شكّل فيروس كورونا المستجد متغيرًا رئيسيًّا لنمط التفاعلات بين الدول، خاصة أن تداعيات الفيروس شملت كافة مناحي العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية. فمنذ مقتل “قاسم سليماني” وثمة جدل يدور في العراق بين مؤيد لانسحاب القوات الأمريكية من العراق في إطار صراع الإرادات والنفوذ بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، ومعارض للطرح خشية تداعيات الانسحاب على عودة تنظيم “داعش” مجددًا للساحة العراقية بعد تزايد التوقعات والتصريحات الدولية حول خطورة التنظيم، وأنه لا يزال يشكل تهديدًا ماثلًا. ومع تفشّي أزمة فيروس كورونا في عدد كبير من الدول، فقد أدت إجراءات انتشاره إلى تغييرات ملموسة في مسار العمليات العسكرية للولايات المتحدة في الخارج في دول مثل أفغانستان والعراق.
ففي العراق، أعلنت القوات الأمريكية في 17 مارس 2020 عن انسحاب الجيش الأمريكي من 3 قواعد من إجمالي ثماني قواعد لها في العراق، ثم تبعه إعلان القوات الأمريكية في العراق في 19 مارس 2020 تعليق جهود التدريب التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية بهدف مكافحة “داعش” لمدة 60 يومًا كإجراء احترازي بسبب الوباء العالمي. ووفقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية، فقد سجلت الولايات المتحدة أكثر من 45 ألف حالة إصابة، و588 حالة وفاة بالفيروس حتى 25 مارس 2020. في حين بلغ مجموع الإصابات بالعراق ٣١٦ حالة، والوفيات ٢٧ حالة، ومجموع حالات الشفاء ٧٥ متعافيًا.
تأسيسًا على ما سبق، فإن هناك العديد من التساؤلات حول ما إذا كان فيروس كورونا المستجد سيُسهم في تغيير استراتيجيات الولايات المتحدة الأمريكية وخططها بشأن انسحاب القوات الأمريكية من العراق، فضلًا عن تداعيات الانسحاب، وما إذا كان سيشكل تحديًا لجهود مكافحة الإرهاب، أم سيمنح العراق فرصة للاعتماد على الذات ودعم استقلالية القرار الوطني وتعزيز مظاهر السيادة، وهو ما يتطلب أيضًا -من جهة أخرى- فك الارتباط بين المسار العراقي والمسار الإيراني، الذي يعد أحد أبرز مطالب الحراك منذ اندلاعه في أكتوبر 2019.
جدل مستمر
يشهد العراق منذ مقتل “قاسم سليماني” في عملية أمريكية نوعية، وقبل الإعلان عن انتشار فيروس كورونا المصنف وباءً عالميًّا من قبل منظمة الصحة العالمية؛ جدلًا حول انسحاب القوات الأمريكية من العراق، بين اتجاهين:
الاتجاه الأول يؤيد انسحاب القوات الأمريكية من العراق، ويتبنى هذ الاتجاه القوى العراقية المدعومة من إيران. فعقب مقتل “قاسم سليماني” طلب مجلس النواب العراقي في جلسة استثنائية في 5 يناير 2020 من الحكومة العراقية إلغاء طلب المساعدة المقدم منها إلى التحالف الدولي لمحاربة تنظيم “داعش”، وذلك لانتهاء العمليات العسكرية والحربية في العراق، وتحقيق التحرير والنصر وفقًا لما جاء في نص البيان. كما طلب مجلس النواب أيضًا من الحكومة العراقية العمل على إنهاء تواجد أي قوات أجنبية في الأراضي العراقية، ومنعها من استخدام الأراضي والمياه والأجواء العراقية لأي سبب كان.
الاتجاه الثاني يرفض انسحاب القوات الأمريكية، ويرى مؤيدو هذا الاتجاه أن الانسحاب الأمريكي من العراق ربما يُسهم في تأزيم الواقع الأمني وعودة تنظيم “داعش” للواجهة، حيث حذر زعيم ائتلاف الوطنية “إياد علاوي” -رئيس الوزراء العراقي الأسبق- في بيان له في 15 يناير 2020 من تكرار السيناريو السوري في العراق في حال انسحاب القوات الأجنبية، مشيرًا إلى أنه كان على البرلمان محاسبة الحكومة ومراقبة آليات تطبيق قواعد الاشتباك العسكري من حيث طريقة وتوقيتات ونوعية الأسلحة المستخدمة، على أن يكون العراق كدولة دعت التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لمساعدته في حربه ضد “داعش” هي صاحبة القرار وليس غيرها، إلا يكون ساحة مفتوحة أمام القوى الإقليمية والدولية.
تداعيات محتملة
أضحى فيروس كورونا المستجد عاملًا رئيسيًّا في تشكيل طبيعة القرارات ودرجة أهميتها في علاقات الدول، فمع إعلان الولايات المتحدة الانسحاب من عدد من القواعد بالعراق، وتعليق جهود التدريب المشتركة لمواجهة “داعش” كإجراء احترازي بسبب تفشي الفيروس؛ فإن ثمة تأثيرات ممتدة ربما ستكون لها تداعياتها المحتملة على القضايا التالية:
1- النفوذ الأمريكي في العراق: تواجه الولايات المتحدة الأمريكية معضلة حقيقية كقيادة عالمية للنظام الدولي الذي تشكل بعد سقوط الاتحاد السوفيتي واستمرت على قمته، لا سيما بعد تفشي فيروس كورونا في العديد من الولايات الأمريكية، حيث تتوقع تقارير منظمة الصحة العالمية أن تتحول الولايات المتحدة إلى مركز جديد لتفشي الفيروس، وهو ما جاء في تصريح صحفي لـ”مارجريت هاريس”، المتحدثة باسم المنظمة، في 25 مارس 2020، قائلةً: “إن 85 في المائة من الحالات الجديدة في الأربع والعشرين ساعة الماضية كانت في أوروبا والولايات المتحدة، و40 في المائة منها كانت في الولايات المتحدة”. وفي ظل عدم جاهزية الولايات المتحدة للتعامل مع تحديات كورونا أو الرغبة في قيادة تحالف دولي لمواجهة تداعياته، ومع طلب الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” من نظيره الكوري الجنوبي “مون جاي” تزويد بلاده بمعدات طبية لمواجهة الجائحة وفقًا لبيان الرئاسة الكورية الجنوبية الذي تناقلته الصحف ووكالات الأنباء، فإن تلك المؤشرات بلا شك ستكون لها تداعياتها المستقبلية، ليس فقط على النفوذ الأمريكي في العراق، وإنما أيضًا على مستوى الوجود الأمريكي في الإقليم ككل، وربما تمتد إلى قيادة النظام العالمي نفسه في عالم ما بعد كورونا، لا سيما أن الصين تحاول أن تسوق نفسها كقيادة محتملة لنظام دولي جديد لا يزال قيد التشكل على وقع انتشار وانحسار فيروس كورونا.
2- التغلغل الإيراني في العراق: تعرضت قوات التحالف الدولي في العراق بالتزامن مع ارتفاع وتيرة انتشار فيروس كورونا لضربات صاروخية من الميليشيات الموالية لإيران، حيث صرح الكولونيل “مايلز كاجينز” المتحدث باسم الجيش الأمريكي في العراق، في 12/3/2020: “إن أكثر من 15 صاروخًا صغيرًا أصابت قاعدة التاجي التي تستضيف قوات التحالف الدولي”. وأسفر الهجوم عن مقتل جنديين أمريكيين وجندي بريطاني، مما استدعى تدخل مقاتلات سلاح الجو الأمريكي لتوجيه ضربات ضد تشكيلات الحشد الشعبي وكتائب حزب الله العراقي. وبرغم أن إيران برزت كمركز رئيسي للعدوى العالمية لفيروس كورونا بعد الإعلان عن اكتشافه لأول مرة في مدينة ووهان الصينية في نوفمبر 2019، فقد سجلت إيران 27017 حالة إصابة، و2077 حالة وفاة بالفيروس حتى 25 مارس 2020. وعلى مستوى المسئولين فقد أصيب 23 نائبًا بالبرلمان الإيراني، أي ما يعادل 8% من أعضاء البرلمان، ونائبة الرئيس لشئون المرأة “معصومة ابتكار” وأربعة وزراء في الحكومة، وعناصر من مجمع تشخيص مصلحة النظام. إلا أنه من غير المتوقع أن يتغير سلوك النظام الإيراني إزاء العراق حتى بعد تفشي الفيروس نظرًا لرمزيته بالنسبة للنفوذ المذهبي الإيراني، باعتبار أن العراق بمثابة رئة إيران الاقتصادية بعد العقوبات الأمريكية، وفي ظل انخفاض الناتج المحلي الإجمالي لإيران بنسبة 10% تقريبًا في عام 2019، وتوقع صندوق النقد الدولي أن يكون النمو الإيراني صفرًا في عام 2020.
3- مستقبل الحراك في الشارع العراقي: من المحتمل أن يشهد الحراك العراقي تراجعًا في الحشد والتعبئة في ظل تزايد المخاوف من انتشار فيروس كورونا، وهو الأمر الذي ربما يعطي السلطات العراقية فرصة لإعادة ترتيب أولوياتها، سواء فيما يتعلق بالقرار الأمريكي فيما يخص تعليق التدريب لمواجهة “داعش”، أو إنجاز تشكيل الحكومة العراقية بعد تكليف الرئيس “برهم صالح” لـ”عدنان الزرفي” بتشكيل الحكومة الجديدة.
4- مكافحة تنظيم “داعش”: تزامن انتشار وتفشي فيروس كورونا على مستوى ما يقرب من 185 دولة عند كتابة هذه السطور مع الذكرى الأولى لنجاح التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بالتعاون مع قوات سوريا الديمقراطية في القضاء على آخر جيوب “داعش” في شمال شرق سوريا، وذلك عندما أعلن الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في 22 مارس 2019 رسميًّا عن سقوط دولة الخلافة المزعومة التي أسسها “داعش” في العراق وسوريا، أعقبها مقتل “أبو بكر البغدادي” زعيم التنظيم وأحد مؤسسيه في عملية عسكرية أشرف عليها الرئيس الأمريكي بنفسه في أكتوبر من العام نفسه. ومع تعليق الولايات المتحدة لجهود التدريبات المشتركة لمكافحة “داعش” في العراق لمدة شهرين كإجراء احترازي لتفشي فيروس كورونا، فإن ذلك الأمر ربما ستكون له تداعياته المباشرة على مفردات المشهد العراقي في ظل تنامي التوقعات والتحذيرات الدولية باستعادة “داعش” لنشاطه مجددًا على الساحة العراقية، وهو التحذير الذي أطلقه وكيل الأمين العام للأمم المتحدة رئيس مكتب مكافحة الإرهاب “فلاديمير فورونكوف”، في مطلع فبراير 2020 عندنا قال: “إن أعداد الإرهابيين الأجانب في صفوف تنظيم داعش في سوريا والعراق تتراوح حاليًّا بين 20-27 ألف شخص، وأنهم سيمثلون تهديدًا في الآفاق القريبة والمتوسطة والبعيدة”، فضلًا عن تحذيرات صحيفة “واشنطن بوست” في نهاية ديسمبر 2019 من أن تنظيم “داعش” الإرهابي يسعى إلى إعادة تأكيد وجوده في المناطق التي فقد السيطرة عليها في سوريا والعراق.
مجمل القول، إن عالم ما بعد كورونا سيختلف جذريًّا عما سبقه. وكما كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 نقطة تحول مفصلية بين عهدين، فكذلك عالم ما بعد كورونا سيشهد تغييرات عميقة في أنماط التحالفات الدولية، وطبيعة النظام الدولي ومحركاته الرئيسية ونسقه القيمي وهويته. وللمفارقة فإن الغزو الأمريكي للعراق الذي كان أحد تجليات عالم ما بعد أحداث 11 سبتمبر، وما أنتجه من مآسٍ لا تزال قائمة، ربما ينتهي، ويكون عالم ما بعد كورونا أكثر إنصافًا ليعود العراق للعراقيين وتنسحب الولايات المتحدة من العراق، ومعها تغادر أيضًا إيران التي وظفت الطائفية المقيتة لخدمة مشروع مذهبي آن له أن يتوارى.