على الرغم من موقع مصر الجغرافي وسواحلها الطويلة، إلا أن الأسطول التجاري المصري لا يزال صغير الحجم، وغير متناسب بالمرة مع القدرات الكامنة. إذ يبلغ عدد السفن التجارية في العالم حاليًّا 51648 سفينة، لا تملك مصر منها -وفق إحصاءات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية- سوى 230 سفينة، ولا يرفع العلم المصري من جملة هذا الأسطول وفق المعلومات الرسمية سوى 117 سفينة، تمتلكها 18 شركة وطنية أغلبها من شركات القطاع العام، فيما ترفع باقي السفن أعلام دول أجنبية متعددة، كما هو موضح بالشكل رقم (1).
صغر حجم الأسطول التجاري المصري تؤكده إحصاءات الهيئة المصرية لسلامة الملاحة البحرية، والتي تشير إلى أن أقل من 40% من إجمالي وحدات الأسطول التجاري الرافعة للعلم الوطني تستطيع العمل على الخطوط الدولية، فيما لا يُتاح لباقي السفن سوى العمل على الخطوط الساحلية. وقد سجلت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء انخفاضًا ملحوظًا في إجمالي عدد السفن التجارية الرافعة للعلم الوطني خلال الفترة (2008 – 2018) بنسبة تفوق 31%، لتصل إلى العدد الحالي وهو 117 سفينة، لا يزيد عدد السفن العاملة منها عن 51 سفينة، والباقي معطل لأسباب متعددة، أبرزها التقادم. إذ إن 60% من السفن الـ117 بشقيها الدولي والساحلي يفوق عمرها 15 عامًا. وقد انعكس كل ذلك على عدد العاملين في هذا القطاع الحيوي، إذ قدرت الإحصاءات الرسمية أن عدد العاملين في مجال النقل البحري لم يزد عن 6800 عامل في عام 2016.
المصدر: مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية
وبمقارنة حالة الأسطول التجاري المصري بالأساطيل التجارية التابعة لدول الجوار الإقليمي، فإن إحصاءات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية تبين أن الأسطول التجاري المصري يمثل 5% من إجمالي الأسطول التجاري لدولة اليونان، و80% من جملة الأسطول التجاري السعودي.
وتأتي تلك الأرقام المتواضعة على العكس من الطفرة التي تشهدها البلاد في ملف تطوير وتشييد الموانئ البحرية والبِنَى التحتية التابعة لها. فقد تمت، وما زال يجري، عمليات التطوير لعدد 12 ميناء تجاريًّا من أصل 15، هي إجمالي الموانئ التجارية الموزعة على القُطر المصري، لتسجل أربعة من بين تلك الموانئ الاثني عشر (وهي: الإسكندرية، والدخيلة، ودمياط، وشرق بورسعيد) تنفيذ مشروعات استثمارية تتجاوز 41 مليار جنيه في عام 2019.
لماذا تحتاج مصر لتطوير أسطولها البحري التجاري
مع بدايات الانتعاشة الاقتصادية، شهد التداول عبر الموانئ البحرية التجارية حالة من الرواج، فقد سجلت الموانئ خلال عام 2018 زيادة في كميات الصادرات والواردات تقدر بـ5.2%، بواقع 8.22 ملايين طن زيادة عن عام 2017. وقد استفادت الخطوط الملاحية الأجنبية من حركة الرواج تلك بشكل شبه كامل، فمن أصل 157.8 مليون طن تم تداولها بالموانئ المصرية في عام 2018، لم ينقل الأسطول المصري سوى 1.3 مليون طن، وفقًا لإحصائيات هيئة سلامة الملاحة البحرية.
الزيادة السريعة في التجارة الخارجية المصرية تجعل من الضروري دراسة احتياجات مصر الحالية والمستقبلية من وحدات الأسطول التجاري، وهو ما سيعود على الاقتصاد الوطني بالنفع في عدد من النقاط، أهمها الاستثمار في مجالات جديدة، وخلق فرص عمل، وتجنب هدر العملة الأجنبية المدفوعة لنقل الواردات والصادرات، بالإضافة إلى فتح الآفاق لمشاركة مصر في منظومة النقل العالمية في أعالي البحار، وتنمية حركة التجارة مع دول البحر المتوسط والدول العربية والإفريقية، ومواكبة النمو المستهدف لطاقة الموانئ المصرية حتى عام 2030، والتي من المُقدّر لها أن تنمو بنسبة 18% على أساس سنوي، لتصل إلى 420 مليون طن في نهاية السنوات العشر.
أبرز أنواع السفن التي تحتاجها مصر
تحتاج مصر حاليًّا إلى زيادة عدد أصناف محددة من السفن، أبرزها سفن البضائع العامة، وهي تلك السفن التي تتميز بإمكانية نقل شحنات متعددة الأنواع والأحجام على حسب الاحتياج، وذلك بسبب الزيادة الملفتة في إجمالي المنقول من البضائع عبر الموانئ التجارية المصرية، خاصة البضائع الصادرة من مصر إلى الخارج، والتي ارتفعت نسبتها بين عامي 2017 و2018 بحوالي 10%. وفي مقابل ذلك، لا تمتلك مصر سوى 12 سفينة بضائع عامة، تبلغ حمولاتها الساكنة 105 آلاف طن. فضلًا عن الاحتياج لتطوير أعداد وأنواع السفن العاملة في مجال نقل الحاويات، ففي العامين نفسهما (2017 – 2018) ارتفعت نسبة الحاويات المتداولة عبر الموانئ المصرية، سواء الصادرة أو الواردة، بنحو 470 ألف حاوية مكافئة، ويمثل نصيب الزيادة في الحاويات الصادرة وحدها أكثر من 40% من هذا الرقم.
كما يظهر احتياج مصر لامتلاك سفن متخصصة في منقولات الصب الساكن، ذلك النوع من السفن الذي يمكنه نقل البضائع غير القابلة للتغليف والتعبئة، مثل: المواد الخام من مستخرجات المناجم، أو محاصيل الحبوب الزراعية. ولعل أكبر حاجة للدولة المصرية من تملك تلك السفن تتركز حول توفير وتداول مخزونات المحاصيل الاستراتيجية من الحبوب، والتي بلغت حركة تداولها قرابة 17 مليون طن في عام 2016، وفق إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
كما أن الاكتشافات الكبيرة التي حققتها مصر خلال الأعوام الماضية في مجال الغاز، والتي وصلت بمعدل الإنتاج اليومي إلى 7.2 مليارات قدم مكعب يوميًّا في عام 2019، ويُتوقع أن تزيد إلى 8 مليارات قدم على أساس يومي في عام 2020، في ظل تحول مصر لتكون أكبر مركز لتسييل الغاز الطبيعي وتصديره في المنطقة؛ تُظهر أيضًا الحاجة إلى امتلاك أسطول مصري خاص بنقل الغاز المسال، خاصة مع وجود فائض تصديري متوقع خلال العام المالي الجاري يقرب من 14.15 مليون متر مكعب على أساس يومي قابل للزيادة.
وسائل إضافية تساهم في دعم الأسطول التجاري الوطني
حاجة مصر لامتلاك أسطول تجاري وطني تستدعي توفير البنية التحتية الداعمة له، وأهم عناصر تلك البنية هي تطوير وإنشاء الترسانات البحرية المتخصصة في بناء وصيانة السفن التجارية. وعلى الرغم من وجود ست ترسانات بحرية في مصر، أربع منها بإقليم قناة السويس واثنتان بميناء الإسكندرية؛ فإن هناك ترسانة واحدة فقط من بينها هي التي تُعتبر مؤهلة لبناء وصيانة السفن الكبيرة حتى حمولات 10 آلاف طن، وهذا يبين حاجتنا لتطوير الترسانات القائمة لكي يمكنها التعامل مع السفن ذات الحمولات الأكبر، كالسفن من حمولة 25 ألف طن التي تخطط الدولة حاليًّا لتملكها لدعم طاقة الأسطول الوطني.
وتستطيع الدولة اتخاذ عدد من الإجراءات الإدارية لتقديم حوافز وتسهيلات لدعم نقل البضائع من وإلى مصر عن طريق الأسطول البحري الوطني، حتى ولو كان ذلك كإجراءات مؤقتة إلى حين نضج صناعة النقل البحري الوطني، ومن ذلك تخفيض رسوم الموانئ ورسوم المساعدات الملاحية والمنائر ورسوم عبور قناة السويس لصالح السفن المصرية فقط، مع استحداث إجراءات لوضع البضائع المحملة على السفن المصرية في صدارة إجراءات الإفراج الجمركي مما يخفض الزمن الكلّي لعملية النقل، وبالتالي يعطي الأسطول المصري ميزة تنافسية.
إن مصر دولة بحرية عريقة عرفت منذ أقدم العصور الاتصال بالعالم الخارجي عن طريق الأساطيل التجارية، وكان السبب في ذلك ما منحه إياها الله من واجهة بحرية كبيرة تبلغ حوالي 3000كم. وقد زادت أهمية مصر البحرية على مر العصور لكونها حلقة الوصل التجاري بين آسيا وأوروبا، والتي تعززت مع حفر قناة السويس في أواخر القرن التاسع عشر، لذلك حريٌّ بدولتنا الآن أن تستغلّ كل تلك المقومات لكي تصبح لاعبًا أساسيًا في مجال النقل في أعالي البحار، خاصة أن الإرادة السياسية والمناخ الاقتصادي عاملان مساعدان لتنفيذ مثل هذا المشروع القومي.
باحث أول ببرنامج السياسات العامة