شكّلت زيارات رئيس الوزراء السوداني “عبدالله حمدوك” إلى عدد من مناطق النزاع المسلح التي تسيطر عليها الحركات المُسلحة، نقلة نوعية في منهجية تعامل الدولة السودانية مع تلك المناطق والجماعات المختلفة المتواجدة بها، الأمر الذي يُدلل على أن ثمة نهجًا مغايرًا تمامًا لما كان عليه الوضع إبان حكم “البشير”، خاصة في تلك المناطق ذات الطبيعة الخاصة.
وتُعاني دولة السودان من تعدد مناطق التوتر والصراع المُسلح بين عدد من المجموعات المسلحة وبين المؤسسات العسكرية الرسمية داخل الدولة السودانية، ولعل أبرز تلك المناطق إقليم دارفور الذي تنتشر فيه حركات مسلحة عديدة في مقدمتها “حركة تحرير السودان” التي تشكلت عام 2001 على يد “عبدالواحد نور” من خلال تحالف عدد من أبناء قبيلة الفور والزغاوة، وانتهجت العمل المُسلح منذ عام 2003، علاوة على انتشار حركة “العدل والمساواة” التي تأسست على يد “خليل إبراهيم” عام 2001 قبل أن يتم اغتياله عام 2011 ليخلفه في قيادتها شقيقه “جبريل إبراهيم”. وتأتي منطقتا جنوب كردفان والنيل الأزرق من بين المناطق التي تشهد انتشارًا لعدد من الحركات المُسلحة، أبرزها “الحركة الشعبية لتحرير السودان” التي لا تزال تمثل اللاعب الأهم على الرغم من تشتتها بين أجنحة متعددة بقيادة “عبدالعزيز الحلو” و”مالك عقار”.
زيارة “حمدوك” للفاشر وكاودا
دخلت الحكومة الانتقالية في السودان منذ تشكيلها في مفاوضات متعددة مع الحركات المُسلحة المختلفة في المناطق التي تعاني من نزاعات مُسلحة، وذلك استجابة لأحد مطالب الحراك السوداني المتمثل في تحقيق السلام العادل والشامل، وتنفيذًا لأهم بنود التوافق السياسي الذي جسّدته الوثيقة الدستورية التي تم التوقيع عليها في السابع عشر من أغسطس 2019.
وعلى الرغم من تعدد جلسات التفاوض بين ممثلي السلطة الانتقالية السودانية والحركات المسلحة في جوبا عاصمة جنوب السودان؛ إلا أن زيارة رئيس مجلس الوزراء “عبدالله حمدوك” للأقاليم التي تشهد نشاطًا للحركات المسلحة تُمثل نقطة تحول مهمة. وقد تجسّدت أولى تلك الزيارات في زيارة “حمدوك” لمدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، في الرابع من نوفمبر الماضي. ويعود اختيار دارفور لما تُمثله من أهمية استراتيجية وأمنية للدولة السودانية، فضلًا عن كونها أكثر المناطق تأثرًا بالنزاع المُسلح الذي بدأ في عام 2003 على خلفية سياسات التهميش التي اتّبعتها إدارة الرئيس السابق “عمر البشير”، والتي أدت إلى سقوط آلاف الضحايا ونزوح مئات الآلاف من سكان الإقليم.
كما كانت مدينة كاودا بولاية جنوب كردفان ثاني وجهات “حمدوك”، والتي تقع تحت سيطرة الحركة الشعبية/ قطاع الشمال بقيادة “عبدالعزيز الحلو”. وتُعد زيارة “حمدوك” هي الأولى من نوعها لمسئول حكومي منذ نحو عشر سنوات عقب اندلاع الصراع بالولاية في عام 2011، ليُدلل على رغبة السودان في طيّ صفحات الماضي، والتعامل مع تلك الحركات بمنطق الاحتواء في بنية الدولة الجديدة.
واتصالًا بتحقيق تلك الاستراتيجية، من المقرر أن يقوم رئيس الوزراء السوداني بزيارة مدينة الدمازين بولاية النيل الأزرق الواقعة جنوب شرق السودان، لتُشكل المحطة الثالثة للمناطق التي خاضت نزاعًا مُسلحًا مع السلطة المركزية في الخرطوم.
نهج حكومي جديد
اعتمد “حمدوك” على سياسات أكثر انفتاحًا على الحركات المسلحة، وَوَضَعَ السلام خيارًا استراتيجيًا، بعدما ساهمت سياسات “البشير” في تنامي تلك الحركات وانشطارها وتفاقم الفجوة بين الحكومة وهذه الحركات مما قوض من عملية السلام، ليتغير ذلك في ظل السودان الجديد، حيث بات هناك نهج تصالحي مع تلك الجماعات يُرسخ من قيمة وأولوية الحوار والمصالحة الوطنية، بعيدًا عن المواجهة المسلحة والتهميش.
ولعل مؤشرات ذلك النهج باتت تتشكل منذ الإعلان عن الوثيقة السياسية في أغسطس 2019، حيث تم تشكيل لجنة ثنائية بين الحكومة السودانية الجديدة وبين الجبهة الثورية -التي تضم حركات مسلحة- في أكتوبر 2019، لتجسد أداة قوية نحو ترسيخ السلام، وإطلاق المفاوضات الجدية لوضع خارطة طريق لعلاج المشكلات التي تواجه مناطق النزاع. واتصالًا بذلك، تم تشكيل “مفوضية السلام” و”المجلس الأعلى للسلام” في أكتوبر، وذلك للعمل على معالجة قضايا السلام الشامل الواردة في الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية، والاضطلاع بوضع السياسات العامة المرتبطة بمخاطبة جذور المشكلة ومعالجة آثارها للوصول إلى تحقيق السلام العادل، وهو إجراء الهدف منه إثبات صدق نوايا الحكومة الانتقالية في المعالجة الجذرية لتلك المسألة.
على هذا النحو، تعكس زيارات رئيس الوزراء لمناطق الصراع رغبة حقيقية في تنفيذ الوعد السياسي الذي قطعه “عبدالله حمدوك” رئيس الحكومة الانتقالية والمجلس السيادي في إطار الوثيقة السياسية التي تم إصدارها على خلفية الحراك الشعبي الذي أسقط نظام الرئيس “عمر البشير”، والتي ترمي إلى تحقيق السلام الشامل والعادل بين كافة الأطياف في السودان.
أهداف متعددة
إن المتأمل لسياسة “حمدوك” الداخلية، خاصة فيما يتعلق بملف الجماعات المسلحة وضرورة انتهاج آلية أكثر انفتاحًا على مناطق النزاع المسلح، يلاحظ عددًا من الأهداف الكامنة وراء ذلك، نورد أهمها فيما يلي:
1- رغبة مؤسسات الحكم الانتقالي في احتواء الحركات المسلحة في إطار ترتيبات الحكم الجديدة بما يُعزز من فرص السلام والاستقرار في البلاد، وذلك انطلاقًا من استراتيجية تطويق وتفكيك الميليشيات شبه العسكرية، لما تُشكله من خطر يهدد أمن السودان، وبما يساهم في نهاية الأمر في عودة هيبة الدولة واحتكارها لمصادر القوة. وتحقيقًا لهذا الهدف فقد تم تشكيل لجنة تُعرف باسم “لجنة جمع السلاح” والتي تتحرك في الوقت الراهن لمخاطبة الاتحاد الإفريقي والمنظمات المعنية بشأن تنفيذ خطة عملية لجمع السلاح من أيدي كافة الأطراف غير الرسمية.
2- التحول من سياسات التهميش والإقصاء إلى الاحتواء والمشاركة تحت شعار “وطن واحد للجميع”، بما يعتبر في نهاية الأمر محطة مهمة من أجل تحقيق السلام والاستقرار في البلاد، وهو ما من شأنه أن يمثل ركيزة للسياسات الجديدة التي تتبناها الحكومة الانتقالية السودانية المتعلقة بإدارة التنوع في البلاد.
3- القضاء على البيئة الخصبة المساعِدة على ظهور وتمدد العناصر والتنظيمات الإرهابية، كما هو الحال بالنسبة لدول الجوار للسودان التي تشهد تمركزًا للجماعات المتطرفة التي اتخذت من التصدعات الداخلية بيئة لها للتغلغل داخل تلك المجتمعات.
4- الترويج لسياسة الانفتاح التي تتبعها حكومة السودان الجديدة وتخلق مناخًا وحراكًا دوليًّا داعمًا للسودان، بما يساهم في مجمله في دعم السودان سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا.
متغيرات داعمة
على الرغم من أهمية زيارات رئيس الوزراء السوداني لمناطق الصراع، إلا أن هذا الإجراء لم يكن ليتم من غير الاستفادة من عددٍ من المتغيرات الداعمة والتي تمثلت في:
1- الدعم الكبير من دول جوار السودان لعملية السلام، خاصة ما تقوم به دولة جنوب السودان من دور مهم في استضافة مباحثات السلام، علاوة على انخراط دول الترويكا (الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا، النرويج) كمراقبين للمفاوضات الجارية بين الحكومة السودانية والحركات المُسلحة السودانية.
2- الدعم الدولي الواضح لمسار السلام في السودان، والذي عكسه استقبال كل من السفير البريطاني لدى دولة جنوب السودان والقائم بالأعمال الفرنسي في جوبا لرئيس حركة العدل والمساواة السودانية، وهو ما مثل نقطة هامة أكدت انخراط المجتمع الدولي والإقليمي في دفع العملية السياسية والمصالحة البينية بين الحكومة السودانية والحركات المُسلحة لطي سجلات الخلاف المتعددة.
3- حالة الانفتاح التي أبدتها الحكومة السودانية تجاه المطالب الإنسانية لسكان مناطق الصراع، من خلال السماح لعدد كبير من المنظمات الإنسانية الدولية (21 منظمة إنسانية تابعة للأمم المتحدة، بجانب 104 منظمات أجنبية) باستئناف أعمالها في كل المناطق التي تقع تحت سيطرة حركات الكفاح المُسلح، الأمر الذي يدعم جهود السلام نظرًا لما تقدمه تلك المنظمات من خدمات مختلفة تساعد في سد الاحتياجات الأساسية وتقديم الخدمات المختلفة لسكان تلك المناطق.
تداعيات متباينة
نتيجة لتلك السياسات الجديدة التي تبنتها مؤسسات الحكم الانتقالي السودانية في التعامل مع مناطق النزاع والمتغيرات الداعمة من الجوار الإقليمي والمحيط الدولي، بدأت العديد من التداعيات الإيجابية لهذه السياسات في الظهور. وأبرز هذه التداعيات إشادة دول الترويكا السابق الإشارة إليها بزيارة “حمدوك” لولاية جنوب كردفان، وهو الأمر الذي ربما يدفع في مسار رفع السودان من قوائم الإرهاب الأمريكية.
كذلك ساهمت السياسات الجديدة في التخفيف من الضغط على الحكومة السودانية تجاه مطالب هذه الحركات، وذلك من خلال فتح مسارات وصول المساعدات الإنسانية إليها، وتجلى ذلك في عودة المساعدات الأمريكية عبر برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، والمتمثل بنحو 102 مليون دولار، عقب تمكن المدير التنفيذي لبرنامج الغذاء العالمي من دخول منطقة كاودا بولاية جنوب كردفان بعد انقطاع دام أكثر من ثمانية أعوام.
علاوة على ذلك، فإن أحد مخرجات الانفتاح الحكومي على الحركات المُسلحة قد تمثل في نجاح الحكومة السودانية في تحقيق اختراق نسبي لمسارات المفاوضات المعقدة، خاصة مع الحركات المسلحة في منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، حيث تم توقيع اتفاق إطاري شامل حول منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية/ شمال بقيادة “مالك عقار”، وذلك في الرابع والعشرين من يناير من عام 2020.
ختامًا؛ يمكن القول إن تحقيق السلام مع الفصائل والحركات المسلحة يُعد أحد أهم الأهداف التي تسعى الحكومة السودانية الانتقالية لتحقيقها، كما يعد أحد أبرز الملفات على طاولة حكومة “حمدوك” لتحقيق الاستقرار الداخلي، وبدء صفحات جديدة مع كافة الأطياف السياسية السودانية. وفي هذا الشأن، تأتي التحركات السودانية الأخيرة نحو إقرار المصالحة والسلام، وما تبعها من تحركات دولية داعمة لها لتدلل على حرص المجتمع الدولي على دعم الحكومة الانتقالية لعبور هذه المرحلة الحرجة، وإعادة دمج وانخراط السودان مرة أخرى على الصعيدين الإقليمي والدولي.