النائب في البرلمان التركي عن “حزب الجيد” المعارض “أوميت أوزداغ”، عقد بداية هذا الأسبوع مؤتمرًا صحفيًّا في مقر البرلمان، كشف فيه على نحوٍ مفاجئٍ مقتل عناصر من المخابرات العسكرية التركية، كان الرئيس “رجب أردوغان” قد دفع بهم لدعم الميليشيات والجماعات المسلحة في ليبيا، التي يقودها التنظيم الدوليّ لجماعة الإخوان الإرهابيّة.
أكّد النائب “أوزداغ” أن هؤلاء القتلى عادوا ودُفنوا في تركيا دون مراسم أو جنازات رسميّة، بتعليماتٍ مباشرةٍ من “أردوغان” لتفادي موجة الغضب والاحتقان الشعبيّ ضده، خاصةً في ظل ما تعانيه تركيا من تداعيات انتشار إصابات فيروس كورونا؛ حيث يرى الداخل التركيّ أن الرئيس “أردوغان” استغل الظرف الاستثنائيّ الذي يمرون به، كي يزيل بعض آثار توريط بلادهم في حروب وأزمات خارجية.
تسبب المؤتمر الصحفي، وما جاء على لسان النائب المعارض، في حالة غليان كبيرة بدوائر الحكم المحيطة بـ”أردوغان”؛ مما دفع الأخير إلى الإيعاز للسلطات التركية بملاحقة النائب “أوميت أوزداغ”، وتقديمه للمحاكمة بتهمة إفشاء معلومات سرية، والتعدي على قانون جهاز المخابرات والخدمات الاستخباراتية، لتقوم النيابة العامة التركية بمطالبة البرلمان برفع الحصانة عن النائب للتحقيق معه.
هذه المعلومات أكدها اللواء “أحمد المسماري” قبل أيام، بل وحدد أن العناصر الاستخباراتية التركية تضم 3 ضباط ومجموعة من الأفراد قُتلوا بالفعل، بعضهم في طرابلس وآخرون في قاعدة “مطار معيتيقة”، أثناء العمليات العسكرية للجيش الليبي ضد القاعدة التي يتمركز فيها الخبراء الأتراك، وتُستخدم كمقر للطائرات المُسيَّرة، حيث يقوم بإدارة جهدها العسكريّ “غرفة العمليات” غير السريّة التي توجد بالقاعدة ذاتها.
الحقيقة أن مشهد المأزق المتنامي لم يقتصر على النائب “أوميت أوزداغ” رغم ما أحدثه مؤتمره الصحفي من دويٍّ كبير، فهو لم يكن الأول الذي كشف هذا الأمر، حيث بدا أنه معلوم لكثيرين، وأن حديث النائب جاء بمثابة إزاحة مزيدٍ من الغطاء عن تفاصيل أكثر مما ذُكر سابقًا، وفي قاعة للبرلمان اكتظّت بالصحفيين ومراسلي وسائل الإعلام.
تقرير نشرته صحيفة “أحوال التركية” تعليقًا على التمهيد لمحاكمة “أوزداغ”، أفاد بأنه سبق اعتقال ستة صحفيين، ورفع الحصانة عن نائب آخر من “حزب الشعب الجمهوري” للسبب ذاته. وممن جرى اعتقالهم من الصحفيين كلٌّ من “باريش تورك أوغلو” (مدير الأخبار بموقع “أودا تي” الإخباري)، ومراسلة الموقع “هوليا كيلينتش”، بعدما نشر الموقع أنباء مؤكدة -وفق مصادرهم- عن مقتل عناصر تابعين للمخابرات التركية في ليبيا، ونقلهم إلى تركيا ودفنهم سرًّا. كما تم اعتقال رئيس تحرير الموقع “باريش بهلوان” بعد أن تحدث علانية عن هذه القضية، لتُقرر المحكمة التركية على الفور حجب الموقع. كما شملت الاعتقالات بسبب التقارير عن جنازات العسكريين القادمين في نعوش من ليبيا، الكاتب “مراد أجيرال” الذي يعمل بصحيفة “يني تشاغ”، و”آي الدين قيصر” مدير الأخبار بصحيفة “يني يشام”، فضلًا عن رئيس تحريرها “فرحات تشيليك”.
القضية تعود إلى بداية الشهر الجاري، عندما كشف تقرير صحفيّ -نشره الخميس الماضي موقع “نورديك مونيتور” السويدي- ألغازَ تكتّم السلطات التركية على مقتل ضابط رفيع في الاستخبارات التركية بليبيا الشهر الماضي، بعد أن أثارت جنازته التي تمّت سرًّا جدلًا واسعًا في تركيا، وصلت حدّ توقيف الأمن التركي لـ”باريش تورك أوغلو” (مدير الأخبار بموقع “أودا تي”) بسبب تقرير تحدث عن تشييع جثمان الضابط المقتول في طرابلس، وكشف فيه أن ضابط الاستخبارات التركية المتقاعد منذ أقل من عام العقيد “أوكان ألتيناي”، تم استدعاؤه للخدمة مجددًا بشكل مفاجئ ثم أُرسل إلى ليبيا، حيث رجّح التقريرُ أنه أُرسل إلى هناك في عملية مدبّرة للتخلص منه.
المصادر العسكرية التركية ذكرت للموقع السويدي، أن الهدف من إرسال العقيد المتقاعد إلى ليبيا هو التخلص منه، كونه شاهدًا رئيسيًّا وعلى اطّلاعٍ واسعٍ بصلات حكومة الرئيس التركي “رجب أردوغان” بالإرهابيين والجماعات المسلحة. ونقل الموقع عن ثلاثة مصادر مقربة من الاستخبارات العسكرية التركية قولهم، إن “جهاز الاستخبارات التركي (إم آي تي) كان يدبر لاغتيال ألتيناي الذي قُتل في قصف على ميناء طرابلس”، مؤكدين أن الجهاز الاستخباراتي تعمد إرساله إلى ليبيا للإيقاع به. حينها تكتمت السلطات التركية بشدة على مقتل العقيد السابق، الذي أرسل إلى ليبيا للإشراف على نقل شحنات الأسلحة لحكومة “فائز السراج”، إلى أن فضحت تقارير إعلامية ونشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي عملية دفنه سرًّا.
المثير أيضًا أن العقيد “أوكان ألتيناي” كان على خلافٍ كبيرٍ مع فصيل رئيسي داخل وكالة الاستخبارات العسكرية التركية، بعد أن كشف أنه يعمل مع الجماعات المسلحة في سوريا، ليقوم حينها بإبلاغ قيادة الأركان العامة بشأن أنشطة هذا الفصيل السرية واعتراضاته عليها.
“ألتيناي” كان قد عمل لسنوات في مديرية الاستخبارات بهيئة الأركان العامة للجيش التركي، وحضر الكثير من الاجتماعات السرية للمعارضة السورية المسلحة والجماعات المتطرفة مع المسئولين الأتراك. حينها كان “ألتيناي” مكلفًا من هيئة الأركان بحضور هذه الاجتماعات في أنقرة وإسطنبول، لمراقبة وتسجيل ما يجري من اتصالات، لعدم ارتياح الهيئة لصلات جهاز الاستخبارات العسكرية التركية الوثيقة بالجماعات المتطرفة، وعلى رأسها تنظيم “القاعدة” الإرهابي. هذا الاقتراب غير المرحب به وتلك الانكشافات، دفعت العقيد “ألتيناي” إلى الاصطدام مرارًا مع ذراع “هاكان فيدان” رئيس جهاز الاستخبارات، وهو العقيد “كمال إسكنتان” الذي يتولى الآن منصب رئيس قسم العمليات الخاصة، والمقرب بشكل كبير من “أردوغان”، والذي يعتمد عليه وفريقه الفاسد -بحسب وصف “ألتيناي”- في مهام إدارة وتسليح المجموعات التابعة لـ”القاعدة” في سوريا.
العقيد “ألتيناي” الذي عمل في الأردن نائبًا للملحق العسكري بين عامي 2010 و2012، عاد بعدها إلى تركيا ليعمل في مكتب الشرق الأوسط بهيئة الأركان العامة لمدة ثلاث سنوات، ثم تقاعد من الجيش عام 2015 قبل أن يجري استدعاؤه مؤخرًا، فعندما بدأ عدوه اللدود “إسكنتان” في إدارة الجماعات الإرهابية بليبيا بأمر من “أردوغان” و”هاكان فيدان”، كلف بعدها “ألتيناي” مباشرة أيضًا بالعمل في طرابلس، لتثور الكثير من الشكوك بين أقرانه حول طبيعة وسبب هذا التكليف، الذي بدا كحكم صدر من الرجلين بوجوب اغتياله.
نقلا عن جريدة الدستور، ٢٣ أبريل ٢٠٢٠