تسببت جائحة كورونا، وما تبعها من تداعيات، في تحول العنف المنزلي الموجه نحو النساء إلى جائحة أخرى تحدث في الظل. فمنذ بداية اتخاذ قرارات الحظر والإغلاق أُثيرت العديد من المخاوف حول تصاعد العنف الجسدي والنفسي ضد النساء، وهو ما رصدته الأمم المتحدة بالفعل، ودفع الأمين العام للأمم المتحدة للخروج في بيان مصور دعا فيه الحكومات والدول إلى حماية النساء والفتيات من العنف الأسري، ونوه إلى أنه: “على مدى الأسابيع الماضية، ومع تزايد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية وتنامي المخاوف، شهدنا طفرة عالميّة مروعة في العنف المنزلي”. ومن جهته أصدر البرلمان الأوروبي بيانًا صحفيًا قال فيه: “لن نترك نساء أوروبا بمفردهن”، وطالب الدول الأعضاء بزيادة الدعم لضحايا العنف المنزلي أثناء الوباء. وبدورها، طالبت منظمة الصحة العالمية بإجراءات للحد من “العنف الأسري” نتيجة البقاء في المنازل، على خلفية انتشار فيروس كورونا المستجد. وقال المدير العام لمنظمة الصحة العالمية “تيدروس أدهانوم غبريسوس”، إن المنظمة تلقت تقارير من عدة دول وحكومات تؤكد تزايد حالات “العنف الأسري” مع استمرار بقاء جميع الأشخاص في المنازل منذ تفشي فيروس كورونا، معربًا عن حزنه بسبب تلك التقارير.
وقد أطلق خبراء الأمم المتحدة مصطلح “جائحة الظل” Shadow pandemic، على العنف الموجه نحو النساء. وتعود تلك التسمية ليس فقط بالنظر إلى العنف ضد النساء بوصفه وباء منتشرًا وراء جدران المنازل، بل إن نقص الإبلاغ عن الانتهاكات التي تُرتكب ضد النساء جعل البيانات المتاحة لا تعكس الواقع. والحقيقة، فإن أقل من ٤٠٪ فقط من النساء اللواتي يتعرضن للعنف المنزلي يلجأن إلى الإبلاغ وطلب المساعدة، وأقل من ١٠٪ منهن يلجأن إلى أقسام الشرطة. ومع ظروف الحظر والإغلاق والقيود المفروضة على تحركات شريحة واسعة من النساء، والتي تحول دون وصولهن إلى الهواتف وخطوط الدعم والمساعدة؛ يصبح الأمر أكثر صعوبة.[1]
مؤشرات مقلقة
كان العنف المتصاعد ضد النساء أحد أبرز مصادر القلق من قبل العديد من المنظمات الدولية والحقوقية، وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة؛ فقد أبلغت واحدة من كل خمس نساء أنها قد سبق أن تعرضت للعنف الجنسي أو البدني من قبل شريكها خلال عام 2019. وقد تم تسجيل ٨٧ ألف حالة قتل عمد لنساء معظمها على يد الشريك أو أحد أفراد الأسرة في عام ٢٠١٧. ويقدر عدد النساء والفتيات اللواتي تتراوح أعمارهن بين ١٨ إلى ٤٩ عامًا ممن تعرضن لعنف جنسي أو جسدي ارتكبه الشريك في الاثني عشر شهرًا الماضية بحوالي ٢٤٣ مليون سيدة وفتاة. وترجح الأمم المتحدة أن العدد في اتجاهه نحو الزيادة مع تزايد التوتر الناجم عن القلق الذي سببته المخاوف المتعلقة بالمال والصحة والأمن نتيجة انتشار فيروس كورونا[2].
ومنذ بداية تفشي فيروس (كوفيد-١٩)، حذر الخبراء من زيادة العنف ضد النساء والأطفال. ففي مقاطعة جيانلي بالصين، على سبيل المثال، أفادت محطة الشرطة المحلية بتلقيها ١٦٢ تقريرًا عن عنف الشريك في فبراير ٢٠٢٠، وهو ما يمثل ثلاثة أضعاف ما تم الإبلاغ عنه في فبراير 2019.[3] وفي جنوب إفريقيا تم الإبلاغ عن ٨٧٠٠٠ شكوى إلى خدمات شرطة جنوب إفريقيا (SAPS) خلال الأسبوع الأول من الإغلاق. ووفقًا لبيانات الأمم المتحدة، ارتفع العنف المنزلي في فرنسا بنسبة ٣٠٪ منذ الإغلاق في ١٧ مارس الماضي. وفي قبرص وسنغافورة رصدت خطوط المساعدة زيادة في المكالمات بنسبة ٣٠٪، و٣٣٪. وفي إسبانيا، خلال الأسبوعين الأولين من الإغلاق زادت نسبة المكالمات التي يتلقاها رقم الطوارئ للعنف المنزلي بنسبة ١٨٪. كما ذكر موقع “إن بي سي نيوز” NBC News أن وكالات إنفاذ القانون في جميع أنحاء الولايات المتحدة شهدت ارتفاعًا في حالات العنف المنزلي بنسبة تصل إلى ٣٥٪ في الأسابيع الأخيرة.
من جهة أخرى، قالت الحكومة الأسترالية إن جوجل سجلت أكبر عدد من عمليات البحث عن طلب المساعدة نتيجة العنف المنزلي نتيجة فيروس كورونا مقارنة بالسنوات الخمس الماضية. وذكر تقرير صادر عن مجموعة العمل المعنية بالنوع الاجتماعي وفيروس (كوفيد-١٩) في أستراليا أن ٤٠٪ من العاملين في الخطوط الأمامية للدعم أبلغوا عن زيادة في طلبات المساعدة، بينما أشار ٧٠٪ إلى زيادة في مدى تعقد الحالات.
وفي العالم العربي، صرحت قوى الأمن الداخلي في لبنان بأن الخط الساخن المخصص لتلقي شكاوى العنف الأسري شهد ارتفاعًا في عدد الاتصالات التي وصلته بنسبة مائة في المائة في شهر مارس من العام الحالي، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. وأشارت “حياة مرشاد”، مسئولة الحملات والتواصل في التجمع النسائي الديمقراطي اللبناني، إلى ارتفاع نسبة بلاغات العنف الواردة للخط الساخن للتجمع خلال شهر مارس بنسبة ١٨٠٪ مقارنة بالشهرين السابقين. وفي تونس، وجهت وزيرة شئون المرأة التونسية “أسماء شيري”، إنذارًا بشأن تصاعد العنف الأسري نتيجة جهود الحكومة للحد من جائحة فيروس كورونا، فبعد أن فرضت تونس حظر التجول في منتصف مارس، ارتفع عدد حالات العنف المنزلي خمسة أضعاف[4].
كيف ساهم فيروس كورونا في زيادة العنف المنزلي ضد النساء؟
هناك علاقة بين الأزمات والعنف ضد المرأة بشكل عام تناولتها العديد من الدراسات والمسوح، فقد أكدت اللجنة المعنية بالقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة على إثر الأزمات زيادة معدلات العنف المجتمعي والمنزلي ضد المرأة، وفي ظل ما تم ذكره من تصاعد في معدلات العنف الموجه ضد النساء في العديد من دول العالم، يمكننا إجمالًا هنا الحديث عن عدة مداخل ساهم من خلالها فيروس كورونا في زيادة العنف ضد النساء.
1- تزايد العنف ضد المرأة في أوقات الأزمات: يتزايد العنف ضد النساء في أوقات الأزمات الاقتصادية وما يترتب عليها من تبعات وشعور بانعدام الأمن الاقتصادي، وهي العلاقة التي بدت بوضوح خلال الأزمة المالية العالمية في عام ٢٠٠٩ والكوارث الطبيعية مثل زلزال كرايستشيرش. فقد كشف مسح أُجري في مايو ٢٠٠٩، وتضمن أكثر من ٦٠٠ ملجأ للعنف المنزلي في الولايات المتحدة، أن ٧٥٪ أبلغوا عن زيادة في النساء اللواتي يطلبن المساعدة منذ سبتمبر ٢٠٠٨، أي تزامنًا مع بداية الشعور بالانكماش الاقتصادي.[5] وخلال الانهيار المالي في اليونان، أبلغت الشرطة اليونانية عن زيادة بنسبة ٥٣.٩٪ في العنف العائلي في عام ٢٠١١.
وعندما قامت عالمة الاجتماع “كلير رينزيتي” وزملاؤها بإعادة تحليل لنتائج الأبحاث التي أُجريت في الولايات المتحدة، وجدوا دليلًا على وجود علاقة بين الضغط الاقتصادي والإيذاء المنزلي. وفي الوقت الراهن يتزايد العنف المنزلي تزامنًا مع سياسات الإغلاق والحجر الصحي، وما يترتب عليه من تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للعديد من الأسر. لقد أدى الوباء إلى تباطؤ عالمي، وتفكك اقتصادي هائل، وإغلاق العديد من المشروعات والأعمال التجارية، مما جعل شبح البطالة يخيم على أعداد هائلة من البشر، وهو ما سينعكس بصورة حتمية في تزايد معدلات العنف داخل المنزل، وخاصة العنف الموجه ضد النساء.
2- التوترات والضغوط النفسية: لا شك أن ما سبق ذكره من ضغوط اقتصادية بالإضافة إلى المخاوف المتزامنة من المرض ومن الفقر وغيرها ترتبط باستراتيجيات التأقلم السيئة، مثل: تعاطي المخدرات، والعنف، وسوء المعاملة، بالإضافة إلى الرغبة في التحول نحو البحث عن مصدر قوة وسلطة بديلة. يبدو كل هذا بوضوح لدى الشركاء العنيفين تحديدًا، والذين يُهيئ لهم الوباء بيئة خصبة لممارسة العنف.
3- الحظر: تشير العديد من المؤشرات إلى أن العنف المنزلي يزداد خلال التجمعات العائلية، حتى خلال المناسبات السعيدة والاحتفالات، مثل الأعياد والعطلات. وقد أكدت العديد من المؤشرات ارتفاع معدلات العنف ضد المرأة عندما يكون أفراد الأسرة مجتمعين في ظل ظروف إرغامية لفترة طويلة من الزمن. وبالتالي، من غير المتوقع أن يؤدي الحظر الناجم عن وباء كورونا المستجد إلى نتائج مختلفة؛ بل إن العديد من الباحثين يرجحون أن الإغلاق يمثل بيئة مهيِّئة لممارسة ما أطلقوا عليه اسم “الإرهاب الحميم”. كما صرحت وزيرة العدل الفرنسية “مارلين شيابا” بأن “الحظر هو أرض خصبة للعنف المنزلي”.
4- التباعد الاجتماعي وصعوبة تلقي الدعم: في ظل ما فرضته الإجراءات الاحترازية للحد من تفشي وباء كورونا من تباعد اجتماعي، أصبحت القدرة على طلب وتلقي الدعم مقيدة، وأصبح لزامًا على النساء التواجد مع أزواج أو أفراد أسرة مسيئين لفترات طويلة، مع عدم القدرة على تلقي الدعم النفسي من الأصدقاء أو الأقرباء أو المؤسسات المعنية. وقد أشار الأمين العام للأمم المتحدة إلى أنه مع زيادة الموارد للتعامل مع الفيروس، تم تقليص الخدمات المقدمة لضحايا العنف. ومع انشغال الدول بمواجهة الوباء أصبحت المنظومة الصحية والأمنية وملاجئ الإيواء منشغلة بالتصدي للوباء وتبعاته، ومن هنا أصبح من الصعب على النساء اللجوء لطلب الدعم الرسمي أو الشخصي في حال تعرضهن للإساءة.
تحركات دولية عاجلة
عندما ألقى الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريس” بيانه حول تصاعد العنف الموجه ضد النساء في ظل انتشار وباء كورونا دعا الحكومات إلى “وضع سلامة المرأة أولًا عندما تستجيب للوباء”، وحث “غوتيريس” جميع الحكومات على “جعل منع العنف ضدّ المرأة وجبر الضرر الواقع من جرّاء هذا العنف جزءًا رئيسيًا من خططها الوطنيّة للتصدّي لكوفيد-١٩”. كما دعا “غوتيريس” النظم القضائية إلى مواصلة “مقاضاة المعتدين”، وطالب بشكل خاص بـ”إنشاء أنظمة إنذار طارئة في الصيدليات ومحلات البقالة”، وهي الأماكن الوحيدة التي تزال مفتوحة في بلدان كثيرة، مشددًا على ضرورة “تهيئة سبل آمنة للنساء لالتماس الدعم، دون أن يتنبه المعتدون”. كما حث “غوتيريس” الحكومات على “زيادة الاستثمار في الخدمات الإلكترونية ومنظمات المجتمع المدني”، والتعامل مع الملاجئ الخاصة بإيواء النساء المعنفات بوصفها خدمة أساسية يتم استمرار تقديمها والإعلان عنها.
وقد اتجهت العديد من الحكومات، بجانب العديد من منظمات المجتمع المدني، إلى العمل بمشورة الأمين العام للأمم المتحدة. فقد افتتحت كندا ملاجئ للهاربات من العنف المنزلي، بجانب تخصيص 50 مليون دولار لدعم ملاجئ ضحايا العنف المنزلي والعنف القائم على النوع. وخصصت المملكة المتحدة وفرنسا وأستراليا تمويلًا للمنظمات التي تقدم الخدمات. كما تكفلت الحكومة الفرنسية بتكلفة السكن المؤقت للناجيات في غرف الفنادق الفارغة، ووضعت نظامًا يسمح للنساء بالإبلاغ عن الإساءات من خلال الصيدليات. كما أعلنت الحكومة الفرنسية مؤخرًا أنها خصصت غرفًا فندقية لضحايا العنف المنزلي، وأنشأت مراكز استشارية في مراكز التسوق. ووضعت إسبانيا تدابير مماثلة.
بدورها، أعلنت الحكومة الكندية عن حزمة مساعدات بقيمة ٨٢ مليار دولار في ١٨ مارس الماضي، والتي تضمنت تمويلًا بمبلغ 50 مليون دولار لملاجئ العنف القائم على النوع الاجتماعي ومراكز الاعتداء الجنسي، ودعم المنظمات غير الحكومية النسائية والملاجئ ومراكز مناهضة الاعتداء الجنسي في جميع أنحاء كندا. وفي مارس خصصت الحكومة الأسترالية 100 مليون دولار إضافية لمعالجة هذه القضية[6].
آليات الحد والمواجهة والدعم
إن ما تم رصده من تصاعد هائل في تقارير العنف الموجه ضد النساء والفتيات، أظهر أن وباء كورونا لا يمكن التعامل معه على أنه أزمة منفصلة عن القضايا الاجتماعية، أو الاقتصادية، أو السياسية، وأن التصدي للعنف الناجم عن الوباء يجب أن يكون جزءًا أصيلًا من استراتيجيات المواجهة. وفي هذا الصدد، يمكن صياغة عددٍ من الآليات التي قد تساهم في الحد من العنف ضد النساء في ظل هذه الظروف، ويمكن إجمالها فيما يلي:
1- الوقاية والاستباقية: يجب ألا تقتصر إجراءات التصدي للعنف ضد النساء على رد الفعل الإيجابي حيال العنف عقب حدوثه، وإنما ينبغي أن يتم اتخاذ العديد من الإجراءات الاستباقية التي تحول دون حدوثه، وذلك من خلال توسيع شبكات الأمان الاجتماعي وتعزيزها بما في ذلك الإجازات المرضية المدفوعة، والتأمين ضد البطالة، والمدفوعات النقدية المباشرة أو قسائم الطعام، وغيرها من تدابير تمكن النساء المعنفات من عدم الاضطرار إلى الاعتماد على شريك مسيء من أجل البقاء.
2- تعزيز سبل الاستجابة والإبلاغ: يجب اعتبار الملاجئ وخطوط المساعدة للنساء خدمة أساسية وبذل جهود واسعة لزيادة الوعي حول توفرها، وابتكار سبل جديدة ومبتكرة للإبلاغ، ليس فقط من خلال الصيدليات والخطوط الساخنة، بل ومن خلال جميع وسائل الاتصال التي قد تستطيع النساء المعنفات الوصول إليها من خلال العمل على زيادة الاعتماد على الإنترنت في تقديم الاستشارات والدعم النفسي، واستخدام الحلول القائمة على خدمة الرسائل القصيرة، وتوسيع شبكات الدعم للوصول إلى النساء اللواتي لن يتمكّن من الوصول إلى خطوط الهواتف أو الإنترنت.
3- رفع الوعي المجتمعي والمؤسسي: من خلال حملات تدريب وتوعية، تتضمن مختلف الفئات المعنية، ومن ضمنها دوائر الشرطة والعدالة، لضمان إعطاء حوادث العنف ضد النساء والفتيات أولوية في الاهتمام. أيضًا يلعب القطاع الخاص دورًا هامًّا. ومن هنا تصبح التوعية بحقائق وأخطار العنف المنزلي خطوة مهمة، بالإضافة إلى تشجيع الخطوات والمبادرات الإيجابية.
يجب أيضًا التأكد من دمج العنف ضد المرأة في استجابة الأنظمة الصحية، من خلال تدريب مقدمي الرعاية الصحية على تحديد النساء والأطفال المعرضين لخطر العنف، وتقديم الدعم. بموازاة ذلك، يجب أن تضع النظم الصحية تدابير حماية للعاملات الصحيات للتخفيف من مخاطر التحرش الجنسي والعنف.
المصادر:
[1] https://www.unwomen.org/en/news/stories/2020/4/statement-ed-phumzile-violence-against-women-during-pandemic
[2] https://www.unwomen.org/-/media/headquarters/attachments/sections/library/publications/2020/issue-brief-covid-19-and-ending-violence-against-women-and-girls-infographic-en.pdf?la=en&vs=5348
[3] https://www.cgdev.org/blog/gender-lens-covid-19-pandemics-and-violence-against-women-and-children
[4] https://www.dw.com/en/coronavirus-fuels-domestic-violence-in-the-middle-east/a-52991848
[5] https://www.awid.org/sites/default/files/atoms/files/icw_trendsregions.pdf
[6] https://en.qantara.de/content/covid-19-pandemic-coronavirus-breeds-domestic-violence-in-turkey