يسعى العالم جاهدًا للتحول نحو الاقتصاد الأخضر أو الاقتصاد منخفض الكربون، والسبيل لتحقيق ذلك هو الاتجاه نحو تقليل الاعتماد على أنشطة الوقود الأحفوري والفحم في قطاعات الاقتصاد المختلفة، والاتجاه نحو نظام أكثر كفاءة للطاقة يعتمد على الطاقات المتجددة، وتقليل انبعاثات الغازات الدفيئة (GHGs)، خاصة ثاني أكسيد الكربون الأخطر على البيئة، وذلك كنتيجة للتغيرات المناخية التي أصبحت تحدث بوتيرة أسرع وبشكل أعنف مما سبق، حيث ظهرت عدة محاولات فيما يُعرف بتجارة الكربون أو “بورصة الكربون”.
مصطلح “بورصة الكربون” من المصطلحات الحديثة، وهي بورصة يتم من خلالها شراء وبيع رخص الكربون لتمكين الدول والشركات والأفراد من الوفاء بالتزاماتهم بتخفيض الانبعاثات حسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، واتفاقية كيوتو لتغير المناخ. وتتضمن تجارة الكربون سوقًا عالمية مثل أي سوق أخرى، فيها أسعار محددة للطن الذي يتم إنتاجه من قبل الدول الصناعية كثمن للتصدي لكارثة بيئية واقتصادية تتسبب فيها يدخل في تمويل مشاريع تجارة الكربون دوليًّا. وهنا يكون البائع من الدول أو الجهات ذات الانبعاثات المنخفضة، والمشتري صاحب الانبعاثات المتزايدة. ويعتمد السعر على آلية العرض والطلب، وتخصيص حد أقصى للانبعاثات من الشركات، وعليها شراء “أرصدة كربونية” إذا أرادت تجاوز المسموح به. ولجأت بالفعل كثير من الدول لهذه التجارة، وتضم أكبر البورصات العالمية سوق المتاجرة في الانبعاثات التابع للاتحــاد الأوروبي الذي يُعتبر أول وأكبر الأسواق العالمية، تليه بورصة شيكاغو الأمريكية، والبورصة الأسترالية، وهناك أسواق حيوية أخرى في ولاية كاليفورنيا الأمريكية وكوريا الجنوبية. ومن المتوقع أن تُصبح السوق الصينية بسهولة أكبر سوق عندما تبدأ خلال عام (2020)، أي بعد انتهاء اتفاق كيوتو للمناخ، والعمل وفقًا لاتفاقية باريس للمناخ.
وتُعرف طريقة التداول في بورصة الكربون Cap and trade بالحد الأقصى والتجارة، حيث يتم وضع حدٍّ أو سقف شامل على كمية الانبعاثات المسموح بها من الصناعات والأنشطة المختلفة، ثم تقوم الحكومات بعد ذلك بإصدار التصاريح حتى الحد المتفق عليه، ويتم منح تلك التصاريح مجانًا أو بيعها بالمزاد العلني للشركات. وإذا تمكّنت إحدى تلك الشركات من كبح انبعاثاتها إلى ما تحت هذا الحد، فيمكنها أن تبيع نصيبها الزائد عن الحد المسموح والمرخص به في سوق الكربون بمقابل. أما إذا تعدت الحد المسموح به، فعليها شراء رخص إضافية. ويتم التداول بمبدأ كميات العرض والطلب كأي بورصة.
أسواق رائدة حول العالم
وتعد تلك أكثر الطرق كفاءة وفاعلية لخفض الانبعاثات على نطاق واسع، فيما تنتظر مزيدًا من النشاط خلال العقد المقبل مع إعلان 80 دولة التخطيط لاستخدامها في تحقيق أهداف اتفاقية باريس التي تخلق إطارًا مستقبليًا يسمح بتعويض الانبعاثات طوعيًا عن طريق شراء الأرصدة من الدول الأخرى. وقد بلغ إجمالي مبادرات تسعير الكربون المنفذة والمقرر تنفيذها 57 مبادرة، وتتكون من 28 نظامًا لتجارة الانبعاثات ETSs على المستوى الإقليمي والوطني، و29 ضريبة للكربون تُطبق في المقام الأول على المستوى الوطني، وتُغطي مبادرات تسعير الكربون حوالي 11 مليار طن مكافئ من ثاني أكسيد الكربون GtCO2e، وتُقدر بنحو 20% من انبعاثات الغازات الدفيئة العالمية مقارنة بالعام الماضي، وحققت إيرادات فاقت 44 مليار دولار في 2018.
ويرى بعضُ الخبراء أن نظام مقايضة الكربون أصبح قادرًا على الحد من الانبعاثات بأقل تكلفة، وأن إنشاء أنظمة مقايضة الانبعاثات المتعددة الجنسيات أمر ممكن في ظل وجود نظرة مستقبلية جديدة بدخول بعض الاقتصادات الرئيسية مثل الصين لتنفيذ صفقات تجارية. وتُعد الصين أكبر الدول إنتاجًا للانبعاثات الكربونية بنسبة 30%، وتليها الولايات المتحدة بنسبة 15%، وهناك بعض الدول الأخرى تخطط لتنفيذ أسواق الكربون مثل المكسيك وكولومبيا وتشيلي، كما أن هناك أهدافًا طموحة لبعض الدول العربية أيضًا. وقد أحرزت دول صناعية كبرى سبقًا بالفعل خلال القرن الحالي في تلك التجارة، فأنشأ الاتحاد الأوروبي نظام تجارة انبعاثات الكربون في 2005، ليصبح أول من يؤسس نظام المقايضة أو ما يُعرف بـ (The European Union’s Emissions Trading System (EU ETS الذي يغطي تقريبًا نصف الانبعاثات العالمية من الكربون. وتُعتبر دول الاتحاد الأوروبي الوحيدة التي تفرض سعرًا على الكربون يغطي جزءًا كبيرًا من اقتصادها، حيث يتم توزيع التزامات خفض الانبعاثات بين الدول الأعضاء، ومن ثم يتم توزيعها بين المؤسسات المعنية في هذه الدول، ويمكن للمؤسسات أن تبيع حصتها لمؤسسات أخرى إذا حققت أهدافها. وتغطي أسواق الاتحاد الأوروبي في العام الحالي 1.8 مليار طن من الكربون من نحو 12 ألف منشأة، وتراوحت الأسعار خلال العام من 8 يورو إلى 25 يورو للطن، كما تم إنشاء أول بورصة لتداول الكربون في ألمانيا.
وأصبح حاليًّا لدى الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من نموذج للتطبيق الناجح لتلك السياسة في عدة ولايات، منها كاليفورنيا وشيكاغو، ونحو 9 ولايات أخرى. وحققت كاليفورنيا وحدها تغطية حوالي 85% من الانبعاثات بسعر 15 دولارًا لكل طن مكافئ من الانبعاثات، فيما تشاركت 9 ولايات أخرى بنسبة 18% من الانبعاثات، بسعر أقل وصل إلى 5 دولارات لكل طن مكافئ من الانبعاثات الكربونية.
تطور التجربة المصرية الناشئة
رغم توقيع الدولة المصرية لبروتوكول كيوتو في عام 1999، إلا أن أولى خطوات تدشين التوجه لتجارة الانبعاثات الكربوينة لم يبدأ إلا في عام 2010 بخطوات عابها البطء، قد يكون أحد أسبابها الأوضاع السياسية التي كانت قائمة بين عامي 2011 و2013، وكذلك قلة الخبرة بالمجال وعدم وجود حزم القوانين الداعمة لإجراءات إنشاء بورصة الكربون وقلة الاهتمام والوعي من جانب الشركات. وبقي الحال دون تطور حقيقي حتى عام 2018، حين أعلنت وزارة البيئة المصرية استعدادها لإطلاق أول سوق وبورصة لتجارة الانبعاثات وشراء الأرصدة الائتمانية الكربونية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط. وعقدت الوزارة ورشة عمل لشرح مشروع بناء القدرات لخفض الانبعاثات التابع للإدارة المركزية للتغيرات المناخية وآليات تمويل فرص الخفض الوطني للكربون.
وُوجهت الدعوة للعديد من الشركات الصناعية، وشركات توليد الطاقة المتجددة والكهرباء، لبحث تفعيل تلك السوق وتفعيل دورها في مجال تشجيع الصناعات المختلفة على رصد انبعاثاتها وتقليلها، مع العمل على تطوير التكنولوجيات الحديثة في هذا المجال. كما تم التأكيد على دور السوق في تنظيم المراجعة الدورية من قبل وزارة البيئة لكل الأنشطة الصناعية لضمان التزامها بتعهدات خفض الانبعاثات الضارة، في مقابل الاستثمارات والمنح المالية. وطلبت وزارة البيئة من الشركات المدعوة وبعض الجهات الدولية وضع إطار عام لمقترحاتها وتصورها لشكل التعامل داخل السوق، مع موافاة الوزارة بكل البيانات ذات الصلة خلال الربع الثاني من عام 2018. كما أوضحت الوزارة أن تمويل شهادات التداول سيتم من خلال البرامج البيئية للأمم المتحدة، خاصة المتعلقة بالتغير المناخي وآثاره السلبية.
وبدأت وزارة المالية في عام 2020 الإجراءات التمهيدية لطرح أول إصدار حكومي سيادي للسندات الخضراء في السوق العالمية، وهو ما سيجعل مصر أول دولة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تُصدر السندات السيادية الخضراء. وسوف ينتج عن ذلك أهداف عدة بيئية واقتصادية. إذ سيؤدي إصدار السندات الخضراء إلى تنويع مصادر التمويل، وتوسيع قاعدة المستثمرين بالسوق المصرية، وخفض تكلفة التمويل على الأوراق الحكومية، وترسيخ الدور الريادي لمصر في تبني سياسات تهدف إلى تشجيع الاستثمارات النظيفة بالمنطقة، وتوفير التمويل المستدام للمشروعات الصديقة للبيئة، ومنها مشروع محطة بنبان للطاقة الشمسية بمحافظة أسوان، الممول من البنك الدولي كأكبر محطة للطاقة الشمسية من نوعها في العالم.
وفي شهر فبراير الماضي تم اختيار أربعة بنوك استثمارية دولية من بين 17 عرضًا لكبرى البنوك الدولية والاستثمارية تقدموا للمناقصة التي أجرتها الحكومة المصرية. والبنوك الأربعة هي بنك: دويتش، وسيتي بنك، وكريدي أجريكول، وHSBC، وسيكون من مسئولياتها الترويج لإصدار السندات الخضراء كمديرين لعمليات الطرح. كما وقع الاختيار على بنكي HSBC وكريدي أجريكول بالأخص ليكونا مستشارين هيكليين للطرح، بما يساعد في تعزيز السياسات والأنشطة الخضراء التي تُجريها الدولة في مجال حماية البيئة وترشيد الاستخدام للموارد المختلفة بطريقة مستدامة. وتشمل تلك الأنشطة: جمع وتدوير المخلفات، وتشجيع الاعتماد على الطاقة المتجددة والنظيفة، والسعي لإنشاء المدن الخضراء والصديقة للبيئة.
كما تهدف تلك الخطوة، التي طال الإعداد لها، لأن تكون عاملًا مشجعًا للمستثمرين الأجانب للدخول في السوق المصرية لتجارة الانبعاثات الكربونية والسندات الخضراء. إذ من المتوقع أن تزيد ثقة المستثمر في هذه السوق الناشئة مع اهتمام الدولة بالمشروعات الخضراء المختلفة، ووضع المعاير القانونية المطلوبة والمحددة لها. وقد تم بالفعل تشكيل لجنة وزارية برئاسة وزارة المالية وعضوية كل الجهات الحكومية المعنية لوضع الأسس والقواعد اللازمة لطرح أول إصدار للسندات الحكومية الدولية الخضراء، بما يُسهم في تعزيز التصنيف البيئي لمصر، ويضعها على خريطة التمويل المستدام، بما يتوافق مع أهداف التنمية المستدامة وفقًا لرؤية استراتيجية مصر 2030 للتنمية المستدامة.
ورغم توقعات المحللين بانخفاض معدلات نمو سوق الأرصدة الكربونية حول العالم لهذا العام، بعد أزمة تفشي وباء الكورونا المستجد (كوفيد-19)، والاتجاه السياسي المتوقع للدول الصناعية الكبرى بالتركيز على إنعاش الاقتصاد والإنتاج الصناعي كأولوية على حساب المحافظة على البيئة؛ إلا أن السوق المصرية للسندات الخضراء تهدف لأن يكون استثمارًا ناجحًا طويل المدى. وقد يكون هذا المشروع هو الأهم في سلسلة التغيرات في السياسات البيئية للدولة المصرية خلال العقد الأخير، ليفتح مجالات استثمارية جديدة في أنشطة الطاقة والنقل والتصنيع والزراعة العضوية في كل المنطقة.