عندما يتم تقييد حركة ثلثي الجنس البشري ووضعهم قيد الاحتجاز المنزلي؛ وتتوقف حركة السفر عبر حدود الدول، ويتوقف الاقتصاد إلا فيما هو ضروري لاستمرار الحياة، فنحن بالتأكيد إزاء أزمة كبرى تضع اقتصادات الدول، والنظم الاجتماعية القائمة، وشرعية الحكومات تحت مستوى من الضغوط لم يحدث منذ الأزمة الاقتصادية الكبرى عام 1929. وسوف تغير هذه الضغوط كثيرا من الظواهر التي سادت العالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وهذه بعض من اتجاهات التغير المرجحة في عالم ما بعد كورونا.
إعادة الاعتبار للاقتصاد الحقيقي: بينت الأزمة أن القدرة على إنتاج احتياجات أساسية مثل الغذاء والدواء والمهمات الطبية هي الأساس، وأنه من غير المأمون التضحية بقطاعات الاقتصاد الحقيقي والإنتاج المادي، لصالح القطاعات المالية والخدمات ذات الربحية الأعلى. لقد حاول الرئيس ترامب منذ انتخابه استعادة الصناعات التي هاجرت من الولايات المتحدة إلى الصين، وبغض النظر عن طريقة الرئيس ترامب المثيرة للجدل، فإننا سنرى حكومات كثيرة حول العالم تتصرف بطريقة مشابهة، بما يخفف من اختلال التوازن بين قطاعات الإنتاج والخدمات. التحدي الذي يعترض هذا التحول هو أن قطاعات الاقتصاد الحقيقي، خاصة في ظل التطور التكنولوجي المتسارع، لم تعد قادرة على خلق العدد الكافي من الوظائف، مما يبقي الحاجة الملحة لقطاع الخدمات قائمة.
اقتصاد الطوارئ وليس اقتصاد الربح: لقد عجز النظام الاقتصادي القائم عن توفير احتياجات أساسية، من نوعية أدوات الحماية الشخصية ضد العدوى والمطهرات وأجهزة التنفس الصناعي، وهو ما أضعف الثقة في نظام السوق الرأسمالي العالمي. لقد وعدنا هذا النظام بأنه يستطيع أن يؤمن لنا أي منتجات تلزمنا عندما نحتاجها، وبتكلفة مناسبة، وأنه لا داعي للمبالغة في المخاوف، واتخاذ إجراءات خاصة لتخزين أو تأمين توفير منتجات ذات حساسية خاصة، فالسوق العالمي كفيل بتوفير أي شيء في الوقت المناسب. لقد تبين أن اقتصاد الربح غير قادر على الوفاء بوعده، وأن على الحكومات تأسيس نظام لاقتصاد الطوارئ لسد الحاجة عندما تحين الأزمة التالية، حتى لو تضمن ذلك إهدارا للموارد، والتضحية باعتبارات الكفاءة الاقتصادية.
إعادة التوازن بين الكماليات والاحتياجات الأساسية. لقد تصرف العالم لفترة طويلة كما لو كان توفير الأساسيات أمرا مفروغا منه، ولهذا ذهبت الاستثمارات الجديدة والطاقات الإبداعية الهائلة إلى مجالات الترفيه والرياضة والفنون والتعبير. لقد كشفت كورونا عن أوجه الاختلال في هذه الصيغة، وبينت أنه لا بد من إعادة التوزان لهذه العلاقة، فلا يصبح أجر الطبيب أقل من أجر لاعب كرة مغمور في فريق معدوم المشجعين، ولا يصبح أجر الممثل عن فيلم واحد مساويا لكل ما يمكن لعشرة مدرسين كسبه طوال حياتهم. سوف يكون من الضروري في مرحلة ما بعد كورونا استخدام الضرائب بطريقة مختلفة تسمح بالتمييز بين الأنشطة المختلفة، ومدى إسهامها في تلبية احتياجات المجتمع.
تعاظم الدور الاقتصادي للدولة وتراجع دور آليات السوق: تفرض التحولات، التي سوف يكون مطلوبا إدخالها في الاقتصاد، إدخال عوامل إضافية إلى جانب الربح عند اتخاذ القرارات الاقتصادية. أن الربح هو الدافع الوحيد للمستثمر الخاص، وليس من الواقعي مطالبة القطاع الخاص التصرف وفقا لأي منطق آخر. لهذا فإنه من المرجح أن تسفر أزمة كورونا عن زيادة الدور الاقتصادي للدولة، من أجل معالجة الاختلالات التي كشفت عنها الأزمة في الطريقة التي يعمل بها الاستثمار الخاص ونظام السوق؛ فوظيفة الدولة هي حماية المجتمع، فيما وظيفة السوق هي إنتاج الثروة وتعظيمها، وسيكون من الضروري إعادة صياغة العلاقة بين هذين النوعين من الاعتبارات في مرحلة ما بعد كورونا.
إعادة الاعتبار لحدود الدولة: لقد تم إضعاف حدود الدولة في عصر العولمة، وتم تخفيف القيود المنظمة للحركة عبر الحدود في الاتجاهين. كان كل هذا مشروطا بالتزام أغلب الدول الرئيسية بتسهيل الحركة عبر حدودها، وبإبقاء الحدود مفتوحة طوال الوقت، ولكن ما حدث في أزمة كورونا هو أن الحدود قد تم إغلاقها أمام صادرات طبية أساسية بسبب الحاجة لها في الداخل. لقد قوض التلاعب بنظم الحركة عبر الحدود، والانتقائية في تطبيق قواعد حرية التجارة من فرضية وجود سوق عالمي واحد بغير حدود تقسمه، لا يميز بين الناس على أساس جنسياتهم، فالجميع متساوون أمام قواعد العرض والطلب التي لا تعرف الحدود، ولا تميز على أساس الجنس والعرق واللون، طالما كانت القدرة الشرائية متوافرة. لقد أعادت أزمة كورونا للحدود الكثير من أهميتها القديمة، خاصة عندما أصبح إغلاق الحدود وتقييد السفر عبرها هو الأجراء الأساسي في منع انتشار الفيروس، وفي الإبقاء على الاحتياجات الأساسية داخل الحدود لتلبية حاجة المواطنين.
أبعاد جديدة للتنافس بين الديمقراطية والسلطوية: لقد كان أداء بعض النظم السلطوية مميزا في هذه الأزمة. ينطبق هذا بشكل خاص على دول مثل الصين وسنغافورة وفيتنام. صحيح أن أداء بعض النظم السلطوية كان كارثيا، إيران مثلا، إلا أن الملفت للنظر بدرجة أكبر هو ذلك الأداء الرديء الذي ميز العدد الأكبر من الديمقراطيات الغربية، وأنه لولا الأداء الجيد لديمقراطيات أسيوية مثل كوريا وتايوان واليابان للحقت وصمة الأداء الرديء بكل الديمقراطيات تقريبا. لقد حرمت أزمة كورونا الديمقراطيات من مواصلة القدرة على الادعاء بأن أدائها أكثر كفاءة وفاعلية من النظم السلطوية، فبينت أن كفاءة الأداء هي أمر مستقل عن طبيعة النظام السياسي في أفضل الأحوال.
تجدد الاحتجاجات الجماهيرية: أدى انتشار الوباء إلى إخماد الاحتجاجات الجماهيرية، لكن الوباء الذي سينتح أسوأ ازمة اقتصادية شهدها العالم في تسعين عاما، سيكون سببا في إطلاق موجة جديدة من الاحتجاجات الشعبية في مرحلة لاحقة. إن عدم كفاءة كثير من الحكومات في إدارة الأزمة، بالإضافة إلى الصعوبات الاقتصادية المترتبة على الإغلاق، ستتسبب في موجة احتجاجات شعبية وعدم استقرار سياسي كاسحة؛ وبينما قد تتسبب أزمة كورونا في تغيير شكل العلاقات بين الدول، فإن التغييرات التي ستحدث داخل الدول ستكون أكثر خطورة بكثير.