عندما كانت الحرب الباردة تلفظ أنفاسها الأخيرة، كان الليبراليون وأنصار العولمة يشعرون بزهو شديد، بعد هزيمة الشيوعية، وبعد سقوط الحواجز أمام تحول العالم إلى سوق رأسمالي واحد، وبعد انتهاء الصراع الكوني بين القوى العظمى القادرة على تدمير العالم عدة مرات بما لديها من ترسانات نووية، فحل محله تقاسم عمليات الإنتاج، وظهور سلاسل القيمة، حيث يتم تقسيم السلعة الواحدة إلى المئات من المكونات التي يجري إنتاجها في بلاد مختلفة، ليتم تجميعها في النهاية في مكان ما، فتكون السلعة التي تم تصميمها في اليابان، وتصنيع أجزائها في فيتنام وتايلاند وماليزيا، ليتم تجميعها في النهاية في الصين، فلا تعرف لها بالضبط جنسية، حتى لو عرفت ما يجري اعتباره مجازا منشأها.
للجميع مصلحة مشتركة في إنجاح هذا العالم، وعليهم التعاون من أجل تحقيق هذا الهدف. هذه هي الصيحة الكبرى التي أطلقها الليبراليون. رأى المنظرون الليبراليون أن هناك فرصة ذهبية لتجاوز النظام الدولي القائم على الصراع، وإقامة نظام دولي قائم على التعاون. أدرك المنظرون الليبراليون أن الأمر ليس بهذه البساطة، فالبشر قد يتعاونون في إنتاج السلع، ولكنهم سيواصلون الصراع على اقتسام عائدات الأرباح، وتوزيع الأنصبة بين المشاركين في هذه العملية؛ وأنه لابد من مساعدة البشر لكي يتعلموا التعاون فيما بينهم بعد أن برمجتهم عقود الصراع الطويلة لكي يجيدوا الصراع، ويختاروه كأول استراتيجية تحرك وأول ورد فعل تجود بهم قرائحهم وعقولهم في مواجهة المواقف الطارئة التي تعرض لهم.
الإنسان حيوان يتعلم؛ ولدى البشر القدرة على التعلم؛ وسيتعلمون أساليب وفنون واستراتيجيات التعاون، وعندها سيهجرون فنون واستراتيجيات الصراع التي أتقنوها عبر القرون. ربما كان من الصعب على البشر التعاون في مجالات الأمن والدفاع والتسلح، تلك القضايا شديدة الالتصاق بالدولة الوطنية والسيادة والهوية؛ لكن هناك إمكانية كبيرة للتعاون في مجالات التجارة والاستثمار والإنتاج، فهذه أمور تقع في مجال اهتمام القطاع الخاص، الذي يحسب المكاسب والخسائر بدقة وعقلانية شديدة، غير متأثر باعتبارات الهوية والثقافة والكرامة والإرث التاريخي. أما المؤكد فهو أنه بإمكان البشر البدء في التعاون الفوري للتعامل مع التحديات التي تواجه البشرية كلها بنفس القدر، والتي لا يمكن أن يكون فيها خاسر ورابح، مهزوم ومنتصر؛ فالكل إما يخسرون أو يربحون معا، في هذا النوع من المواجهات، وبالتالي ليس للبشرية إلا أن تتعاون من أجل الفوز المشترك. مكافحة الأوبئة والسيطرة على التغير المناخي هي مجالات ركز عليها الليبراليون، لما يتوفر فيها من مصلحة مشتركة مؤكدة، وسهولة تحقيق التعاون.
يتيح وباء كورونا الراهن فرصة لتقييم ما إذا كان التعاون قد حل محل الصراع في مواجهة الوباء، وفي الحقيقة فإن الصورة لا تبدو مبهرة كما بشر بها الليبراليون قبل ثلاثة عقود. هناك منظمة الصحة العالمية التي تقوم بدور كبير في تقديم النصائح الفنية للدول، ولكن تاريخ هذه المنظمة يرجع إلى ذروة الحرب الباردة في أربعينيات القرن العشرين، بينما لم ينشئ النظام الدولي الليبرالي الذي نشهد نهايته هذه الأيام أي منظمة دولية إضافية أو ترتيب دولي يعمق التعاون بين الدول في مجال مكافحة الأوبئة. ففي مواجهة تهديد كورونا الراهن تتصرف الدول معتمدة على نفسها، وفقا لمصالحها الوطنية، ولطبيعة تحيزات حكامها والنصائح التي يتلقونها؛ والنتيجة هي أن بعضها أحسن التصرف وحد من انتشار الفيروس، حتى الآن على الأقل؛ فيما أساء بعضها الآخر التصرف، وتحول إلى بؤر يشع منها الضرر بالنفس وبالجيران.
لم تتصرف دول العالم بطريقة تتجاوز التظاهر بالتعاطف مع المأساة التي لحقت بالآخرين؛ بل إنها تورطت أحيانا في التعريض من طرف خفي بهم، كطريقة لتبرئة الذات وللتدليل على كفاءة الأداء. فها هو الرئيس الأمريكي يصف الفيروس المسبب للمرض بالفيروس الصيني، مما أغضب الصينيين؛ فيما حرصت السلطات الصحية والإعلام في بلاد عدة على تأكيد المصدر الأجنبي للإصابات بالفيروس الحادثة في بلادهم، كطريقة لشيطنة الآخر الأجنبي، خاصة عندما كان من الممكن تتبع الإصابة القادمة من بلد أحد الأعداء التاريخيين، أو لنظام سياسي منافس.
لقد قام العلماء الصينيون باكتشاف الشفرة الجينية لفيروس كورونا، وأتاحوها للعلماء في الولايات المتحدة وبلاد أخرى، في خطوة تعاونية مهمة. لكن الصين رفضت طوال الوقت السماح لعلماء أجانب بزيارة الصين، للمساهمة في دراسة الوضع وتقديم النصيحة. لم تكن الصين المنكوبة بفيروس كورونا هي التي اتخذت هذا القرار، ولكن اتخذته الصين الدولة العظمى، التي تشعر بالإهانة واهتزاز المكانة لو تبين عجز جهازها الطبي عن السيطرة على الوباء، وانكشف عجزها عن مواجهة المرض بمفردها، وأن عليها الاعتماد على مساعدة خصمها الأمريكي في هذا المجال. انتصار الصين على الفيروس ليس قضية صحية وإنسانية فحسب، لكنه أيضا اختبار لجدارة للنظام السياسي والاجتماعي في الصين. أما الآن وبعد أن نجحت الصين في السيطرة على الوباء، فيما تدخل دول الغرب أسوأ مراحل الأزمة، فإن التقارير القادمة من الصين لا تخلو من شعور شديد بالفخر الوطني لا يخلو من شماتة في الخصوم الغربيين.
تشير الأنباء إلى أن الحكومة الأمريكية حاولت شراء شركة ألمانية حققت تقدما نحو إنتاج مصل مضاد لكورونا، وهو ما قاومته الحكومة الألمانية بشدة، واعتبرته محاولة لاحتكار إنتاج المصل الذي ينتظره العالم. وليس مصادفة أنه في اليوم التالي لبدء اختبار مصل مضاد للفيروس تم تطويره بواسطة أحد معامل البحوث الأمريكية، خرجت من الصين وروسيا أنباء عن البدء في اختبار مصل للمرض ذاته، في منافسة صريحة على المكانة والزعامة.
العالم يئن تحت وطأة كورونا، ولا أحد بمنأى عن الخطر. تتظاهر البشرية بالوقوف موحدة ضد الفيروس، لكن الدول تعرف عن الصراع أكثر كثيرا مما تعرف عن التعاون، فنجدها عاجزة عن تجنب السعي لتحقيق المكاسب على حساب الآخرين، تحت تهديد وباء لا يميز بين جنسيات وعرقيات. لم تدع الدول منافساتها جانبا في سبيل مقاومة كورونا، على العكس، فقد قدم لها الوباء المخيف ميدانا جديدا للتنافس.
نقلا عن جريدة الأهرام، نُشر بتاريخ 19 مارس 2020.