من الأسئلة الحاضرة فى متن مشهد تهديد فيروس «كورونا»، هو أين ذهب الإرهاب وسط تلك الموجة العاتية من العدوى والإصابات ووفيات الضحايا، باعتبار التساؤل يتلمس جانباً آخر من التهديد، تزامناً مع ما يشهده العالم من الأخطار الصحية. هل أصاب الإرهاب «رهبة» أو «صدمة» الموقف، ليستكين إلى حين حتى تمر العاصفة، ومن ثم يعاود انطلاقه على خُطى أجندته القديمة. أم كانت فاجعة الموت التى تحصد الأرواح فى العالم أجمع، كفيلة بأن تصدم الإرهابيين، للحد الذى يدفعهم إلى إعادة النظر فى جلال الموت، والوقوف مع حالة التوحّد الإنسانى المتنامية الآن، المتمثلة على الأقل فى حجم المتابعة والقلق من أعداد وأماكن الضحايا.
الإجابة عن هذه الأسئلة يقيناً ستكون بالنفى، رغم الخفوت النسبى فى وتيرة العمل الإرهابى المسلح، على مختلف ساحات النشاط الذى كان قُبيل «عاصفة كورونا» حاضراً ومستقراً فيها. ربما فى العادة يتحرك كل تنظيم أو كيان فرعى محلى وفق أجندته الخاصة، وحسب حالة مسرح العمليات الذى يوجد فيه، لكن يبقى الظرف العام الذى يمر به العالم اليوم استثنائياً إلى حد كبير، وهو الذى أسهم بصورة أو بأخرى فى حالة الخفوت، أو ربما تقييد مؤقت للبنادق فى انتظار مرور الجائحة، حتى يصبح للفعل الإرهابى مغزى من وجهة نظر التنظيمات، والمغزى هنا بمعنى تحقيق خطوات على أجندة الأعمال. الظاهر أن هذه الأجندة العامة جرى تجميدها من قِبل رعاة التنظيمات الإرهابية، فهؤلاء الرعاة اليوم فى درجة انشغال وعدم يقين تجعل حساباتهم مقيّدة، على الأقل فى المدى المنظور لحين الخروج من العاصفة، وتلك المحطة تجعل مجرد الاستمساك بالأرض هى التعليمات التى يمكن دفعها إلى التنظيمات، دون التورط فى مسارات غير مأمونة النتائج، باعتبار رمال عاصفة كورونا قادرة على محو أى آثار قد يجرى العمل عليها الآن.
لكن رؤية وتكتيكات التنظيمات الإرهابية، تتقاطع أو تتباعد فى أحيان عدة عن رؤى المشغلين من الخلف، مما يدفعها لأن تذهب بعيداً بحسابات ما تراه عاجلاً وواجباً على أرض اللحظة. فمؤخراً، وعلى هامش الانشغال الكبير بأحداث فيروس كورونا، كانت إحدى ساحات العمل الإرهابى على موعد مع مثل هذا الاختلاف اللحظى، والتضارب الخططى الذى بدا جلياً فى أفغانستان، خلال تنفيذ فرع داعش هناك المسمى بـ«ولاية خراسان»، إحدى عملياته الكبيرة التى يستهدف فيها عادة الأقليات الدينية، عبر الهجوم الذى نفّذه على معبد للهندوس والسيخ فى 25 مارس الماضى، والذى أسفر عن مقتل نحو 30 شخصاً وإصابة 80 آخرين. يعتبر تنظيم «داعش»؛ كلاً من أفغانستان وإيران وباكستان وبعض أجزاء من آسيا الوسطى، أنها «ولاية خراسان» التابعة للخلافة الإسلامية المزعومة. لهذا السبب يطلق على أعضاء «التنظيم» فى أفغانستان ومحيطها، منذ تأسس هذا الفرع فى يناير 2015 «دواعش خراسان»، وقد أثبت هؤلاء المقدّر عددهم بنحو 3000 عنصر، أنهم يتفوقون على «طالبان» فى إظهار ممارسات القتل والعنف، وقد أسّسوا لهذا الأمر عبر هجمات انتحارية عدة كان أبرزها موجهاً ضد المساجد الشيعية فى البلاد، وضد معابد وكنائس بالهند وكشمير وإندونيسيا أيضاً.
وما يوضح أنه كان هناك تناقض بين رعاة هذا التنظيم، وقيادات العمل التنفيذى به، أنه بعد تبنى «التنظيم» الهجوم الأخير، أعلن بعد نحو أسبوع على الأكثر، سقوط قائد التنظيم على نحو مفاجئ مع 19 من القيادات الأبرز، فى قبضة القوات الأمنية الأفغانية فى عملية أمنية وُصفت بـ«النوعية»! هذا حدث غير اعتيادى بالمرة، ربما فى أفغانستان على وجه الخصوص، تلك الدولة الهشّة التى تتمكن التنظيمات فيها من تأمين حضورها وتمركزها، بمناطق يصعب على الأمن الوصول إليها لسنوات، مثلما جرى مع القاعدة، ومن بعدها طالبان خلال عقود. لذلك جاء سقوط «عبدالله أوركازى» المعروف باسم «أسلم فاروقى» زعيم التنظيم الحالى، ليفتح الكثير من التساؤلات المهمة حول طبيعة تلك العملية التى وصلت إلى عنقه فى تلك الفترة الوجيزة، خاصة أنه لم يكن وحده، بل جاء وسط التسعة عشر عنصراً اثنان من المعتقلين الآخرين، هما «قارى زاهد» المعروف باسم «معاذ»، الذى يشغل موقع القائد العسكرى لتنظيم داعش فى أفغانستان، و«سيف الله» المعروف باسم «أبوطلحة الباكستانى»، المسئول عن تجنيد العناصر فى مختلف فصائل تنظيم داعش بـ«ولاية خراسان».
«أسلم فاروقى» صاحب الأصول الباكستانية ليس قيادياً اعتيادياً، فهو ينحدر من منطقة أوركيزى بباكستان وعمل سابقاً كمسئول عسكرى فى «بيشاور»، ليتمكن من تأسيس نفوذ كبير وتحالفات مؤثرة فى المنطقة الحدودية الأفغانية الباكستانية. أبرز تلك التحالفات كانت الصلات الواسعة مع جماعة «لشكر طيبة» الباكستانية، التى صنّفت منذ عام 2012 منظمة إرهابية عالمية، رغم الشكوك التى ظلت تحوم حول صلتها بالمخابرات الباكستانية، إلى أن اضطرت الأخيرة إلى إلقاء القبض على زعيمها «حافظ سعيد»، بعد أن ثبت ضلوع الجماعة فى هجمات مومباى 2008 التى أوقعت أكثر من 170 قتيلاً. «فاروقى» كان له ارتباط أيضاً مع «شبكة حقانى» المسلحة؛ التى شغل مؤسسها «جلال الدين حقانى» منصباً وزارياً فى حكومة طالبان، قبيل الغزو الأمريكى لأفغانستان. داخل صفوف تلك الشبكة، قضى «أسلم فاروقى» سنوات قبل أن يخرج ليتدرّج فى المناصب القيادية لتنظيم داعش، الذى وصل المنطقة وأسّس لـ«ولاية خراسان»، اعتماداً على عناصر قديمة نافذة. اليوم ليس السؤال هو من قام بتسليم «فاروقى» ورفاقه بتلك السرعة، فهذا معلوم بوضوح ما استقر عليه المشغلون للتنظيمات، ثمة صيغة ما جرى التوافق عليها فى تلك الساحة قبل أن يأتى التنظيم ليحاول العبث بها، هنا جاء الإيقاع به على هذا النحو. يبقى الأهم هو أن المؤشرات جميعها تؤكد أن أجندة الإرهاب ماضية رغم انحسار الأموال وتقييد حركتها إلى حين، فما زال الطلب عليها حاضراً، طالما لم يستقر الحسم فى سباقات النفوذ والسيطرة والصراعات المفتوحة.
نقلا عن صحيفة “الوطن”، نشر بتاريخ ١٤ أبريل ٢٠٢٠.
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية