لم تعد الجهود المبذولة لمواجهة تفشى فيوس كورونا المستجد قاصرة على أبعادها الصحية والاقتصادية، بل ايضا فرضت قضية أخرى وهى العلاقة بين تكنولوجيا الاتصالات وبين الحريات العامة، وفى بيان هذه الإشكالية وفى خضم الحوار المجتمعى فى ألمانيا على خلفية الاقتراح بنشر تطبيقات يلتزم الأفراد بتحميلها على هواتفهم النقالة لغرض متابعة انتشار الفيروس واكتشاف المصابين والمخالطين لهم أولا بأول، وبما يتيح للسلطات العامة التحرك الفاعل وفى الوقت المناسب، ركز كثيرون على أهمية حماية الخصوصية الفردية والالتزام بقواعد حماية البيانات الخاصة المعمول بها فى الاتحاد الأوربى، وأن يكون التطبيق مؤقتا ولا يتجاوز عملية المكافحة للوباء، وألا تستخدم البيانات التى سيتم جمعها فى أية أغراض أخرى ويتم التخلص منها فورا بعد الانتهاء من وظيفتها المحددة بمكافحة الوباء. وينسب لأحد المسئولين الكبار فى المستشارية االألمانيه قوله أن الاستجابة الديكتاتورية كما فى الصين وتلك البطيئة كما فى الولايات المتحدة لا تناسب ألمانيا، فى إشارة الى ان إلزام المواطنين بتطبيق المتابعة سيكون مقيدا بالمبادئ الدستورية ولا يشكل انتقاصا من حقوق الأفراد وحرياتهم، وأنه يهدف الى التخفف التدريجى من قيود التحركات العامة والفردية وإجراءات العزل، وفى الآن نفسه تمكين السلطات من المواجهة الفعالة لتفشى المرض.
شيء من هذا الحوار المجتمعى تم على استحياء فى بريطانيا وفى الولايات المتحدة. وإن لم يتم التوجه نحو مبدأ الإلزام بتحميل تطبيقات المتابعة. لكن الشركات الأمريكية الكبرى فى مجال المعلومات وصناعة الهواتف النقالة تتجه إلى عمل تطبيق مشترك يعمل على أهم نظامين لتشغيل الهواتف، وهما أندرويد وأبل، يقوم بالمهمة الأساسية وهى تتبع المصابين أو المحتمل إصابتهم وتنبيههم إلى اتخاذ إجراءات العزل الذاتى أو التوجه إلى المشافى المتخصصة القريبة منهم، أو تبادل معلوماتهم افتراضيا وعن بُعد مع الجهات الصحية التى تنصحهم بالإجراءات المطلوبة، وبما يخفف الضغوط على الطواقم الصحية ويمنع إصابتهم بالفيروس. وهو نموذج يقال أنه لن يعتمد على حجز أو جمع البيانات الفردية فى حواسيب كبيرة، بل على صيغة التعامل مع هواتف الأفراد وحسب من خلال تكنولوجيا “البلوتوث”. وبهذا الإطار تريد هاتان الشركتان التأكيد على التزامهما بحماية الخصوصيات الفردية وأنها لن تستغل تلك البيانات الخاصة فى أمور بعيدة عن مواجهة تفشى الفيروس.
والحقيقة يصعب على المرء قبول مثل هذا الوعد، فالتطبيقات الحالية الشائعة والتى نحملها معنا فى هواتفنا النقالة ترصد كل كبيرة وصغيرة من تحركاتنا واتصالاتنا وتفضيلاتنا فى الشراء والسفر والقراءة والترفيه، ويتم توظيفه من قبل تلك الشركات العملاقة فى جلب الإعلانات وتوجيه السلوك الفردى والجماعى على السواء. ومع تحميل التطبيقات الصحية سيصبح الفرد مكشوفا تماما فى كل كبيرة وصغيرة تتعلق بحياته وبهمومه وتطلعاته، أمام هذه الشركات وربما مع الضغوط الحكومية يتم وضع كل هذا المخزون المعلوماتى لدى الجهات الرسمية، ما يجعل نظرية العين الكبيرة التى تراقب كل شئ وتتحكم فى كل شئ قابلة للتطبيق فى الواقع، ويضيع معها الحد الأدنى من الخصوصية والحريات الشخصية.
ولن نذهب بعيدا، ففى إسرائيل تأكد أن “الشاباك”، وهو أحد الاجهزة الاستخبارية التى تتبع مباشرة رئيس الوزراء ويتخصص فى تتبع المنظمات الفلسطينية وكل ما هو فلسطينى يُعتقد أنه يهدد إسرائيل، كان منذ عقدين يتتبع تحركات الإسرائيليين أنفسهم إلى جانب الفلسطينيين لأغراض يصفها بالأمنية، ويفرض الشاباك الآن على العمالة الفلسطينية التى تضطر للعمل فى داخل فلسطين المحتلة تحميل تطبيق يسمى “المنسق” تحت زعم أنه لمواجهة تفشى الفيروس، وحين يتم التحميل تظهر رسالة بأنه هذه البيانات سوف تستخدم أيضا لأغراض أمنية، ما يتيح مساحة تجسس وجمع بيانات هائلة، سوف توظف ضد الفلسطينيين لا محالة، إذ لا توجد أية ضمانات بأن انتهاء تفشى الوباء ستتوقف معه هذه التطبيقات التجسسية.
الحوار حول أهمية وضرورة تطبيقات التتبع لم يحدث فى الصين، نظرا لطبيعة نظام الحكم، والتى تُطبق بالفعل من قبل ظهور فيروس كورونا برامج تتعلق بالتعرف على الوجوه ومتابعة حركة الأفراد، من خلال نشر الكاميرات الحرارية فى الاماكن العامة. ثم جاء ظهور الفيروس ليدعم تعميم هذه التطبيقات بقوة كوسيلة مفيدة ورئيسية لمحاصرة انتشار المرض أولا بأول الى جانب استخدام تكنولوجيا الجيل الخامس التى تتيح التحكم فى الأشياء عن بُعد، وتنظيم الاجتماعات والتعليم ومتابعة وفحص المرضى افتراضيا بدون التلامس المباشر بين الأطباء والمرضى، كما تتيح التحكم فى عمل الروبوتات التى استخدمت فى المستشفيات وفى توصيل المواد الغذائية والأدوية للأسر المحتجزة فى منازلها، كما تتيح تبادل المعلومات الهائلة بين الجهات المعنية لأغراض البحث العلمى من أجل الإسراع للتوصل إلى علاج فعال للفيروس يليه اكتشاف لقاح ناجع.
وفى وسائل إعلام الصين تتعالى النبرة المؤيدة لهذه التطبيقات باعتبارها كانت السلاح الحقيقى الذى قضى على تفشى الوباء وحمى الأطقم الطبية وساعد على سرعة العودة إلى الأوضاع الطبيعية. وتتعالى النبرة أكثر فى التأكيد على الجوانب الإيجابية لتكنولوجيا اتصالات الجيل الخامس باعتبارها فرضت نفسها لتشكل أسلوب الحياة للصين ككل وللعالم أيضا. ولا شك أن تطبيقات الجيل الخامس تقدم فرصا هائلة فى كل مجالات الحياة تقريبا، ولكنها أيضا تضع قيودا هائلة على حركة الإنسان وحريته. وهنا تتجلى الاشكالية التى تتطلب حوارا مجتمعيا واعيا بحيث يمزج بين توظيف التكنولوجيات الحديثة فى الاتصالات وفى التحكم فى الأشياء عن بعد، ووضع ضوابط قانونية صارمة على الجهات المقدمة للخدمة بحيث لا تتحكم فى حياة المواطنين، أو تبتزهم إنسانيا وسياسيا وفكريا وسلوكيا. إنه الحوار المجتمعى الذى لا مفر منه، ولا مفر من البدء فيه دون تقاعس.
لقد فرضت مكافحة فيروس كورونا الكثير من الإشكاليات، وإشكالية الحرية والحق فى الحياة ووفق أى معايير وضوابط، لا تقل أهمية عن إشكالية التوصل إلى دواء للعلاج واخر للقاح. وسوف تكشف الأيام المقبلة عن إشكاليات أخرى لا محالة، وربما تتجه الأمور لحسم بعضها إلى احتكاكات عنيفة بين الدول الكبرى لحسم من سيقود عالم ما بعد كورونا. ولا يتصور أحد أنه فى منجى مما سيأتى، فالعالم أكثر تشابكا وأكثر تعقيدا منذ أكثر من ستة عقود مضت.
نقلا عن جريدة الأهرام، نُشر في 13 أبريل 2020