يتباهى الإسرائيليون بأن بلادهم هي واحة “الديمقراطية” في الشرق الأوسط! ورغم الخداع الواضح في هذا الادعاء في ظل احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، وقمعها للشعب الفلسطيني، وانتهاجها سياسات تمييزية ضد مواطنيها من فلسطينيي 48 الذين يُشكِّلون ما لا يقلّ عن 16٪ من السكان؛ إلا أن الكثير من المسئولين الإسرائيليين يتجاهلون ذلك الأمر، بل ويصل الأمر ببعضهم إلى اعتبار فشل الأحزاب السياسية، ومن خلفها جمهور المصوتين، في منح الدولة حكومة مستقرة بعد عمليتين انتخابيتين متتاليتين فاشلتين، هو مدعاة للفخر، لأن الديمقراطية الإسرائيلية -على حد زعمهم- تعمل بكفاءة! أو بحسب كلمات السفير الإسرائيلي ببريطانيا Mark Regev: نحن نمارس الديمقراطية ثلاث مرات في عام واحد، وهو معدل أكبر مما يحدث في الشرق الأوسط بأكمله! والأكثر غرابة هو صدور مثل هذه الأحكام عن كفاءة الديمقراطية الإسرائيلية في ظل عدم يقين من نتائج الانتخابات الثالثة التي ستُعقد في الثاني من مارس المقبل.
انتخابات تعكس الفشل والقلق
عبّر القنصل الإسرائيلي Dani Dayan بنيويورك عن المشاعر التي ربما تجتاح جزءًا من المجتمع الإسرائيلي بقوله: “سأكون صريحًا، الانتخابات المقبلة لا تشد اهتمامي كما كان الأمر في الانتخابين السابقين. وكل ما أتمناه ألا نضطر للذهاب لانتخابات رابعة”.
بالنسبة لـ”نتنياهو” الذي ستبدأ محاكمته بتهم استغلال النفوذ والرشوة في السابع عشر من مارس المقبل (بعد أسبوعين فقط من إجراء الانتخابات)، فهو لا يزال مُصرًّا على إنكار التهم الموجهة له، ويواصل اتهام خصومه والبوليس والقضاء الإسرائيليين بمحاولة إسقاطه، ليس عن طريق صندوق الانتخابات بل من خلال المؤامرات وعبر تسييس عمل مؤسسات في الدولة كان ينبغي أن تكون محايدة وموضوعية، وهو اتهام يعكس -في حد ذاته- أزمة الديمقراطية المزعومة في إسرائيل. ففي الدول الديمقراطية لا أحد يوجه اتهامات لمؤسسات الدولة (خاصة القضاء والشرطة) بالفساد والانحياز إلى أطراف بعينها. وحتى لو كان بالإمكان توجيه اتهامات لأفراد يعملون في هذه المؤسسات، فإن ذلك يتم وفق اشتراطات على رأسها احترام مؤسسات الدولة، والالتزام بحكم القانون، وعدم توجيه اتهامات بلا أدلة لمثل هؤلاء الأفراد كما يفعل “نتنياهو” وأنصاره، سواء في الليكود أو في أحزاب اليمين.
الأمر الثاني الذي يعكس الفشل في الأداء الديمقراطي المزعوم هو التركيز على “تخويف” الناخبين بدلًا من محاولة إقناعهم ببرامج انتخابية محددة، وهو ما يمارسه “نتنياهو” بشكل موسَّع حتى في سياقات لا تتعلق مباشرة بقضية الأمن. على سبيل المثال، عندما سألت صحيفة Jerusalem Post “نتنياهو” عمّا إذا كان يخشى من وصول رئيس ديمقراطي إلى البيت الأبيض هذا العام، رد قائلًا: “لا أخشى ذلك، ولديّ القدرة على التعامل مع الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء، ولكن ما أخشاه حقيقة هو أن يصل إلى رئاسة الحكومة في إسرائيل أشخاص ضعفاء غير قادرين على قيادة إسرائيل في مواجهة الخطر الإيراني، مثل “بيني جانتس” و”يائير لبيد” (زعيمي تحالف كاحول لافن”)، مؤكدًا أنه طالما كان رئيسًا للحكومة “فلن تتمكن إيران من حيازة السلاح النووي”. وهاجم “نتنياهو” خصومه واصفًا إياهم بضعف الخبرة، وعدم القدرة على تحمل إدارة الأزمات الصعبة، مذكرًا إياهم بأنه خلال عشر سنوات قضاها كرئيس للحكومة رفع إسرائيل إلى مرتبة القوة الثامنة في العالم اقتصاديًّا وعسكريًّا، وهو ما يعني أن “نتنياهو” يحاول الضغط على الناخب الإسرائيلي وتخويفه، بتأكيده أنه إذا لم يتم التصويت لليكود، فحكومة “جانتس” المحتملة ستكون رهينة للقائمة العربية الموحدة، أو أمام حكومة يسارية وحكومة أقلية لا تصنع استقرارًا، وهذا وضع أسوأ من أن تذهب إسرائيل إلى انتخابات رابعة إذا ما جاءت نتائج انتخابات 2 مارس غير حاسمة بدورها.
على الطرف الآخر، ولأن “نتنياهو” يعرف أن خصمه “بيني جانتس” يضغط بشدة على مسألة محاكمته المنتظرة في 17 مارس القادم لكي يحرّض الجمهور على عدم انتخابه (أي نتنياهو)؛ فقد تمكن أنصار “نتنياهو” من إثارة الشبهات حول وجود فساد في إحدى شركات الأمن السيبراني التي كان “بيني جانتس” يتولى إدارتها قبل إعلان إفلاسها، وهو ما حدا بالمستشار القضائي للحكومة “ماندينبيلات” لفتح التحقيق في القضية مع التأكيد على أن “جانتس” كشخص ليس متهمًا، وإن كان فريق “نتنياهو” يُلمح إلى أن الشركة المعنية عقدت صلات مباشرة مع الشرطة الإسرائيلية إبان رئاسة “جانتس” لها، في محاولة مكشوفة ليس لإثارة الغبار حول “جانتس” قبل أيام قليلة من الانتخابات وفقط، بل أيضًا لإدانة الشرطة الإسرائيلية التي اتهمها “نتنياهو” سابقًا بأنها تتعاون مع خصومه من أجل إسقاطه.
مؤشر استطلاعات الرأي العام
قبل أيام قليلة من الانتخابات المقررة، توضح استطلاعات الرأي العام التي تُجريها جهات عديدة في إسرائيل، أن نتائج الانتخابات الجديدة لن تختلف عن سابقتها الأولى والثانية. على سبيل المثال، أوضح استطلاع أجرته القناة الثانية عشرة الإسرائيلية في 24 فبراير الجاري، أن جبهة اليمين التي يتزعمها الليكود بقيادة “بنيامين نتنياهو” لن تحصل سوى على 57 مقعدًا (الليكود 34، يهودة هتوراه 8، شاس 8، يمينا 7). وفِي المقابل ستحصل الأحزاب اليهودية المناوئة لنتنياهو على 50 مقعدًا (كاحول لافن 33، تحالف أحزاب العمل وجيشه وميرتس 10، إسرائيل بيتينو 7) فيما تحصل القائمة العربية المشتركة على 13 مقعدًا. وقبل تحليل نتائج هذا الاستطلاع ينبغي الإشارة إلى احتمالات حدوث مفاجآت، وإن كان من المتوقع ألا تكون مؤثرة في الأزمة الحقيقية المتمثّلة في عجز جبهة “نتنياهو” وجبهة خصومه عن الحصول على ما يزيد على 60 مقعدًا لأيٍّ منهما لضمان إمكانية تشكيل حكومة متماسكة حتى لو كانت حكومة أقلية ضيقة (أي تتمتع بتأييد 61 نائبًا في الكنيست).
وبافتراض أن النتائج الواردة في هذا الاستطلاع لن تختلف عن النتائج الفعلية للانتخابات؛ يمكننا أن نرصد الملاحظات التالية:
١- تبدو جبهة اليمين التي يقودها “نتنياهو” رغم عدم توقع حصولها على أكثر من 57 مقعدًا، قوية وأكثر تماسكًا من الجبهة المناوئة التي تمتلك نظريًّا 63 مقعدًا وعمليًّا 50 مقعدًا فقط.
٢- الجبهة المواجهة لـ”نتنياهو” يُفترض نظريًّا أنها تضم حاليًّا حزب “إسرائيل بيتينو” بقيادة “أفيجدور ليبرمان”، ولكن عمليًّا تتطابق وجهة نظر هذا الحزب مع اليمين المتشدد وليس الوسط ويسار الوسط الذي يقود هذه الجبهة؛ فعداء “ليبرمان” لفكرة السلام مع الفلسطينيين ولأي تحالف يضمه مع الأحزاب الحريدية (شاس، يهودة هتوراه)، يضعه ضمن صقور جبهة اليمين العلماني الذي يضمّ جزءًا من الليكود ذاته، ولكنّ العداء الشخصي بين “نتنياهو” و”ليبرمان” هو مما يحول بشكل أكبر دون عودة الطرفين للشراكة معًا داخل جبهة اليمين كما كان الأمر في السابق، وهو ما عبّر عنه “ليبرمان” مرارًا بدعوته الليكود للتخلص من “نتنياهو” كمقدمة لعودة إسرائيل لجبهة اليمين، التي يمكن أن تصل وفقًا للاستطلاع إلى 64 مقعدًا في الكنيست في هذه الحالة بما يمكنها من تشكيل حكومة متماسكة إلى حدٍّ ما مستقبلًا.
٣- من شبه المستحيل أن يقبل “بيني جانتس” وحزب “كاحول لافن” ضمّ القائمة العربية إلى أي تحالف في مواجهة اليمين وزعيمه “بنيامين نتنياهو”، فحتى تأييد القائمة العربية المشتركة (حسب الاستطلاع تحصل على 13 مقعدًا في الكنيست) لـ”جانتس” كمرشح محتمل لقيادة الحكومة سوف يؤدي إلى إحراجه وإضعاف موقفه أمام الرأي العام اليهودي داخل وخارج إسرائيل. وقد كان “جانتس” حاسمًا في رفضه أي تنسيق مهما كان منخفض الدرجة بين حزبه والقائمة العربية المشتركة، سواء قبل الانتخابات أو بعدها.
٤- لا يبدو أن الناخب الإسرائيلي مستعد لتغيير توجهاته بشكل يؤدّي إلى تعديل نتائج الانتخابات السابقة وما قبلها، والتي قادت إسرائيل إلى إجراء ثلاثة انتخابات عامة في أقل من عام، وفِي سابقة غير معهودة في تاريخ الدولة العبرية، وهو ما يعني أن احتمالات ذهاب الدولة لانتخابات رابعة ليس بالأمر المستبعد تمامًا، وإن كان ذلك لن يَصْبّ في صالح “نتنياهو” الذي ستبدأ محاكمته في السابع عشر من مارس القادم، أي إنه في حالة ثبات نتائج الاستطلاع وتحققها على أرض الواقع، فسوف يقود “نتنياهو” عملية تشكيل الحكومة أثناء جلسات محاكمته، وهو وضع ضاغط ولا يُعرف حتى الآن كيف سيكون تأثيره على قدرته على تشكيل الحكومة، أو على مدى قابلية المجتمع الإسرائيلي على تحمله، ناهيك عن أن الـ57 مقعدًا التي يُتوقع أن تحصل عليها جبهة اليمين بقيادة “نتنياهو” تبقى غير كافية لتشكيل الحكومة من الأصل.
٥- هل يُمكن أن تحدث المفاجأة بأن ينسحب “ليبرمان” من رئاسة حزب “إسرائيل بيتينو” ولو بشكل ظاهري لكي يتمكن “نتنياهو” من ضمه -أي الحزب- إلى جبهة اليمين وتشكيل الحكومة بقوة 63 مقعدًا على الأقل (مع بقاء ليبرمان كعضو كنيست مستقل)، وبذلك يُثبت أنه بقي وفيًّا لمبدأ عدم الانضمام إلى حكومة تضم الأحزاب الحريدية، ويقودها “نتنياهو”. ويقدم فِي الوقت نفسه نفسه كزعيم فضّل المصلحة الوطنية (عدم إسقاط الدولة في فخ انتخابات رابعة) على مصلحته الشخصية؟ هذا احتمال نظري وصعب تحققه، ولكنه ليس مستحيلًا إذا ما حدث نوع من التفاهم الداخلي في حزب “إسرائيل بيتينو” بين “ليبرمان” وبين من سيخلفه، على أن انسحاب “ليبرمان” لن يعني خروجه من الحزب، بل استمرار قيادته له من مقعد المستقل داخل الكنيست لفترة زمنية محددة، كما يمكن أن يبقى الاحتمال قائمًا في حال إبداء الأحزاب الحريدية مرونة فيما يتعلق ببعض بنود قانون تجنيد أتباعها في الجيش، بحيث يمكن لجمهور “إسرائيل بيتينو” أن يتقبل الحلول الوسط في هذه القضية التي تُعتبر السبب الرئيسي في رفض الحريديم وإسرائيل بيتينو المشاركة في ائتلاف حكومي يضمهما معًا.
٦- ستعتمد المرحلة المقبلة في إسرائيل على الوتيرة التي تسير بها محاكمة “نتنياهو”؛ ففي حالة تسارعها وإظهار أدلة قوية لإدانة “نتنياهو” قبل تمكّنه من تشكيل الحكومة، فقد يجبره الليكود على التخلي عن رئاسته، وبذلك يسهل على حزب “إسرائيل بيتينو” العودة لجبهة اليمين حتى مع وجود الأحزاب الحريدية قي التشكيل الحكومي المنتظر، وسيكون بوسع “ليبرمان” أن يضغط على الليكود لتعديل بعض بنود قانون تجنيد الحريديم، بما يؤكد مصداقيته أمام جمهور حزبه العلماني التوجه بأنه قادر على لجم نفوذ الأحزاب الدينية، كما أنّ تنحّي “نتنياهو” عن رئاسة الليكود (فرضًا) سيزيد من قدرة “ليبرمان” على المجادلة بأن إصراره على العداء لـ”نتنياهو” هو من أجبر الليكود على تنحيته، وهو من حمى إسرائيل من الذهاب لانتخابات رابعة. أما إذا سارت محاكمة “نتنياهو” بوتيرة أبطأ ولم تظهر في الأفق أدلة قوية لإدانته في النهاية؛ فإن إسرائيل يمكن أن تواجه انتخابات رابعة، وهو ما لا يدعم مزاعم من يستدلون على قوة الديمقراطية الإسرائيلية بعدد مرات ذهاب الناخبين لصناديق الاقتراع، بل سيدعم أكثر حقيقة أن الأزمة السياسية في إسرائيل تشير إلى أنها بلد غير مستقر، وأن مستقبل النظامين السياسي والانتخابي فيه يدعو لقلق مواطنيه.