للمرة الثالثة خلال ستة أشهر تنهمك الأحزاب والجماعات العراقية في صراعات ضارية من أجل تشكيل حكومة جديدة كي تحل محل حكومة “عادل عبدالمهدي” التي أسقطتها موجة الاحتجاجات الشعبية ضد الفساد وسوء الإدارة، والفشل في توفير الخدمات الأساسية، واتساع نطاق التدخلات الإيرانية في الشأن العراقي.
فعلى الرغم من أن القوى السياسية الشيعية التي تمتلك الأكثرية البرلمانية، والتي رشحت “مصطفى الكاظمي” لتشكيل الوزارة الجديدة بعد إخفاق اثنين من المكلفين قبله؛ تعهدت بأنها لن تتدخل في عمله، إلا أن تعثر المفاوضات بشأن إعلانها يعود بالدرجة الأولى إلى الخلافات حول حصص الفرقاء السياسيين في المناصب التي اعتادت تقاسمها في الحكومات السابقة.
تُشير معظم المعطيات المتوفرة بشأن المشاورات الجارية لتشكيل الحكومة السادسة منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، إلى إصرار الكتل السياسية المختلفة، والتي تُمثل المكوِّنات العراقية الأساسية؛ على الاستمرار بالعمل بالنهج السافر للمحاصصة الطائفية والعرقية الذي سنّته سلطة الاحتلال بعد إسقاطها نظام “صدام حسين”.
والواقع أن هذه المشكلة -تحديدًا- هي التي كانت سببًا وراء إخفاق كل من: محمد توفيق علاوي، وعدنان الزرفي، اللذين رُشّحا للمنصب قبل “الكاظمي” لكنهما اصطدما بحائط نظام المحاصصة الذي يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه هو السبب الرئيسي وراء استمرار المأزق السياسي في العراق خلال الأعوام السبعة عشر الماضية.
وإذ تنقسم فرص “الكاظمي” بين النجاح أو الإخفاق في تشكيل الحكومة بنسب متساوية، اعتمادًا على نتائج ماراثون المفاوضات التي تجري بين الكتل المختلفة، ومدى التنازلات التي سيقدمها لها من أجل تمرير وزارته في البرلمان العراقي؛ فإن الأمر لا يخلو من احتمالين: إما الفشل، ما يعني العودة إلى المربع رقم واحد قبل التكليف والأزمة التي سببتها استقالة “عبدالمهدي”، أو التوصل إلى اتّفاق وتشكيل حكومة على غرار الحكومات السابقة.
وفي حين أن احتمالات عدم تشكيل حكومة للمرة الثالثة ستنطوي على عدة سيناريوهات لأزمة ممتدة وخطيرة بسبب نفاد الحيل الدستورية التي تم اللجوء إليها إلى الآن لمنع انهيار كامل للعملية السياسية؛ فإن الصورة المتوقعة للحكومة القادمة، إذا ما تم تشكيلها، لن تكون مختلفة عن كل الحكومات التي سبقتها والتي كانت السبب وراء وصول العراق إلى مأزقه الحالي.
إنّ تشكيل أي حكومة -وفقًا للتوقعات السائدة- سيمكّن الجماعات السياسية الشيعية من الحصول على نحو 60% من مقاعد الوزارة الجديدة (محسوبًا على أساس تمثيل الشيعة السكاني)، في حين ستتقاسم الجماعات الكردية والسنية المقاعد الباقية، مع احتمال أن يُمنح ممثلو أقليات دينية وعرقية صغيرة ربما مقعدين لاستكمال الرتوش في صورة الحكومة التي ستُدعى حينئذ، كما هي العادة، بحكومة توافق وطني.
هذا على مستوى التوزيع العمودي الذي يأخذ بعين الاعتبار حجم الكتل الممثلة للطوائف والأعراق، وتوزيع كعكة السلطة عليها وفق الأعراف التي سنّتها مرحلة ما بعد “صدام”. لكن يبقى هناك التوزيع الأفقي الذي يتضمن تقاسمًا بينيًّا داخل كل جماعة، يمثل أيضًا الوزن السياسي النسبي للكتل المنضوية تحت ردائها، واتفاقًا حول نوعية الوزارات المصنفة ما بين سيادية وريعية بما تمثله من رمز أو مكانة سياسية، أو مصدر للأموال التي تدرها على شاغلي مناصبها.
وإذا ما وضعنا في عين الاعتبار أن هذه الحكومة هي بمثابة حكومة إنقاذ يحتاجها العراق للخروج من مأزقه الحالي، فإن السؤال الأول الذي سيراود الأذهان هو: هل سيكون بإمكان رئيس وزراء قادم من خارج الكتل السياسية المتنفذة وغير منتخب ولا يمتلك قاعدة برلمانية أن يقود حكومة سيشغل مقاعدها أعضاء تُعينهم الطبقة السياسية المتنفذة ويخدمون مصالحها ويأتمرون بأوامرها؟
وفي حين أن ذلك سيرتبط أيضًا بنوعية الوزراء الذين سيقدمهم “الكاظمي” من ناحية الخبرات والكفاءات والنزاهة؛ فإن السؤال الثاني هو: هل ستكون هذه الحكومة قادرة على تحمل مسئولية مواجهة حزمة من المشكلات المعقدة الناجمة عن سوء إدارة الحكومات السابقة، وعن الفساد الإداري والمالي المستشري، والعجز عن إنهاء الأوضاع الانتقالية، وتحقيق استقرار نهائي ومصالحة وطنية جامعة؟
هناك ستة تحديات كبرى تنتظر حكومة “الكاظمي”، والتي سيكون عليها معالجتها بشكل عاجل وحاسم وجذري.
على رأس هذه التحديات تأتي أزمة وباء كورونا وتبعاتها الصحية والاقتصادية التي أصابت قطاعات كبيرة من السكان، والتي من المتوقع أن تترك آثارًا جمة، خاصة في ضوء سوء إدارة الحكومة الحالية لها. وسوف تحتاج معالجة هذه المشكلة إلى سياسات وموارد وبنى تحتية لا يبدو أنها متوفرة في العراق الآن. غير أن تركها من دون علاج سيفاقم من المشكلات ذاتها، وينعكس على باقي التحديات.
التحدي الثاني، هو أزمة انهيار أسعار النفط التي من المتوقع أن تستمر خلال الفترة المقبلة، والتي سوف تعصف بالموارد المالية للدولة التي تعتمد أساسًا على الريع النفطي في تمويل ميزانياتها الاستثمارية والتشغيلية. وفي ظل التوقعات الحالية فإن استمرار انخفاض أسعار النفط سيحرم الخزينة العراقية من التمويل، والذي يمكن أن يصل بها إلى الإفلاس والعجز عن تسديد المرتبات والمعاشات التقاعدية، وهو ما سيزرع فتيلًا لثورة جياع إذا ما عجزت الدولة عن توفير موارد بديلة.
التحدي الثالث، هو أزمة تفشي السلاح بأيدي الميليشيات المسلحة وخارج نطاق الدولة وفي تحدٍّ لسلطتها وإرادتها، إضافةً إلى بوادر انشقاقات وتفكك ميليشيات الحشد الشعبي، والاحتمالات التي يمكن أن تنتج عن انقسامات على أسس الولاءات، سواء كانت للمرجعية الدينية أو السياسية، وما يترتب على ذلك من انفلات هذه القوى المسلحة وتمردها.
التحدي الرابع، هو استمرار الإرهاب الذي تمثله جيوب تنظيم “داعش”، والتي بدأت تعيد تنظيم صفوفها وتقوم بنشاطات، سواء كانت هجمات من الكر والفر تقوم بها على مراكز القوى الأمنية العراقية المنتشرة على تخوم المدن التي تم تحريرها سابقًا من التنظيم، أو من خلال عمليات نوعية من تفجيرات انتحارية وهجمات وعمليات اغتيال واختطاف داخل المدن.
التحدي الخامس، هو النفوذ الإيراني المتنامي في الشأن العراقي والذي يأخذ أبعادًا متنوعة وأنواعًا شتى من التدخلات السياسية، وبناء شبكات النفوذ، والتمدد الاقتصادي والثقافي والديني بكل ما أصبح يمثله من مخاطر على الأمن القومي العراقي، وعلى الهوية الوطنية العراقية، وعلى إدارة علاقات العراق بالعالم الخارجي، خاصة محيطه الإقليمي.
التحدي السادس، هو التوصل إلى حلول بشأن التواجد الأمريكي والأجنبي عمومًا في العراق، والذي أصبح على رأس أجندة العلاقات العراقية-الأمريكية، والذي من المقرر أن يتم بحثه على طاولة الحوار الاستراتيجي بين البلدين في شهر يونيو المقبل. إذ إن التوصل إلى قرار بشأن العلاقات المستقبلية بين بغداد وواشطن يمس قضايا جوهرية، ابتداءً من حماية الأمن القومي العراقي ضد التهديدات العديدة التي يتعرض لها، إلى مستقبل العلاقات مع الولايات المتحدة والغرب عمومًا والمنظمات الدولية التي لا يزال العراق بحاجة إليها في أمور شتى.
التحدي السابع، والأكبر، فإنه ربما الذي سيأتي من احتمال اندلاع الانتفاضة الجماهيرية في المدن الشيعية من جديد في ضوء استمرار النقمة الشعبية، واستمرار تواجد المتظاهرين في ساحات بعض المدن، ومنها ساحة التحرير في بغداد.
إن السبب المباشر للأزمة الحالية هو سقوط حكومة “عبدالمهدي” التي حمّلها المتظاهرون، إضافة إلى دوافع انفجارها، مسئولية قتل نحو ستمائة متظاهر منهم وجرح آلاف آخرين.
إن كل المؤشرات تبين أن الجماعات السياسية العراقية مارست في محاولة تشكيل الحكومة الجديدة نفس أساليبها القديمة بهدف الإبقاء على مصالحها، وترسيخ أهدافها الخاصة تحت ذريعة الدفاع عن وتأمين مصالح الطائفة أو الإثنية التي تدعي تمثيلها، وتغاضت عن القيام بأي عمل جدي لانتزاع فتيل الأزمات، ووضع أجندة حقيقية لمواجهة التحديات الوجودية التي يتعرض لها العراق.
لذا فإن السؤال الذي يواجه العراقيين، مثلما يواجه العالم، هو ليس إن كان بإمكان “الكاظمي” أن يشكل حكومة ويُنهي الأزمة السياسية الحالية، بل ما إذا كان بإمكان العراق أن يخرج من مأزقه الذي يدور في رحاه منذ عام 2003 حتى الآن. ولا تتوفر أية دلائل على أن أزمة العراق ذاته في طريقها إلى الحل، خاصة في ظل وصول العملية السياسية الحالية إلى طريق مسدود، واستمرار غياب مشروع وطني عراقي مستقل وجامع.