سبقني كثيرون في الرد على ما طرحه المدعو نيوتن حول سيناء . أمور كثيرة في طرحه هذا مازالت تستحق الرد والتفنيد، لكني سوف أتعرض هنا بصفتي، أحد المعنيين بالدراسات والخبرات التنموية الآسيوية، لاستشهاده الخطأ ببعض هذه الخبرات. لقد أشار المدعو نيوتن إلى هذه الخبرات باعتبارها نماذج استرشادية لإعادة بناء العلاقة بين سيناء والدولة المصرية كشرط -من وجهة نظره- لتنمية سيناء . يقول: لن يجمع الأقليم بالدولة إلا السياسة الخارجية والدفاع المسئول عن حماية الحدود… لن نضيع وقتا في اختراع نظم وقوانين جديدة. سنستعير النظم والقوانين المطبقة في دول ناجحة مثل سنغافورة أو ماليزيا أو هونج كونج. الفرض الضمني هنا أن تنمية سيناء تتطلب إعادة النظر في العلاقة بين سيناء والدولة في اتجاه الأخذ بقواعد النظام الفيدرالي (السياسات الداخلية للإقليم، والخارجية والدفاع للحكومة المركزية).
وسوف أفترض هنا أن ما طرحه المدعو نيوتن يخلو من نوايا سيئة، وأننا مازلنا في إطار نقاش موضوعي. وهنا أشير إلى عدد من المغالطات الخطيرة التي تضمنها طرحه هذا، مستغلا (هو) جاذبية النماذج الآسيوية التي أشار إليها. المغالطة الأولى، هي الخلط بين شكل الدولة واستراتيجية التنمية، وصل إلى حد اعتباره أن الدولة الفيدرالية شرط ضروري لتحقيق التنمية، وكأن دولا أخرى لم تعرف في تاريخها السياسي النظام الفيدرالي، ومع ذلك نجحت في بناء نماذجها التنموية. وفي المقابل، هناك دول عديدة تأخذ بهذا النظام، ومع ذلك مازالت غارقة في التخلف و الصراعات السياسية . لا توجد أي علاقة بين الظاهرتين؛ لا الدولة الفيدرالية كانت شرطا ضروريا للتنمية، ولا الدولة البسيطة الموحدة كانت سببا لتخلفها! أكثر من ذلك، فإن نموذج الدولة الفيدرالية لم يتطور تاريخيا لدوافع تنموية بقدر ما تطور لدوافع سياسية تتعلق بوجود انقسامات دينية أو عرقية استوجبت الأخذ بهذا النموذج.
المغالطة الثانية، تتعلق بالنماذج الثلاثة المشار إليها. صحيح أن ماليزيا تأخذ بنظام الدولة الفيدرالية، لكن من قال إن التنمية تحققت بسبب هذ ا النظام الفيدرالي ؟ فهو سابق على بدء تجربة التنمية. الأخيرة تعود إلى بداية الثمانينيات فقط، بينما الأخذ بالفيدرالية يعود إلى نشأة الدولة الماليزية نفسها. الأهم، أن التجربة الماليزية تؤكد مرة أخرى أن الأخذ بالفيدرالية لم يكن له أي علاقة بدوافع تنموية ولم يكن جزءا من استراتيجية تنموية، بقدر ما كان راجعا إلى طبيعة المجتمع الماليزي الذي يعاني انقساما دينيا وعرقيا شديدا. الفيدرالية لم تكن حلا تنمويا بقدر ما كانت نتيجة لواقع جغرافي وديموغرافي معقد؛ ومع ذلك لم تحل الفيدرالية دون دخول هذه المكونات العرقية والدينية في حرب أهلية كما حدث في أواخر الستينيات. وتأتي حالة سنغافورة لتؤكد هذه الحقائق السابقة. سنغافورة دولة بسيطة، لم تعرف قط النموذج الفيدرالي إلا عندما كانت جزءا من ماليزيا قبل أن تنفصل عنها عام 1965، ولا نظرية الأقاليم الخاصة، ومع ذلك نجحت في تحقيق نموذجها التنموي استنادا إلى قراءة دقيقة لخصوصيتها الجغرافية. نأتي إلى النموذج الثالث، وهو هونج كونج. صحيح أن علاقة هونج كونج بالصين الأم هي علاقة خاصة، تقوم على مبدأ (دولة واحدة ونظامان) حيث تتمتع هونج كونج بهامش من الاستقلالية في إدارة شئونها وسياساتها الداخلية في مواجهة الحكومة المركزية، لكن يظل هناك عدد من الحقائق الدامغة التي أغفلها نيوتن . الأولي، أن معدلات التنمية المرتفعة في هونج كونج، لا علاقة لها على الإطلاق بطبيعة علاقتها مع الحكومة المركزية. تجربة التنمية في هونج كونج تعود إلى ما قبل عودتها إلى الصين عام 1997 بعد أكثر من قرن ونصف القرن من الاحتلال البريطاني. الحقيقة الثانية، أن هذا الوضع الاستثنائي لهونج كونج هو وضع مؤقت، وجزء من مرحلة انتقالية. فقد نص الاتفاق الموقع بين الصين والمملكة المتحدة عام 1984 على استمرار هذا الوضع الاستثنائي لمدة 50 عاما، أي حتى عام 2047، لتصبح بعدها إقليما طبيعيا من أقاليم الدولة الصينية . صحيح قد تُمنح المدينة بعد هذا التاريخ وضعا خاصا جديدا، لكنه لن يكون وضعا مُؤَسِسا أو مُنْشِئا للتنمية بها بقدر ما سيعود إلى عوامل أخرى لا مجال هنا للتفصيل فيها.
بمعنى آخر، فإن التجربة التنموية في هونج كونج لا علاقة لها من قريب أو بعيد بطبيعة العلاقة مع الدولة الصينية ، ولم تتأسس هذه العلاقة الخاصة في إطار استراتيجية تنموية للمدينة. كما أن هذه العلاقة الاستثنائية تظل جزءا من مرحلة مؤقتة بموجب الاتفاق الخاص بإنهاء حالة الاحتلال البريطاني. بل إن أحد دوافع قبول الصين لهذه العلاقة الخاصة والمؤقتة هو إدراكها للفجوة التنموية في حينه بين المدينة وباقي الأقاليم الصينية، وليس كجزء من استراتيجية تنموية. وتجدر الإشارة هنا إلي أن النموذج التنموي الصيني نفسه يقوم على دولة مركزية قوية، وليس الدولة الفيدرالية، وذلك رغم حالة التعددية الدينية والقومية واللغوية الشديدة. ولم يحل هذا النموذج دون تركيز عملية التنمية على مدن أو مناطق معينة (المناطق الساحلية الشرقية)، كما لم يرتبط التركيز الراهن على تنمية أقاليم الوسط والغرب بأي مشروعات لإعادة النظر في طبيعة العلاقة بين الحكومة المركزية وهذه الأقاليم. تلك فقط بعض المغالطات التي يمكن استنتاجها من خلال تحليل دقيق للمفردات الخطيرة التي استخدمها نيوتن لتسويق طرحه، وأحسب أنه اختارها بعناية فائقة لتسويق مشروع سياسي أكثر منه مشروعا تنمويا.
*نقلا عن صحيفة “الأهرام”، نشر بتاريخ ٢٦ أبريل ٢٠٢٠.