كلما يمر المرء على أحوال اليمن يدرك أن مصيبته الكبرى هى في بعض رجاله لا يهمهم شأن من يحكمون ويتطلعون إلى انتصار موهوم، ولا يعتبرون لنزيف الدماء وحال الخراب الذي أصبح عادة يومية. فبالرغم من أن اليمن لم يشهد بعد انتشارا لوباء كورونا المستجد، اللهم حالتين في حضر موت، فإن التعويل على أن يبقى الأمر تحت السيطرة في ظل الصراع العسكرى لا يعدو أن يكون وهما كبيرا، ومخاطرة لا قبل لأحد بالتحكم فيها. وكما فرض وباء كورونا تحولات كبرى في سلوك البشر جميعا وحكومات الدول كافة، لا يبدو أن ساسة صنعاء مدركين لخطورة هذا المرض بالقدر الكافى. والأدهى من ذلك أن الإعلام الذي تسيطر عليه جماعة “أنصار الله” يرى الأمر وكأنه مزحة ولعبة لعبها الأمريكيون ولكنها رُدت عليهم، وأن من ينصحهم بالحذر والتجاوب مع جهود الأمم المتحدة لوضع القتال جانبا والبدء في بناء الثقة مع الحكومة اليمنية، وصولا إلى عملية سياسية تعيد السلم لليمن والاستقرار لشعبه، لا يعدو أن يكون سوى عميلا للاستكبار العالمى يسعى إلى استغلال الانشغال العالمى بمكافحة الفيروس لضرب اليمن نوويا بعد أن ينشر فيها الوباء، كما قال أحدهم وردده أخرون في موقع للجماعة الحوثية. وكأن القنابل النووية مزحة يلعب بها الصغار على قارعة الطريق.
عمليات التحريض من أنصار عبد الملك الحوثى ضد الأمم المتحدة والمبعوث الدولى مارتن غريفيث لم تتوقف، والرجل موصوم بأنه لا قيمة له ولا يقدم ولا يؤخر، ويهتم بأن يبقى في المنصب الدولى وحسب، ولذا فلا قيمة للتواصل معه أو التفاعل بحكمة مع أفكاره التي قدمها من قبل أو تلك التي صاغها أخيرا في صورة عملية من ثلاث خطوات مترابطة مع بعضها البعض؛ الأولى وقف إطلاق النار يشمل عموم اليمن ويكون خاضعاً للمساءلة، وثانيا مجموعة من التدابير الاقتصادية والإنسانية للتخفيف من وطأة المعاناة عن الشعب اليمني وبناء الثقة بين الأطراف. وثالثا الالتزام باستئناف العملية السياسية. فضلا عن تعزيز وتنسيق الجهود بين الأطراف اليمنية ومنسق الأممى للشؤون الإنسانية لمواجهة تهديد التفشي المحتمل لفيروس كورونا المستجد. ويضيف غريفيث ان الأمم المتحدة على استعداد لتوفير ضمانات لإنجاح العملية برمتها.
الخطوات الثلاثة مترابطة، وإذا خلصت النوايا ووجدت الإرادة السياسية من كل الأطراف فمن الممكن أن يضع اليمن خطواته الأولى على طريق بناء دولة جديدة لكل مواطنيها بدون تفرقة بين شمالى أو جنوبى، بين عدنى أو صنعانى. وفى الوقت الذي اتخذ فيه التحالف الداعم للحكومة اليمنية قراراه بوقف إطلاق النار لمدة أسبوعين لتهدئة الجبهات العسكرية والالتفاف الجدى نحو تهديدات فيروس كورونا من جانب باعتبارها مهمة إنسانية عاجلة غير قابلة للتأخير، والتمهيد عمليا للتعامل الجاد مع مبادرة المبعوث مارتن غريفيث، أصر من يعرف بالمتحدث العسكرى للحركة على استمرار القتال، ورد الزحوفات التي قام بها الجيش اليمنى.
ومرة ثانية فإن الاعلام الحوثى يقدم المبررات لعدم الاهتمام بوقف إطلاق النار، بل ويحرض على استمرار العمليات العسكرية ضد الجيش اليمنى، ويعد بالنصر وتحرير المحافظات التي تسيطر عليها الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا، والكل يردد مقولة عبد الملك الحوثى زعيم الجماعة أن وقف إطلاق النار ليس سوى مناورة سياسية وحسب ليغطى على هزائمهم. وعمليا فقد قامت المجموعات العسكرية التابعة لجماعة أنصار الله بمحاولة الاستفادة من وقف إطلاق النار لتعديل الأوضاع العسكرية في عدة جبهات منها البيضاء والجوف ومأرب ونهم وتعز ولحج، ما يعكس الطريقة التي تفكر بها الجماعة، استنادا الى قناعة تروج لها بكثافة بين اليمنيين المشمولين بسيطرتها بأن الانتصار الشامل قاب قوسين أو أدنى وتحرير اليمنيين لا رجعة عنه، وأن الطرف الأخر لديه انقسامات سياسية تحول بينه وبين أن يحافظ على المواقع التي يحكمها، أما الصناعات العسكرية اليمنية الحديثة، حسب وصفهم، فسوف تقلب الموازين رأسا على عقب قريبا جدا. فضلا عن الكثير من هذه المقولات ومثيلاتها والتي تعكس رؤية بعيدة عن الواقع من جانب، ولا مبالاة راسخة بأوضاع اليمنيين المهترئة من جانب آخر.
القناعة الحوثية على هذا النحو تحفز على استمرار الصرع ودفع اليمن الى هوة سحيقة لا قرار لها. بعض المحللين العرب الذين ينظرون إلى نصف الكوب الفارغ، يعتبرون موقف عبد الملك الحوثى من كهفه السحيق هو عين الصواب، بعضهم يجاهر بالمحبة لليمن واليمنيين، ولكنهم لا يقدمون النصيحة الحقة. بعض نصائحهم تعطى للحوثى ثقة زائفة بنصر قريب لن يأتى قط. هم يعلمون قبل غيرهم أن خدعة الصناعات العسكرية اليمنية الحديثة التي تحمل الضرر والدمار لجيران اليمن لا صحة لها، ولا قدرة أصلا لصنعاء في ظل الظروف الراهن بأن يكون لديها صناعات حربية حديثة، وهم يعلمون قبل غيرهم أن الصواريخ التي تستهدف السعودية ويُهدد بها الإمارات ليست سوى صناعة إيرانية جملة وتفصيلا.
من المحزن أن تضيع فرصة تلو أخرى، يمكن أن تنهى نزيف الدم اليمنى. ومن المحزن أكثر أن تطالب جماعة أنصار الله بفرض شروطها حول ما تعتبره تسوية شاملة يتوقف فيها القتال اولا وترفع القيود على حركة الجماعة ومسلحيها ويفرج عن اسراها دون أن تقدم أى شئ في المقابل، وبدون حتى المشاركة في مفاوضات برعاية أممية، وكأنها سحقت الطرف الأخر تماما وتطالبه بإعلان الاستسلام وقبوله الاذعان لسلطة الجماعي على كل البلاد. والمفارقة الأكبر هنا هو ذلك التصور الذي لا أساس واقعى له أن جماعة معينة قادرة بمفردها على ابتلاع اليمن بكل تنوعه وكل الحساسيات التي تشكلت خلال العقود الأربعة الماضية، بين المناطق والمحافظات والأقاليم المختلفة، والتي بدورها بحاجة الى فكر إنساني منفتح يرنو إلى الحق في الحياة الكريمة كأساس لحكم البلاد، وأن يتخلص من نزعات التسلط والتفوق الكاذب التي تشد الجميع الى الوراء.
في السياق ذاته، ثمة جهد أكبر على الحكومة اليمنية والتحالف المساند لها، أن تبذله من أجل أن تقنع اليمنيين المغيبين بفعل الهجمة الحوثية، بأن قدر اليمن هو في السلام وليس الحرب. المشكلات التي تعاني منها حكومة معين عبد الملك بحاجة إلى وقفة جادة وتحديد رؤية وأسلوب احترافى لحل المشكلات الأمنية والحياتية لكل المحافظات التي بحوزتها كخطوة مهمة وضرورية لإقناع اليمنيين شمالا وجنوبا وشرقا وغربا بأنها حكومة جديرة بالثقة من أجل السلام والبناء.