في وقت زادت فيه حدة التوتر على الساحة الداخلية في فرنسا، تحدث الرئيس “ماكرون” مع صحيفة “لو فيجارو” عن الإسلام والنظام العلماني في فرنسا، عقب أسبوعين صاخبين أعقبا الذكرى السنوية لمقتل صحفيين من الصحيفة الساخرة “شارلي إبدو” وما صاحب ذلك من جدل، وشهدا تسارعًا في وتيرة الاحتكاك، وأحداثًا لها صلة بملفات الحريات وأوضاع الإسلام والمسلمين واليهودية واليهود والعلاقات بين المتدينين والعلمانيين في فرنسا، وشَاهَدَا مزيدًا من صب الزيت على النار.
وقبل أن نُحلل كلام “ماكرون” في ورقة تالية، نُقدّم هنا الخلفية والسياق الحاكمين فيما يبدو لحديثه.
لن نتحدث هنا عن الأزمة الطاغية التي تشل فرنسا منذ مطلع ديسمبر الماضي، بسبب تعاظم واستمرار موجة الاحتجاجات ضد مشروع إصلاح منظومة المعاشات، واستحالة التوفيق بين المطالب المشروعة للفئات المختلفة، إما لتشرذم المجتمع وتفتته أو لانعدام كفاءة النخب السياسية وانعزالها عن واقع العامة، وارتفاع معدل العنف سواء من جانب المتظاهرين أو من جانب الشرطة. بل سنركز على أحداث وتطورات أخرى تكشف عن تعدد وتعقد مظاهر الأزمة الفرنسية، والشروخ الاجتماعية التي تهدد مستقبل البلاد إن لم تنجح في التماسك من أجل انطلاقة جديدة.
يُقلل البعض من عمق تلك الأزمة، معتمدين في هذا على تحسن مؤشرات أداء الاقتصاد الفرنسي، فيقولون إن حال فرنسا أحسن مما يبدو، ونرى عكس هذا، ونقول إن المثير للقلق وجود أزمة بهذا العمق رغم أداء اقتصادي جيد؛ أزمة ثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية، أزمة تطرح سؤالًا حول قدرة العَقْد الاجتماعي الحالي –حقيقيًّا كان أم متخيلًا- على مصاحبة أو مواجهة التغيرات الحالية.
بعض الأحداث التي نعرض لها تُشكّل نموذجًا لمشكلة عصرية، وهي تضخيم شبكات التواصل الاجتماعي لأحداث تافهة أو على الأقل محلية جدًّا، لتكتسب بُعدًا قوميًّا ورمزية كاشفة، ولتتصدر الأخبار، ولتصبح قضية يطالب الجميع بتحديد موقفٍ منها.
ففي ٢٠ يناير الماضي، رفضت شابة معاكسة شاب (يبدو أنه مسلم)، حيث احتد النقاش ووصل إلى تبادل الشتائم. وعلى إثر ذلك نشرت المراهقة على صفحتها في شبكة إنستجرام فيديو تُهاجم فيه الإسلام بشدة، واستخدمت ألفاظًا قبيحة، وتلقت فورًا مئات الآلاف (وفقًا لمحاميها) من التهديدات بالقتل والاغتصاب، وتم نشر الفيديو وبيانات الشابة وعنوانها على كافة شبكات التواصل الاجتماعي، واضطرت إلى ترك المدرسة، ووُضعت تحت حماية الشرطة.
وفتحت النيابة تحقيقين؛ الأول خاص بالتهديدات، والثاني بحث إن كانت الشابة حثت على كراهية عنصرية. وسرعان ما أغلقت النيابة التحقيق الثاني، قائلة إن الشابة عبّرت عن رأيها في معتقدات، ولم تستهدف الحثّ على كراهية من يعتنقها.
ثم دخل السياسيون والشخصيات العامة على خط الأزمة، منددين إما بردود الأفعال الإسلامية، أو بالفتاة، أو بالاثنين معًا. وأثارت ثلاثة تصريحات احتجاجات حادة، منها تصريح لعضو بارز في المجلس الفرنسي للدين الإسلامي “السيد عبدالله ذكري”، حيث قال إنه يدين الدعوات للقتل، إلا أنه أضاف أن الشابة تستحق ما جرى لها. ومنها تصريح لوزيرة العدل الفقيهة الدستورية “نيكول بلوبيي”، التي رأت في كلام الشابة “اعتداء على حرية الاعتقاد”، لكنها اضطرت إلى التراجع. وتصريح المرشحة السابقة للرئاسة الاشتراكية “سيجولين روايال”، التي قالت إن حرية نقد الأديان مكفولة، إلا أنه لا يصح اعتبار الشابة رمزًا لها، ولا يصحّ مناقشة قضية علمانية الدولة انطلاقًا من حالتها.
وبصفة عامة تبادل الفرقاء الاتهامات، حيث قيل إن الساكت (لا سيما اليساريين ومنظمات الدفاع عن المثليين) شيطان أخرس، وإن من تفهّم غضب المسلمين يُنافقهم لأسباب انتخابية. وفي المقابل، قيل إن من يُعلي من شأن الدفاع عن حرية النقد والسب يعمل راضيًا أم لا لصالح اليمين المتطرف، ويتسبب في إشعال نار الفتنة.
وقبل ذلك بأسبوع، قام معلق ساخر له برنامج في إذاعة مملوكة للدولة بتأليف وغناء أغنية تقول إن السيد المسيح مثلي، وكان يقصد أن المسيح متضامن مع المثليين، ولكن صياغته ولجوءه إلى ألفاظ خارجة أثارا حنق الأوساط المسيحية واليمينية. واضطرت مديرة الإذاعة ومقدم البرنامج إلى تقديم اعتذار. ورغم التراجع السريع، ندّدت الأوساط المحافظة باستسهال الكثير من العلمانيين الهجوم على المسيحية، وخوفهم من التعرض للإسلام، واشتكت من التعتيم الإعلامي على الاعتداءات ضد أماكن العبادة المسيحية.
وفي سياق آخر، ثار جدل حول مظاهرات شوهد فيها أشخاص يحملون رماحًا على حدها رأس “ماكرون”، مما دفع المحللين إلى التحذير من تزايد العنف ومخاطر اندلاعه في فرنسا، ومن تدهور مستوى الخطاب العام. وانتقد معلقون سوء أداء كوادر الحكم، وكثرة التصريحات المستفزة للرأي العام، في وقت ساد فيه تصور بأن الفريق الحاكم لا يهتم بالجماهير، ولا يستمع إليها، ولا يفهم إلا لغة العنف، وكان آخرها تصريح لنائبة قالت فيه للإذاعة البريطانية “إنه لا توجد إضرابات في فرنسا”، وهو على خلاف الحقيقة طبعًا.
وعلى صعيد آخر، فتحت الدولة ملف التمييز ضد المسلمين في التعيين. ومن المعروف منذ عقود أن حامل اسم مسلم يواجه صعوبات بالغة في البحث عن شقة للإيجار. وتتحدث الصحافة بين حين وآخر عن مسلمين أرسلوا لنفس رب العمل نسختين لسيرتهم الذاتية، مرة مستخدمين اسمهم الحقيقي، ومرة أخرى مستخدمين اسمًا فرنسيًّا مستعارًا، فيكون الرد إيجابيًّا على الثاني وسلبيًّا على الأول رغم تطابق كامل للسيرة الذاتية. ولجأت الحكومة إلى نشر أسماء الشركات الكبرى التي تمارس -وفقًا لها- تمييزًا، ومنها: الخطوط الجوية الفرنسية، وشركة رينو، وشبكة فنادق آكور. وبالطبع احتج ممثلو تلك الشركات، وشككوا في المنهج الذي اتُّبع في تقصي الحقائق، وثارت نقاشات في برامج الحوار حول ضعف نسبة تمثيل المسلمين في الوظائف العليا وغيرها. ورأى البعض في التمييز ضدهم إضرارًا بالأداء الاقتصادي، لأن الفقير وابن/بنت الأقليات أقوى عزيمة وأشد رغبة في الإجادة.
وقدّمت الحكومة مشروع قانون ضد خطابات الكراهية على الإنترنت بعد تزايد عددها وانتشارها وعنفها. وأثار هذا المشروع جدلًا واسعًا واعتراضات كثيرة، بعضها تناول مشكلة الإسلاموفوبيا، إذ كانت حيثيات مشروع القانون تشير إلى ضرورة مكافحتها.
وفي الوقت نفسه (٢٤ يناير) صدرت دراسة ترصد مخاوف اليهود الفرنسيين، وارتفاع نسبة العداء لهم، وفوجئ الرأي العام بارتفاع نسبة اليهود الذين قالوا إنهم يشعرون بالخوف (٣٣٪)، وإنهم تعرضوا على الأقل مرة لتمييز فج ضدهم (٧٠٪)، وإنهم تعرضوا للضرب (أكثر من 20%). وستعزز تلك البيانات ميل اليهود إلى مغادرة فرنسا ومخاوف الفرنسيين من فقدان مكون أساسي من مكونات الجماعة الوطنية.
وفي مارسيليا تم القبض على السوري “مجدي مصطفى نعمة” أحد كوادر جيش الإسلام، المتهم بارتكاب جرائم حرب، واتضح أنه دخل فرنسا بطريقة مشروعة، إذ حصل على تأشيرة دخول من قنصلية فرنسا في إسطنبول، وتبين أنه سجل نفسه كطالب في معهد مرموق متخصص في دراسة الشئون العربية والإسلامية، وأن المعهد دعم ترشحه وتسجيله في برنامج تبادل الطلبة إيراسموس. وطفت على السطح قضية تغلغل الإسلاميين في الأكاديمية الغربية بمساعدة فصائل اليسار المتطرف ذات الوجود المؤثر في الإعلام والساحات الثقافية والأكاديمية.
وفي مطلع فبراير أظهرت إحصائيات الأمن العام تدهورًا حادًّا في الوضع الأمني مع زيادة مضطردة وحادة في معدلات الجريمة، من نصب وسرقة وسرقة بالإكراه واعتداء بالضرب واغتصاب وتجارة مخدرات وقتل. ورغم وجوب التزام الحرص فيما يتعلق بالإحصائيات (مثلًا: هل ارتفاع هذه المعدلات راجع إلى تدهور فعليٍّ؟ أم إلى أن توافر عوامل مثل حملة فضح المتحرشين والمغتصبين تدفع كل الضحايا إلى تقديم بلاغات؟ وهل تدخلت السلطات للتهويل أو للتقليل؟) إلا أن كافة المؤشرات الأخرى –مثل عدد الجثث، والدراسات الميدانية في الأحياء، ومدركات الجمهور- تشير إلى تدهور حاد يعود إلى عوامل عدة، مثل: ازدياد معدلات الفقر، ووجود بؤر في أحياء فقيرة تعيش على تجارات غير مشروعة، وتقليل عدد أفراد الشرطة، وتراجع إمكانياتهم المادية، وانشغال عدد كبير منهم بمظاهرات السترات الصفر، وفقدان الثقة في الشرطة، وغيابها في بعض الأحياء، الأمر الذي يدفع عددًا متزايدًا من المواطنين إلى أخذ ثأرهم بأنفسهم.
ويُذكر أن أحد الأسباب التي دفعت بعض العمد والمجالس المحلية إلى قبول وجود جمعيات وجماعات إسلاموية في المحليات منذ مطلع الثمانينيّات هو قدرة تلك الجمعيات على دفع الشباب إلى التخلي عن النشاطات غير المشروعة، وعلى تحسين الأجواء الأمنية. ولم تظهر مخاطر الاعتماد عليها إلا لاحقًا وتدريجيًّا. وهذه المخاطر لم تمنع البعض من التحالف مع هذه الجمعيات انتخابيًّا، أو الاعتماد عليها مجددًا عند وعقب اندلاع أزمة ٢٠٠٨.
لقد تبارى المفكّرون في تحليل أزمة المجتمع الفرنسي. ومن أهم هذه التحليلات تلك التي ترى أن منظومة ثقافية وفكرية وتشريعية واجتماعية حلّت تدريجيًّا محل القديمة أثناء السبعينيات والثمانينيات مع “تمكين” الجيل الذي خاض مظاهرات ٦٨. المنظومة القديمة كانت تتبنى قيمًا وأنماط حياة يمكن وصفها بالكاثوليكية، وكان الاختلاف والاستقطاب يدوران حول مصدر هذا النمط لا حول فحواه، أي هل مصدر هذه المنظومة الثقافية/ السلوكية هو الدين أم العقل أم التقاليد.. إلخ، وما تبعات هذا؟ لكن المنظومة الجديدة تقدس الفرد، ويمكن وصفها بالليبرالية/ اليسارية، وتنطلق من تصور للفرد وللعلاقة بين الرجل والمرأة وللجماعة ولمتطلبات وتجليات المساواة مختلف تمامًا عما سبقه. ودون الدخول في تفصيلات الفوارق بين المنظومتين، نشير إلى أن القوانين التي تبيح الطلاق والإجهاض وزواج المثليين وتفكك الأسرة التقليدية، لم تكن متصورة قبل السبعينيات.
وفي هذه المنظومة الجديدة -لن ندخل في جدل حول تقييمها- أصبح المتدينون أقلية، أو أقليات، يهودًا كانوا أم مسيحيين أم مسلمين. ويمكن القول إن المنظومة الجديدة السائدة تقدس الفرد، وحقه في العيش كما يرى وأن يعبر عن نفسه، وترتاب من السلطة، أي سلطة، سياسية كانت أم اجتماعية، سلطة السياسي وسلطة المقدس وسلطة الأب والأم وسلطة الرجل وسلطة المدرس وسلطة رجل الدين، وتحصر مهام الدولة في تقديم الخدمات، والحفاظ على الأمن، وضمان الحريات، وتوسيع رقعة الحقوق، والاعتراف بحقوق جديدة.
وتتسع الهوة بين تلك المنظومة وبين المتدينين، وهم أغلبية بين المسلمين، فأغلب المسلمين يهتمون بالجماعة أو بالطائفة، ويرون أن حياة الفرد تحكمها معايير مصدرها الدين، مع اختلاف التفسيرات والتأويلات بالطبع.
لقد ذهب أحد الفلاسفة الفرنسيين (كاثوليكي) إلى أن الثقافة السائدة تقدس الحرية والفرد، ولا تعير الاهتمام الكافي للجماعة وضرورات تماسكها ومقتضيات نقل التقاليد من جيل إلى آخر. أما المسلمون والكاثوليك المحافظون فيرون العكس. ويرى عالم اجتماع له كتاب بالغ الأهمية أن مشكلة فرنسا يمكن وصفها في الآتي: تفكك وتخلخل العمود الفقري للمجتمع –نمط حياة وثقافة كاثوليكيي الأصل- وتشرذم المجتمع ليصبح جزرًا صغيرة لا يمكن التوفيق بينها.
ونناقش لاحقًا ما قاله الرئيس “ماكرون”.