشارت بعض التحليلات إلى أن الشركات المصنعة للسيارات ليست تحت أي قيود محددة بموجب اتفاق وأنه لم يتغير شيء، إذ إنه حتى لو خفف “ترامب” القيود الأخرى المفروضة على صناعة السيارات والتي سمحت بإنتاج سيارات أكثر ضررًا للبيئة من مثيلاتها عالميًّا، فإن هذه السيارات لا تزال بحاجة إلى الامتثال للمعايير الدولية قبل أن يتم تصديرها إلى قارات أخرى أو حتى دول معينة. في حين قلل “جيسون بوردوف”، خبير سياسات الطاقة في جامعة كولومبيا، من ضرر الانسحاب اقتصاديًّا على الشركات الأمريكية، بحجة أن هناك معايير أكثر أهمية تحدد ظروف السوق مثل أسعار النفط والغاز.
وفي الوقت نفسه، أنفقت شركات الطيران مليارات الدولارات على البحث عن طرق أكثر كفاءة في استهلاك الوقود للسفر على أي حال، فالوقود هو ثاني أكبر تكلفة تشغيلية لشركات الطيران، وبالتالي فإن استخدام كميات أقل من الوقود (وهو ما يعني تقليل الانبعاثات) هو في مصلحتها المالية. أي إن انسحاب الإدارة الأمريكية من عدمه لن يوقف الخطط الصديقة للبيئة من تلك الشركات، بهدف تحقيق ربحية أعلى. وهو نفس المنهج الذي تتبعه شركات عديدة داخل القطاع الخاص الأمريكي في الاستثمار في الطاقة المتجددة، التي أصبحت أرخص من الفحم في عدد متزايد من البلدان.
إلا أن التأثير الاقتصادي الأهم لقرار الانسحاب هو إلغاء العديد من القيود البيئية على جميع الصناعات الأمريكية، وهو ما يعطيها أفضلية سعرية ويحسن من فرص تنافسها مع منتجات الدول الأخرى الملتزمة بتلك القيود طبقًا للاتفاقية. وهو ما يتراءى في إعراب صناعة السيارات الألمانية عن قلقها بشأن قدرتها على الاستمرار في المنافسة في ضوء قرار الولايات المتحدة بالانسحاب. إذ صرح “ماتياس ويسمان”، رئيس الرابطة الألمانية لصناعة المركبات VDA: “إن إعلان الولايات المتحدة المؤسف يجعل من الحتمي على أوروبا تسهيل سياسة مناخية فعالة من حيث التكلفة والجدوى الاقتصادية، حتى تظل قادرة على المنافسة دوليًّا”.
تخبّط عالمي في مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي بإسبانيا 2019
مع انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من اتفاقية باريس، كونها المعارض الأبرز في مسيرة تقليل الانبعاثات والتعامل مع مشكلة التغيرات المناخية، اتجهت الأنظار نحو مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي بإسبانيا في ديسمبر 2019 من أجل الخروج بقرارات أكثر حفاظًا على البيئة. إلا أن نتائج المؤتمر كانت مخيبة للآمال في وقت تعتبر فيه إجراءات المناخ والتدابير الملموسة ملحة؛ إذ صرح “ألدن ماير”، المدير الاستراتيجي في اتحاد العلماء الذين حضروا مفاوضات المناخ منذ عام 1991، بأن ما حدث في المؤتمر هو الفصل شبه التام بين ما يتطلبه العلم وما تقدمه مفاوضات المناخ من حيث العمل الهادف، حيث لم يخرج المؤتمر بأي قرار، وتم تأجيل القرارات المتعلقة بسوق الكربون وخفض الانبعاثات إلى مؤتمر المناخ القادم في غلاسكو. لكن على جانب آخر، توصل الاتحاد الأوروبي إلى اتفاق حول “الصفقة الأوروبية الخضراء الجديدة” التي يجب أن تخفض انبعاثاتها إلى الصفر بحلول عام 2050، مع تقديم العديد من الالتزامات من قبل البلدان والمدن والشركات والائتلافات الدولية. ويضم هذا التحالف المناخي الطموح 73 دولة ملتزمة بصافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2050، بالإضافة إلى 1214 جهة فاعلة أخرى (المناطق، المدن، الشركات، المستثمرون) الذين تعهدوا بالهدف نفسه. وإن كان هناك من يرى تلك الرؤى حالمة بعض الشيء، لا سيما مع قرار الانسحاب الأمريكي، وتباطؤ النتائج المرجوة من أهداف التنمية المستدامة 2030.
ماذا بعد في 2020؟
أصبح من المتوقع في حالة فوز “ترامب” بالانتخابات الرئاسية 2020، أن ينفذ قرار الانسحاب رسميًّا في اليوم التالي لفوزه. وهو ما سيعطي أفضلية اقتصادية للشركات الأمريكية، مع تقليل القيود البيئية عليها. إذ في الغالب ستختار تلك الشركات والصناعات الالتزام بيئيًّا بما يفيد اقتصاديًّا فقط، مثل التحول للطاقة المتجددة عند الضرورة، وتقليل الاستهلاك، وتطبيق إعادة التدوير. وقد تدفع هذه الأفضلية الأمريكية العديد من الدول إلى الانسحاب أو التملص من الاتفاقية بدورها، كون أن نجاح هذه الاتفاقية اعتمد بشكل أساسي على اتفاق الدول الكبرى معًا، قبل انسحاب الولايات المتحدة منها. أو قد تضطر إلى التفاوض مجددًا مع “ترامب” لإعادة إحياء الاتفاقية.
لكن في حالة خسارة “ترامب” للانتخابات فربما يعطي ذلك فرصة جديدة لإنجاح الاتفاقية والعمل الجماعي الدولي على تقليل الآثار الضارة من التغيرات المناخية والاحتباس الحراري.