تشارك اليابان المجتمع الدولي مخاوفه من السلوك الإيراني في الشرق الأوسط، كما تلتزم بالعقوبات المفروضة على إيران، بما في ذلك المفروضة على صادرات النفط الإيرانية. وحرصت اليابان على حث إيران على تصحيح سلوكها. وفي خطوة أكثر تقدمًا، بدأت اليابان جهودًا للوساطة لمحاولة حل الأزمة الإيرانية-الأمريكية. وهذه الوساطة تثير العديد من التساؤلات حول طبيعة المصالح والدوافع اليابانية، والتحديات التي يمكن أن تواجه هذه الوساطة، واحتمالات نجاحها. ويحاول هذا التقرير الإجابة على هذه التساؤلات.
المصالح اليابانية
تميل اليابان إلى عدم تفضيل عزل إيران، استنادًا إلى أن هذه السياسة سوف تساهم في اتخاذ إيران منحى أكثر تشددًا، على نحو يزيد من حالة عدم الاستقرار في المنطقة. في هذا السياق، أعربت اليابان عن أسفها لصدور قرار الكونجرس الأمريكي بخصوص العقوبات على إيران في عام 2019.
هناك مجموعة من المصالح اليابانية تساهم في تفسير جهودها للوساطة اليابانية بين واشنطن وطهران. من ناحية، ترغب اليابان في تعزيز دورها الدولي والإقليمي، ذلك أن نجاح هذه الوساطة في أزمة تضم قوة عظمى (الولايات المتحدة)، وأخرى إقليمية (إيران)، سوف يُضاف إلى نجاحات الدبلوماسية اليابانية في ملفات أخرى. من ناحية أخرى، تسعى اليابان إلى الحصول على تمركز لقواتها في المنطقة، خاصة بعد تعرُّض ناقلتها التجارية “كوكوكا كاريدجس” لهجمات في الخليج العربي، ما دفعها إلى الإعلان عن خطة لإرسال أفراد من قوات الدفاع الذاتي لتأمين ملاحة السفن التجارية وخطوط نقل النفط في خليج عمان والجزء الشمالي من بحر العرب، ولموازنة الوجود البحري المتزايد للصين في محيط منطقة الخليج. وقد صدق مجلس الوزراء الياباني بالفعل على قرار إرسال مدمرة مزودة بطائرة هليكوبتر وطائرتي دوريات للتمركز في المياه الدولية في خليج عمان وبحر العرب وخليج عدن. ومن المقرر أن تبدأ القوات بالعمل في 20 يناير الجاري. وليس من المتوقع أن يؤثر هذا القرار الياباني سلبًا على العلاقات اليابانية-الإيرانية، وذلك في ضوء عدم إرسال القطع العسكرية اليابانية السابقة إلى مضيق هرمز. وتجدر الإشارة إلى أن هذه القوات لن تكون جزءًا من “المهمة” التي تقودها الولايات المتحدة في المنطقة التي تم الإعلان عنها بعد عدة هجمات وقعت خلال شهري مايو ويونيو 2019 على سفن تجارية دولية، بما في ذلك ناقلات سعودية، واحتجاز ناقلة بريطانية، حيث فضلت طوكيو العمل بشكل مستقل.
هذا الحرص الياباني على استبعاد مضيق هرمز من نطاق عمل قواتها المقرر إرسالها إلى المنطقة، ساهم في تفهم إيران لهذا القرار الياباني؛ فقد عبّر الرئيس الإيراني “حسن روحاني” عن ترحيبه بقرار اليابان عدم الانضمام إلى “المهمة البحرية” المقررة بقيادة الولايات المتحدة في الخليج. وقد جاء هذا التصريح عقب عودة “روحاني” من زيارة لطوكيو في 20 ديسمبر 2019.
ولا يمكن فهم القرار الياباني إرسال هذه القوات البحرية إلى المنطقة بمعزل عن أهمية تأمين تدفق الواردات اليابانية من النفط من منطقة الخليج، وهو ما يفسر حرص اليابان على علاقات متوازنة مع كل من دول الخليج العربي وإيران رغم الجهود الأمريكية لعزل الأخيرة منذ ثورة 1979. فقد حرصت اليابان على تبني سياسة مستقلة عن الولايات المتحدة تجاه إيران. وقد عبّر عن هذه الاستقلالية الاستثمارات النفطية اليابانية في إيران ودول الخليج، ورفض اليابان المستمر لقطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع إيران رغم الضغوط الأمريكية، بل إنها سعت إلى إنهاء العزلة الإيرانية بعد حرب الخليج الأولى في ثمانينيات القرن الماضي.
كذلك، أظهرت اليابان قلقها من انسحاب الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” من الاتفاق النووي مع إيران، وتأثير ذلك على واردات اليابان من النفط الإيراني التي تم استئنافها بعد توقيع الاتفاق النووي في 2015.
ولا تزال اليابان تعتمد بشكل كبير على المصادر الأجنبية للنفط والغاز، خاصة من الشرق الأوسط. وقبل فرض عقوبات مجلس الأمن على إيران في عام 2006، كانت اليابان تعتمد على إيران كأحد مصادر وارداتها النفطية. وكان من المقرر أن تستثمر في تطوير العديد من حقول النفط الإيرانية. وحتى في ظل سريان العقوبات الأممية على إيران، ظلت الواردات اليابانية من الخام الإيراني مرتفعة نسبيًا، لكن إدارة “أوباما” مارست ضغوطًا على حلفائها للامتثال للعقوبات المفروضة على إيران في عام 2012، مما أدى لانخفاض صادرات النفط الإيرانية إلى اليابان بأكثر من 60%. ومع سريان إجراءات الحظر أوقفت اليابان منذ شهر أكتوبر 2018 وارداتها النفطية من إيران.
ورغم أن اليابان يمكنها الاستغناء عن نسبة من وارداتها النفطية من إيران، تحت الضغوط الأمريكية، لكن أي صراع بالشرق الأوسط سيؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط مما سيؤثر سلبًا على الاقتصاد الياباني بشكل كبير، لكنها -في الوقت نفسه- تعمل على استغلال المصالح المتبادلة مع إيران التي تحاول إقناع الشركات اليابانية بالالتفاف حول العقوبات الأمريكية، من خلال تقديم خدمات تقنية للمصافي الإيرانية مقابل النفط، بما يعني عدم القيام بتحويل أموال لجهات إيرانية، أو شراء النفط الإيراني، والاحتفاظ به كمخزون استراتيجي دون استخدامه. لكن طهران تصطدم بعدم قبول الشركات اليابانية بهذه الصيغة التي تنطوي على خرق للعقوبات الأمريكية المفروضة عليها، خاصةً في ظل التنسيق الكامل بين الشركات اليابانية والحكومة اليابانية التي تظل الحليف الآسيوي الأهم للولايات المتحدة، حتى مع حرصها على اتخاذ مواقف مستقلة نسبيًّا فيما يتعلق بعلاقاتها مع إيران.
وقد تطرق “روحاني” أثناء زيارته لطوكيو في 20 ديسمبر 2019 لرغبة بلاده في استئناف اليابان استيراد النفط الإيراني، مع تفهم طهران لالتزام الشركات اليابانية ببنود العقوبات الأمريكية.
وبجانب المصالح النفطية اليابانية، تحرص اليابان على الاستثمار في ميناء تشابهار الإيراني، الذي يتمتع بوصول مباشر إلى المحيط الهندي، ومحاولة منافسة كل من الصين والهند في تطوير البنية التحتية الإيرانية.
الوساطة اليابانية بين التحيز والحياد
يرى البعض أن الوساطة اليابانية جاءت بناء على اقتراح من الرئيس “ترامب” نفسه أثناء زيارة “آبي” لواشنطن في 27 أبريل 2019، ويفسر ذلك قيام وزير الخارجية الإيراني “محمد جواد ظريف” بزيارة لليابان في الشهر التالي مباشرة. لكن بصرف النظر عما إذا كانت هذه الوساطة جاءت بطلب من الرئيس “ترامب” من عدمه، فإنها حظيت بموافقة ضمنية من الولايات المتحدة، وهو ما عبر عنه تصريح “ترامب” في مايو بأنه سيدعم جهود “شينزو آبي” للعمل كوسيط بين الولايات المتحدة وإيران، وذلك خلال مؤتمر صحفي قبل زيارته لليابان، مؤكدًا إمكانية أن تقود العلاقات الجيدة بين طوكيو وطهران للتوصل لنتائج جيدة. هذا الموقف الأمريكي الداعم لجهود الوساطة اليابانية مهد الطريق لتبادل الزيارات الرسمية عالية المستوى بين اليابان وإيران.
وقد حظيت الوساطة اليابانية بقدر كبير من القبول والترحيب من جانب طهران على خلفية العلاقات الجيدة بين البلدين، بالإضافة إلى أن هذه الوساطة تأتي من خارج الأطراف المباشرة في الاتفاق النووي، مما قد يعطي طهران هامشًا أكبر من الحرية في الدخول في مفاوضات ومناقشة نقاط الخلاف مع الولايات المتحدة. ووفقًا لبعض التحليلات، فإن طهران قد تعتبر طوكيو الأكثر حيادية بين حلفاء الولايات المتحدة.
وسبق أن سعت دول أخرى -من بينها العراق وسلطنة عمان وسويسرا وفرنسا- للتوسط بين واشنطن وطهران، لكن هناك ظروفًا ساعدت اليابان على الظهور كوسيط جيد في ظل درجة تفاهمها مع واشنطن، وعلاقاتها الإيجابية مع الشرق الأوسط.
في هذا السياق، جاءت زيارة “آبي” إلى طهران في 12 يونيو 2019 بعد زيارة له إلى الولايات المتحدة، بهدف مُعلن هو مناقشة الخلافات حول البرنامج النووي الإيراني وتصاعد التوترات في المنطقة بسبب التدخل الإيراني في العديد من الملفات وتخفيف التوترات بين واشنطن وطهران. لكن كانت هناك توقعات بألا تستطيع طوكيو إحداث تحول كبير في مسار الأزمة. وذهبت توقعات أخرى إلى رغبة “آبي” في تعزيز صورته الشعبية قبل الانتخابات العامة في بلاده، خاصة في ظل احتفال البلدين بمرور 90 عامًا على إقامة علاقاتهما الدبلوماسية. لكن الدلالة الأهم هي أن الزيارة جاءت بعد وقت قصير من زيارة “ترامب” لطوكيو، وهذا ما قد يوضح أن طوكيو لن تستطيع لعب دور الوسيط المحايد في الأزمة، لأنه لن يكون من المستغرب التزامها بالعقوبات الأمريكية حتى لو عبّرت عن امتعاضها من الانسحاب الأمريكي من الاتفاق.
وفي ديسمبر 2019، أبدت الولايات المتحدة موافقتها على استقبال اليابان للرئيس الإيراني، وأشارت بعض التحليلات إلى أن هذه الزيارة ربما كانت إحدى وسائل “روحاني” للضغط على الولايات المتحدة وحلفائها كي تكون واشنطن -على الأقل رسميًا- أول من يقترح إجراء مفاوضات مباشرة والدعوة إلى محادثات دون شروط مسبقة، والحفاظ على الاتفاق من الانهيار التام.
مستقبل الوساطة اليابانية في ظل حالة التصعيد بين الجانبين
يبدو أن اليابان في موقف صعب يجعلها بحاجة للبحث عن مسار حذر في المستقبل، خاصة أن الأمر بين إيران والولايات المتحدة حاليًا لم يعد مقصورًا على القضية النووية بعد اغتيال “قاسمي” واقتحام السفارة الأمريكية في بغداد على يد مدعومين من طهران في 31 ديسمبر 2019. من ناحية أخرى، تتخوف اليابان من نفوذ منافسيها، خاصة الصين وروسيا، فقد أعلنت طهران في ديسمبر أيضًا انطلاق مناورات “حزام الأمن البحري” مع كل من روسيا والصين في شمال المحيط الهندي وخليج عمان، والتي كانت وسيلة لكسر العزلة التي تعمل الولايات المتحدة على فرضها، إضافة إلى استفزاز واشنطن.
ويعتمد نجاح اليابان في جهود الوساطة على عامل رئيسي هو مدى استعداد كل من الولايات المتحدة وإيران لتسوية الأزمة القائمة. لأنه لن يكون سهلًا في ظل حالة تأهب كلا الطرفين. إذ تحاول الولايات المتحدة إيجاد مبرر قوي لضرب طهران، وقد يظهر هذا في انتظار الرد على مقتل “سليماني” كي يكون السلوك الأمريكي مُبرَّرًا، كما أن ضربها سيكون وسيلة “ترامب” للاستمرار في البيت الأبيض وإغلاق ملف عزله من الكونجرس. حدوث أزمة في البترول لن يؤثر على واشنطن بحد ذاتها، وإنما على حلفائها، لذا تظهر اليابان بجهودها المنفردة إما الأمنية لتأمين مصالحها، أو على الجانب الدبلوماسي الخاص بالوساطة بين الجانبين.
خلاصة القول، التحرك الياباني في المنطقة، على خلفية الأزمة الإيرانية الأمريكية، يرجع إلى مصالح يابانية عديدة، تتعلق بالحاجة إلى تأمين مواردها النفطية عبر بناء علاقات ودية بدول المنطقة، بل وعبر الوجود المباشر لقوات الدفاع الذاتي اليابانية. أضف إلى ذلك حاجتها إلى تعزيز فرص الاستثمار في بعض الموانئ الخليجية، خاصة الموانئ السعودية.