عادت إدلب مجددًا إلى صدارة الاهتمام العالمي، وذلك في ظل استمرار الحملة العسكرية من قبل النظام السوري على مناطق إدلب وريف حلب الغربي والجنوب الغربي، وريف اللاذقية الشمالي، وهي الحملة التي تُوِّجت مؤخرًا بسيطرة النظام على ما يزيد عن 600 كم2، علاوة على نجاحه في إعادة بسط هيمنته بشكل كامل على طول طريق حلب – دمشق الدولي المعروف باسم M5.
وقد مثّلت إدلب إحدى القضايا المحورية خلال الأعوام الأخيرة من الأزمة السورية. وتأتي أهمية إدلب كونها آخر معقل للمعارضة المسلحة. ووفقًا للنظام السوري، فإن استعادة إدلب تقع على قمة أولوياته العسكرية. وتقع منطقة إدلب ضمن مناطق خفض التصعيد المتفق عليها منذ اجتماعات أستانة- 4، لكن مع تمدد نشاط هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا) -المصنّفة دوليًّا تنظيمًا إرهابيًّا- بالمحافظة تنامى الحديث حينها من جانب روسيا عن أهمية الحل العسكري بإدلب، وهو ما دفع تركيا إلى تقديم تعهدات خلال اجتماعات أستانة-9 بالعمل على حل “هيئة تحرير الشام” تفاديًا للحل العسكري. لكن لم تنجح تركيا في تنفيذ تعهدها، الأمر الذي أدى إلى تصاعد التجاذبات والمشادات بين سوريا وتركيا. فقد شهدت تلك المرحلة استعدادات وتعبئة عسكرية سورية على حدود المحافظة استعدادًا لحملة برية مرتقبة.
في المقابل، رفعت تركيا من جاهزيتها وجاهزية الفصائل الموالية لها خاصة، وصاحب ذلك تحذيرات دولية وأممية مما قد تُخلفه المعركة المرتقبة من كارثة إنسانية وعمليات نزوح غير مسبوقة. لكن ما لبثت أن هدأت التجاذبات مرة أخرى، وذلك بعد توقيع الضامنين التركي والروسي اتفاق سوتشي في سبتمبر 2018 والذي تضمن إنشاء منطقة منزوعة السلاح في محافظة إدلب، وتأكيد “أردوغان” توليه مهمة إخراج المتطرفين من المنطقة منزوعة السلاح، وبالتالي تجنيب إدلب الحرب.
وبرزت إدلب مجددًا بعد تمكّن تنظيم “هيئة تحرير الشام” من بسط سيطرته العسكرية والإدارية على مناطق في محافظات إدلب وغرب حلب وشمال حماة في يناير 2019، وهو ما دفع وزير الخارجية الروسي “سيرغي لافروف” إلى التأكيد على أن وجود تنظيم “جبهة النصرة” في محافظة إدلب لا يتوافق مع اتفاقات موسكو وأنقرة “بشأن حل مشكلة الأمن في هذه المنطقة”. وأعقب ذلك تصريح من نائب وزير الخارجية “سيرغي فيرشينين” في فبراير 2019، أشار فيه إلى إمكانية اللجوء إلى العمل العسكري في إدلب، وأن هذا العمل “سيكون منظّمًا بشكل فعال إذا تم”. ومنذ أبريل 2019، بدأ النظام السوري، وبمعاونة روسيا، في توجيه ضربات بين حين وآخر على مواقع شمال حماة وجنوب إدلب، استطاع من خلالها النجاح بشكل تدريجي في إعادة السيطرة على عدد من المواقع الاستراتيجية.
وبشكل عام، هناك العديد من أوجه الشبه بين الوضع الراهن في إدلب مع السياق السابق على اتفاق سوتشي 2018، حيث استمرار تهديد هيئة تحرير الشام، وإصرار النظام على الحل العسكري بمعاونة حليفه الروسي، واستمرار التحذيرات الدولية المندِّدة بتداعيات المعركة، وما قد تخلفه من أزمة نزوح ولاجئين. لكن تظل هناك في الوقت ذاته العديد من التحولات التي تحمل دلالات مهمة على الصعيد المحلي وعلى صعيد الأطراف الدولية الرئيسية في الأزمة.
التحول الأول، يتعلق بما حققه الجيش السوري من إعادة سيطرة على مواقع غاب عنها طيلة تسع سنوات. فقد اكتفى النظام خلال المرحلة السابقة (أغسطس – سبتمبر 2018) بتوجيه بعض الضربات بين حين وآخر، ولكن دون الاستمرار أو اكتساب مواقع استراتيجية جديدة. واستطاع النظام منذ بداية ضرباته العسكرية التقدم تدريجيًّا بمناطق المعارضة. ففي أغسطس 2019 نجح النظام في استعادة السيطرة على مدينة خان شيخون الاستراتيجية، والتمدد إلى ريف حماة الشمالي المحاذي لإدلب والمؤدي إلى مناطق سيطرة النظام. ومنذ ديسمبر 2019، بدأت قوات النظام -بدعم روسي- هجومًا عسكريًا واسعًا في مناطق ريف إدلب الجنوبي والجنوبي الشرقي وريف حلب الجنوبي الغربي، حيث يمر الطريق الدولي M5 الذي يصل مدينة حلب (العاصمة الاقتصادية) بالعاصمة دمشق، ويعبر مدنًا رئيسية عدة من حماة وحمص وصولًا إلى الحدود الجنوبية مع الأردن.
وتأتي أهمية الطريق من كونه الطريق الأساسي للاستيراد والتصدير، فضلًا عن ربطه أبرز مدن سوريا بعضها ببعض. كما أنه الطريق الأطول في سوريا، حيث يبلغ طوله نحو 432 كم. ومع ما تحقق من سيطرة بشكل كامل على الطريق، أشارت العديد من التحليلات إلى أن النظام سيتمكن من رفع معدلات عمليات التبادل التجاري اليومي بما يُسهم في عملية إعادة الإعمار والاستثمار، علاوة على أن حجم التعامل التجاري بين سوريا والأردن سيزيد بعد فتح هذا الطريق، خاصةً أن المعبر الحدودي مع الأردن قد فُتح في منتصف أكتوبر 2019، كما سيكون بإمكان الصادرات السورية وحركة الترانزيت الوصول لأسواق مصر وغيرها مثلًا بكميات أكبر وتكلفة أقل من كلفة الشحن الجوي والبحري.
التحول الثاني، هو درجة الاستجابة التركية إزاء تحركات النظام العسكرية؛ فقد اكتفت تركيا مع اقتراب هجوم النظام السوري على إدلب عام 2018 بتعزيز مواقعها العسكرية داخل المحافظة ونقاط مراقبتها، ترافق ذلك مع تحذير الرئيس التركي بشأن ما سيخلفه الهجوم من تشريدٍ لمئات الآلاف من المدنيين، والتهديد بالرد العسكري التركي في حال تعرضت قواتها للقصف. أما حاليًّا، ومع تصاعد الضربات السورية ومحاصرة سوريا لثماني نقاط مراقبة تركية خلال عمليتها العسكرية، اتجهت تركيا إلى إنشاء تمركزات عسكرية جديدة، كان أبرزها بمناطق مطار تفتناز العسكري، ومعسكر “طلائع البعث”، وتل قميناس غرب مدينة إدلب، والفوج 46 بريف حلب الغربي. وبحسب “المرصد السوري”، فخلال الفترة الممتدة من الثاني من فبراير وحتى العاشر من الشهر نفسه، وصلت أكثر من 1450 شاحنة وآلية عسكرية تركية إلى الأراضي السورية، ضمت دبابات وناقلات جند ومدرعات و”كبائن حراسة” متنقلة مضادة للرصاص ورادارات عسكرية، فيما بلغ عدد الجنود الأتراك الذين انتشروا في إدلب وحلب خلال تلك الفترة نحو 6000 جندي تركي.
التحول الثالث، يتعلق بتراجع حجم التنسيق التركي – الروسي؛ فقد شهدت المرحلة الأولى من الصراع تنسيقًا بين تركيا وروسيا أكبر من حجم التنسيق الحالي. فخلال المرحلة الأولى كان التعاون وثيقًا بين الدول الضامنة الثلاث (تركيا، روسيا، إيران) بشأن الأزمة السورية، سعى الأطراف حينها إلى التأكيد على محورية ما يمارسونه من دور بالأزمة في اتجاه التسوية، وتصوير الأستانة باعتبارها بديلًا عن مسار جنيف الأممي المدعوم من الولايات المتحدة. في ذلك الحين، كانت تركيا في مواجهة مع الولايات المتحدة على خلفية قضية القس الأمريكي، وشرائها منظومة الدفاع الصاروخي S-400، وهو ما أدى إلى تزايد التقارب الروسي – التركي في المقابل. فعلى الرغم من اختلاف رؤية البلدين بشأن الأزمة السورية وتصاعد حدة التصريحات والتعزيزات العسكرية، إلا أن الطرفين في النهاية عملا على تمهيد الأرضية المشتركة للتعاون بخصوص الأزمة. في هذا الإطار جاء توقيع البلدين على اتفاق سوتشي والتعهد التركي بحل هيئة تحرير الشام.
وخلال المرحلة الحالية يدور الحديث حول وجود شقاق روسي تركي بسوريا. الشاهد الأول على هذا الشقاق هو فشل المفاوضات التي عُقدت بأنقرة في التوصل إلى اتفاق؛ فبحسب ما تم تداوله من جانب المعارضة السورية، تقدمت موسكو بخارطة جديدة لمنطقة خفض التصعيد تمتد من الحدود التركية السورية حتى عمق 30 كلم، إلى جانب الإصرار على استكمال العمليات العسكرية إلى حين السيطرة على كامل الطريقين الدوليين “حلب – اللاذقية” و”حلب – دمشق”، مع الاحتفاظ بجميع المناطق التي دخلتها قوات النظام على جانبي الطريقين. في المقابل، رفضت أنقرة العرض الروسي، وأصرت على الالتزام بمخرجات اتفاق سوتشي، مع التأكيد على ضرورة انسحاب قوات النظام إلى ما وراء النقاط التركية التي حددتها المعاهدة. يُضاف إلى ذلك عدم وجود أي مؤشر لاجتماع مقبل بين الرئيسيين التركي والروسي كما كان معهودًا خلال مراحل احتدام الأزمة بين الطرفين في سوريا. الشاهد الثاني يتمثل في رفض الجانب التركي مرتين مشاركة الشرطة العسكرية الروسية في إجراء دوريات مشتركة بمنطقة شرق الفرات. وأخيرًا، كانت تصريحات الرئيس التركي خلال زيارته لأوكرانيا شاهدًا آخر على اتساع هوة الخلاف بين الجانبين، وذلك حين أطلق عبارة “المجد لأوكرانيا” وهي العبارة التي لها موروث تاريخي معادٍ للروس، علاوة على إعلانه أن بلاده لم ولن تعترف بـ”ضم” روسيا لشبه جزيرة القرم.
التحول الرابع، يتعلق بموقف التنظيمات المسلحة من الهجوم على إدلب. خلال المرحلة السابقة، اعتُبرت هيئة تحرير الشام بمثابة الرقم الأهم بين جماعات المعارضة في إدلب؛ نظرًا لما حققته من تفوق عسكري بمنطقة الشمال الغربي السوري خلال عام 2017، وما أعقب ذلك من تحقيق نفوذ سياسي دفعها نحو تثبيت وجودها، من خلال تقديمها خدمات أساسية كالتعليم والرعاية الصحية والكهرباء والماء، فضلًا عن قيام الهيئة بهيكلة مكتب سياسي تابع لها يتولى إجراء اتصالات مع حكومات أجنبية. وبالرغم من ذلك، كان الوضع في إدلب غير موالٍ للهيئة بشكل كامل نتيجة طريقتها التي هيمنت بها على حساب جماعات معارضة محلية أكثر شعبية بما أضعف من نفوذها ومن قدرتها على التأثير. وبالرغم من ذلك فإن جماعات المعارضة قد اتفقت حينها أنه في حال حدوث هجوم على إدلب، سيتم تشكيل غرفة عمليات واحدة مختصة بمهمة الدفاع الجماعي، تتحد فيها جهود جبهة التحرير الوطني، وجيش تحرير سوريا وهيئة تحرير الشام وعدد من الجماعات الموالية للقاعدة. كما برزت على الساحة الإعلامية حينها تصريحات من المعارضة أكدت استعدادها الكامل للمواجهة.
لكن خلال المرحلة الحالية، وبعد تحقق السيطرة الكاملة للهيئة على المحافظة، لم تصدر أي ترتيبات مشابهة للوضع السابق ذكره، وتتحدث التقارير حول تنفيذ ضربات عسكرية تركية، أو قيام المعارضة السورية المسلحة -دون تفصيلات- بشنّ هجماتها بدعم تركي.
التغير الخامس يتعلق بالدور الإيراني؛ فبينما انصرف هذا الدور خلال المرحلة السابقة إلى التأكيد على ضرورة محاربة الإرهاب، بما يتضمنه ذلك من محاربة هيئة تحرير الشام باعتبارها منظمة إرهابية، تسعى طهران من تحركها الحالي إلى التواجد مجددًا كفاعل دولي مؤثر بمسار الأزمة السورية، خاصةً بعد ما تعرضت له مؤخرًا من ضغوط اقتصادية وشعبية كان لها الأثر في تراجعها في المشهد الإقليمي. في هذا السياق، أعلن وزير الخارجية الإيراني “جواد ظريف” الوساطة بين تركيا وسوريا من أجل حل المشاكل العالقة بينهما بناء على القوانين الدولية. كما أكد “ظريف” أن السبيل الوحيد للحفاظ على أمن تركيا هو نشر القوات العسكرية على المناطق الحدودية مع سوريا، لكنه أكد أيضًا أنه لا يمكن تحقيق الأمن في تركيا عن طريق استهداف وحدة وسيادة الأراضي السورية.
وأخيرًا، تبرز الضربات الإسرائيلية على دمشق باعتبارها موضعًا آخر للاختلاف؛ فقبل إجراء النظام السوري استعداداته العسكرية، تحدثت تقارير صحفية في مايو 2018 عن تنسيق أمني روسي إسرائيلي بمنطقة الجنوب السوري، حيث يتم السماح للجيش السوري بإعادة السيطرة على جنوب سوريا حتى الحدود مع إسرائيل، ولن يُسمح لإيران وحزب الله بالمشاركة في هذه العملية. أعقب ذلك إعلان موسكو في الأول من أغسطس 2018 عن سحب القوات الإيرانية أسلحتها الثقيلة في سوريا إلى مسافة 85 كيلومترا من هضبة الجولان.
أما في المرحلة الحالية، فقد تغيرت طبيعة الدور الإسرائيلي. على سبيل المثال، قامت إسرائيل في السادس من فبراير الماضي بشن قصف صاروخي على مواقع لقوات النظام و”الميليشيات” الإيرانية، وهو ما تزامن مع دخول رتل عسكري تركي داخل سوريا، في دلالة على وجود تنسيق أمني تركي إسرائيلي.
ومن المرجّح استمرار المعارك والقصف المتبادل في شمال إدلب وجنوبها بهدف تطويق النظام لطريق “حلب- دمشق M5″، وإعادة بسط هيمنته بشكل كامل على طريق “حلب- اللاذقية M4”. وقد تبرز في هذا الإطار محاولات تركية روسية للوصول إلى نوع من التفاهمات، لكن لن يتم الوصول إلى مثل هذه التفاهمات أو الاتفاقات إلا من خلال اجتماع الرئيسين الروسي والتركي.
قد يكون هدف النظام الحالي هو السيطرة فقط على الطريقين الدوليين، وتحقيق هزيمة كبرى لتركيا وفصائلها الموالية بالمعارضة، لكن إذا ما تحقق هدف النظام فقد تكون تلك المعارك مجرد بداية لطموح وتحرك أوسع يشمل استعادة محافظة إدلب بالكامل، ومن ثم التوجه التدريجي نحو مناطق السيطرة التركية بالشمال، لكن حينها قد يكون للولايات المتحدة رؤية أخرى معرقلة لهذا الطموح.
إجمالًا، يمكن القول إن ساحة إدلب بشكل خاص، والساحة السورية بشكل عام، تظل مجالًا لقياس تفاعلات وتوافقات القوى الدولية والإقليمية، بغض النظر عن مدى تضرر البعد الإنساني جراء تلك التفاعلات. فقد أعلنت الأمم المتحدة نزوح نحو 700 ألف شخص جراء التصعيد العسكري في شمال غرب سوريا.